زوار "تل أبيب" الأميركيون: الإسرائيليون كئيبون ومحبطون ومتشائمون من مستقبلهم
كانت الصورة التي خرجت بها "مجموعة التبادل الأكاديمي" قاتمة بالنسبة إلى "إسرائيل" وتنذر بالأسوأ، إلى حدّ أنهم لم يروا الإسرائيليين كئيبين أبداً كما هم الآن.
يعيش مجتمع الاحتلال الإسرائيلي حالياً أياماً سوداء بكل ما للكلمة من معنى. وبعيداً من تبجحات وعنتريات قادته في المؤسستين الأمنية والسياسية، والتي تظهر وجود رغبة كبير لديهم باستمرار الحرب، فإن الحقيقة على أرض الواقع مغايرة ومختلفة تماماً.
مع دخول حرب الإبادة على غزة شهرها التاسع، تبدو الأوضاع الداخلية في الكيان محبطة وتنذر بالخطر على مستقبله، كما أن دائرة التذمر من الخسائر البشرية والمادية أصبحت تكبر يوماً بعد يوم.
الكلام هنا ليس مبنياً على تحليل لمقال صحافي أو تصريح لمسؤول إسرائيلي معارض لنتنياهو، بل لمجموعة من الصحافيين والباحثين الأميركيين الذين زاروا "إسرائيل" مؤخراً (وكانوا يترددون إليها باستمرار منذ ربع قرن)، في رحلة نظمتها مجموعة "التبادل الأكاديمي" الأميركي غير الحزبية.
يذكر أن أعضاء المجموعة جلّهم من المؤيدين والداعمين للاحتلال، حتى إن مقاربتهم للوقائع والأحداث كانت بعيون صهيونية انتقائية، بعدما عمدوا إلى التشبيه بين ما سموه "الصدمتين الوطنيتين الكبيرتين" اللتين شهدتهما الولايات المتحدة، واللتين يفصل بينهما عقدان من الزمن: أي أزمة الرهائن الإيرانيين في الفترة 1979-1981، وهجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، وبين النكبة التي منيت بها "تل أبيب" في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" التي أدت إلى مقتل 1200 إسرائيلي وأسر نحو 250 آخرين. وقد عدّت، في نظرهم، "أسوأ كارثة حلت بالشعب اليهودي" منذ ما يسمى بـ"المحرقة".
كيف بدت "إسرائيل" بعيون زوارها الأميركيين؟
في الواقع، كانت الصورة التي خرجت بها "مجموعة التبادل الأكاديمي" قاتمة بالنسبة إلى "إسرائيل" وتنذر بالأسوأ، إلى حدّ أنهم لم يروا الإسرائيليين كئيبين أبداً كما هم الآن، ولا حتى خلال الانتفاضة الثانية مطلع عام 2000، عندما كان المقاومون الفلسطينيون ينفذون عمليات استشهادية في مختلف الأماكن داخل كيان الاحتلال.
إضافة إلى جوّ الحزن وانعدام الأمل السائد في الكيان الذي عبر عنه للمجموعة باحث إسرائيلي، جاء التوصيف الدقيق الذي يجسد أحوال المستوطنين الإسرائيليين من عالم آثار إسرائيلي أسرّ لضيوفه الأميركيين قائلاً: "نحن في حالة يرثى لها، إذ نواجه أسوأ التهديدات منذ حرب الاستقلال [1948]". وأضