طوفان الأقصى وتهاوي "أعمدة إسرائيل".. من يغادر أولاً؟

منذ إنشائه، لم يكن كيان الاحتلال الإسرائيلي إلا تجمعاً بشرياً هجيناً تعصف به المشاكل، وتكثر التباينات بين مكوناته التي استجلبت من أصقاع الأرض، بلا رابط حقيقي بينها، وحتى رابط الدين الذي قامت على أساسه لم يكن أكثر من واجهة لتبرير زرع قاعدة عسكرية متقدمة للغرب الاستعماري في بقعة لم يعد قادراً على الوجود فيها بشكل صريح.

  • "من يغادر أولاً؟".. كيف فضح "طوفان الأقصى" التباينات في المجتمع الإسرائيلي الهجين؟

قد يظهر لمن يتابع الأحداث منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، أنّ ملحمة "طوفان الأقصى"، "خلقت" الكثير من المشاكل الداخلية في "إسرائيل"، وقد يرى آخرون أنّها "كشفت" عن مشاكل موجودة أصلاً في الكيان. ولعل التوصيف الأكثر دقةً هو أن المشاكل موجودة فعلاً، وغير خافية في الوقت نفسه، ولكن ما فعله الطوفان هو إذكاء نارها وتحويلها إلى تهديد حقيقي لمستقبل الكيان.

"نموت ولا نتجنّد": "الخدمة الإلزامية" إلى الواجهة مجدداً.. والفرار هو الحل

تهديد الحاخام الأكبر لـ"السفارديم" في كيان الاحتلال، يتسحاق يوسف، في تصريحٍ له، السبت، بـ"السفر إلى الخارج في حال إلزامهم بالتجنيد"، أثار ضجةً كبيرةً داخل الكيان. يوسف، قال على خلفية مناقشة قانون التجنيد: "قبيلة ليفي معفاة من الجيش، ولن يتم أخذها تحت أي ظرف من الظروف، إذا أجبرونا على الذهاب إلى الجيش فسوف نشتري التذاكر ونسافر جميعاً إلى الخارج".

وتجدر الإشارة إلى أنّ "قبيلة ليفي" تُنسَب إلى "لاوي"، الإبن الثالث للنبي يعقوب، وهي مكلفة بواجبات دينية معينة من قبيل سِدانة المعابد، ولها أيضاً مسؤوليات سياسية وتعليمية، وهي معفاةٌ، بحكم ذلك، من التجنيد الإلزامي.

وأعاد يوسف الكلام عن ربط النجاحات العسكرية بفهم التوراة، والالتزام بها. ورداً على الاتهامات بالتهرب من المشاركة في تحمل الأعباء، اعتبر أن من وصفهم بـ "العلمانيين" هم من يتهرّب من التزام يهوديّ عمره 3000 عام، قاصداً بذلك دراسة التوراة، ليخلص إلى أنّ الكلام عن المساواة في تحمل الأعباء كلام فارغ وأكاذيب، لأنّ "المتشددين" لا يحملون العبء فقط، بل يحملونه وحدهم!  

تصريحات يوسف خلفت ردود فعل معترضة، بحيث قال رئيس المعارضة الإسرائيلية، يائير لابيد، إن "كلمات الحاخام وصمة عار وإهانة للجنود الذين يخاطرون بحياتهم من أجل حماية إسرائيل. الحاخام هو موظف، يتقاضى راتباً من الحكومة، ولا يستطيع أن يهددها"، مضيفاً: "لن يحصل على فلس واحد من إسرائيل". بينما كتب رئيس حزب "إسرائيل بيتنا"، أفيغدور ليبرمان: "من دون واجبات لا توجد حقوق. من العار أن يواصل الحاخام، ورجال الأعمال المتطرفون، الإضرار بأمن إسرائيل".

بدورها، حركة "أمهات في الجبهة" نفت التعارض بين تعلم التوراة والالتحاق بـ"الجيش"، مستشهدة بعبارة مأخوذة من التوراة "إخوتكم يذهبون إلى الحرب وأنتم تجلسون هنا؟"، لتخلص إلى أنّه "لا يخشى التجنيد إلا من ضعف إيمانه". وقالت منظمة "إخوة السلاح" الإسرائيلية: "بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لا مكان لنا ولهم في إسرائيل، وما كان لن يكون. انتهت 75 عاماً من عدم المساواة. لن نسمح بعد الآن بالتمييز بين الدم والدم".

للوهلة الأولى، يبدو أن كلام يوسف لا يحمل جديداً يستحق إثارة هذه الزوبعة من المواقف حوله، فهو يكاد يكون مستنسخاً عن كلام والده زعيم حزب "شاس"، عوفاديا يوسف، الذي أطلق تهديداً مماثلاً في عام 2013، حين قال إنّ "خطراً شديداً يحوم فوقنا، إنّه تجنيد المدارس الدينية"، مضيفاً: "إننا في حزن وخطر عظيمين، احفظوا أبناءكم، احفظوا أبناء أبنائكم الذين سيشتغلون بالتوراة. مهما كان الأمر، فسوف يخرج عن أيدينا، سيتعين علينا مغادرة إسرائيل بأمان، والسفر إلى الخارج".

ولكن الفارق يكمن في مدى جدية النقاش هذه المرة، حول إلزام "الحريديم" بالتجنيد، وارتفاع الأصوات المطالبة بذلك داخل الكيان، واتساع دائرتها، في ظل الكلفة المرتفعة التي تدفعها جميع الفئات داخل الكيان منذ بدء "طوفان الأقصى". وبطبيعة الحال، يسوء هذه الفئات إعفاء فئة بعينها من دفعها، في ظل إدراك أغلبية الإسرائيليين، إن لم يكن جميعهم، في وعيهم أو لا وعيهم، أنهم لا يدافعون عن قضية وأرض وهوية كما هو حال أعدائهم، أصحاب الأرض الحقيقيين، بل عن مصالح فردية وجماعية لا تستحق الموت من أجلها على أي حال.

التوقيت إذاً هو ما يصنع الفارق في الأهمية، حيث يتزامن هذا النقاش مع المعارك المستمرة التي يخوضها الاحتلال منذ أكثر من خمسة أشهر في جبهتين، في قطاع غزة، وفي شمالي فلسطين المحتلة، ويتكبّد فيهما خسائر قاسية بصورةٍ يومية، مع اهتزاز واضح في جبهته الداخلية، وخلافات حادة بين قادته السياسيين، وتعرض عدد كبير من جنوده لأزمات نفسية، وفقاً لما ينقله الإعلام الإسرائيلي.

هذه المعطيات، تفسر حدّة احتجاج "الحريديم" التي فاقت أي وقت مضى، بعد إبلاغ المستشار القانوني لحكومة الاحتلال، المحكمة العليا، أنه لن يكون هناك أساس لتجنب تجنيدهم، حيث قطعوا الطرقات، ورفعوا لافتات كتب عليها "نموت ولا نتجنّد"، ودخلوا في مواجهات عنيفة مع الشرطة الإسرائيلية.

وفي ظل التأثير الواسع للحريديم في السياسة والمجتمع، داخل كيانٍ أُنشِئَ في الأساس تحت عنوان ديني، ولو على سبيل التضليل والدعاية، يكتسب تهديد هؤلاء بمغادرة الكيان أهمية استثنائية لا ترتبط بأعدادهم، إلى حد يصحّ معه اعتبار هذا التهديد مسماراً في نعش كيان الاحتلال.

كذبة "المساواة" و"المجتمع الواحد": الأثرياء يغادرون أولاً!

إذا كانت مغادرة "الحريديم" وسواهم ممن يوصفون بـ "المتدينين"، كياناً تم تقديمه منذ البداية كـ"دولة يهودية"، هو الخطر الوجودي الأعظم لهذا الكيان، فإنّ المرتبة الثانية محجوزة حتماً للأثرياء والصناعيين والمستثمرين ممن يملكون جنسيات أخرى، أوروبية في الغالب، والذين يشكلون عموداً أساسياً من أعمدة الكيان، ولعل هذا هو حال تلك الفئة ودورها في أي مجتمع أو دولة طبيعية، ولكنه دور يغدو أكثر تمظهراً في كيان الاحتلال على وجه التحديد.

مع الأيام الأولى من "طوفان الأقصى"،  غصّ مطار "بن غوريون" الإسرائيلي، بالمستوطنين الذين يحاولون مغادرة الأراضي المحتلة، ووصلت طوابير الانتظار عند شباك المغادرة إلى مئات الأمتار، بعد أن زرع الطوفان الرعب في قلوب "المستوطنين" وأظهر لهم عجز الكيان الإسرائيلي و"جيشه" عن حمايتهم، وكان من البديهي أن يكون الأكثر خوفاً واستعجالاً للمغادرة الشريحة التي تملك – أكثر من غيرها - ما يمكن أن تخسره.

لم تتأخر المعطيات التي تؤكد هذه الحقيقة البديهية، بالإعلان عن نفسها، بالأرقام: 370 ألف مستوطن غادروا الكيان بين 7 تشرين الأول/أكتوبر ونهاية تشرين الثاني /نوفمبر، بحسب ما أعلنته سلطة الهجرة والسكان التابعة لوزارة الداخلية في كيان الاحتلال، وفي مطلع شهر كانون الأول/ديسمبر أعلن موقع "زمان يسرائيل" وصول العدد إلى 500 ألف. وقد صرح كثير من هؤلاء علناً وفي وقت مبكر، بعد مغادرتهم مباشرةً، عن نيتهم عدم العودة مجدداً بمعزل عن نتائج الحرب.

بموازاة ذلك، سلطت تقارير صحافية أوروبية الضوء على إقبال الإسرائيليين الفارين على شراء العقارات والمنازل في عدة دول أوروبية لتكون ملجئاً لهم، منها البرتغال واليونان واسبانيا وقبرص. وتحدثت هذه التقارير عن نسبة 20% من العائلات الإسرائيلية مهتمة بشراء شقق سكنية في أوروبا. ومعلوم أن شراء العقارات والمنازل في هذه الدول يستوجب إمكانات مادية معينة لا تتوفر لجميع المستوطنين، وهو ما يعني أن النسبة المذكورة ليست عشوائية، وأن الأثرياء والاقتصاديين هم في طليعة المغادرين بلا نية وأمل بالعودة، وأن المجتمع الإسرائيلي الهش يزداد هشاشةً.

إسراع هذه الفئة قبل غيرها للمغادرة، مفهوم تماماً، بعد أن كشف "طوفان الأقصى" لأفرادها، أنّ الاقتصاد المركب للكيان قائم بشكل أساسي على الدعم المالي اللامحدود من الخارج، من "التعويضات" الألمانية إلى المساعدات الأميركية، ما جعل الكيان يتعرّض لزلزال اقتصادي طال كل القطاعات والأصعدة عند أوّل امتحان حقيقي، وأنه من الصعوبة بمكان أن يتعافى الاقتصاد الإسرائيلي مجدداً ويعود إلى سابق عهده بدون تدخل خارجي.

خلاصة إضافية يمكن تسجيلها على هامش هذه الوقائع، هي افتضاح أكذوبة أخرى من الأكاذيب الكثيرة التي بني عليها هذا الكيان، وجرى اجترارها طويلاً، ضمن الدعاية الإسرائيلية، وهي "المساواة" داخل كيان الاحتلال في الحقوق والواجبات بوصفه "مجتمعاً واحداً ومتضامناً".

وهم "الحماية" يتبدّد: "إسرائيل" تقتل مستوطنيها..

إذا كانت الامتيازات الاستثنائية من قبيل الإعفاء من الخدمة العسكرية الإلزامية، وسيلةً لإغراء من يوصفون بـ"المتدينين" للقدوم إلى الكيان، ومن ثم إقناعهم بالبقاء فيه، في مرحلة لاحقة، وإذا كانت المكاسب المادية المتوقعة مع اقتصاد مستقر نوعاً ما، قد تكفلت بإغراء الأثرياء والمستثمرين من اليهود في شتى أصقاع العالم، وجذبهم، فإنّ وهم الحماية والأمن كان سبباً في اجتذاب الشريحة الأكبر من المستوطنين العاديين، وبقائها في الكيان طوال عقود مضت.

هذا الوهم أطاحت به عملية "طوفان الأقصى"، حين عادت مساحات واسعة من فلسطين إلى أهلها في ساعات معدودة، واستفاق المستوطنون في السابع من تشرين الأول/أكتوبر على كابوسهم الفلسطيني منتصباً فوق رؤوسهم. ومع استمرار المعركة للشهر السادس على التوالي، ودخول جبهات الإسناد على خطها بشكل فعّال، يمكن القول إنّ هذا الوهم تبدّد تماماً.

عجزت "إسرائيل" عن حماية مستوطنيها في الشمال والجنوب، فزحفوا بالآلاف إلى الوسط طلباً للأمن، وهم يدركون مدى قدرة قوى المقاومة مجتمعة على استهداف كامل الأراضي المحتلة، ويعرفون أن لا أمان لهم في أي بقعة من فلسطين المحتلة إذا ما تدحرجت الأمور نحو حرب مفتوحة وشاملة.

ولكن المفارقة الأبرز في هذا السياق، ليست في عجز "إسرائيل" عن حماية مستوطنيها، أو حتى في امتناعها عن بذل الجهد الكافي لذلك، بل في قتلها إياهم عمداً، وهو ما أكده الناطق باسم كتائب الشهيد عزالدين القسام، أبو عبيدة، بإعلانه تعمّد جيش الاحتلال إعدام الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة، عبر استهداف الأماكن التي يتواجدون فيها، في محاولةٍ يائسة للتخلص من ملف التفاوض الذي يشكل عبئاً ثقيلاً يضغط على حكومة نتنياهو.

بهذا المعنى تكون "طوفان الأقصى" قد قضت تماماً على كذبة أخرى من سلسلة الأكاذيب الإسرائيلية، لا تتعلق فقط بضمان الأمن، بل بتوفيره لكل شرائح المستوطنين مهما اختلف مكان إقامتهم.

تهاوي الأعمدة.. مقدمة للسقوط المحتّم

ما فعلته "طوفان الأقصى" هو أبعد من تحقيق إنجازات عسكرية غير مسبوقة في تاريخ الصراع مع "إسرائيل"، وتقييمه لا يفترض أن يقتصر على تعداد قتلى الاحتلال وجرحاه وأسراه، على أهمية هذه الأرقام وعظم تأثيرها.

"طوفان الأقصى" دكت ثلاثة أعمدة أساسية قام عليها الكيان بشكل أساسي، هي كذبة "الحصن الآمن" الذي يوفر الحماية لليهود القادمين إليه من مختلف أنحاء العالم، وكذبة "الجنة الاقتصادية" التي تشكل قطعة من الغرب "المتحضر" و"الثري" والمتقدم تكنولوجياً، في قلب الشرق، وكذبة "الدولة اليهودية القابلة للحياة" رغم قيامها على أساس ديني.

وضعت "طوفان الأقصى" كيان الاحتلال على طريق الزوال. هذه الخلاصة التي باتت أقرب إلى مسلمة عند الإسرائيليين أنفسهم، قبل غيرهم، لا يغير فيها شيئاً توقف الحرب في أي لحظة، فمفاعيل الطوفان بدأت مع انطلاقه، ولكنها، حتماً، لن تتوقف بتوقفه.

وإن كان استمرار الحرب مع احتمال توسعها يبقى الهاجس الأكبر الذي يؤرق "إسرائيل" ويفاقم كابوسها الوجودي، لكن التوصيف الأدق هو أنّ الطوفان الذي سيجرف "إسرائيل" لن يتوقف بتوقف إطلاق النار، لأن التصدعات الكثيرة التي لحقت بأسسها الوجودية كفيلة بتأكيد انهيارها.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.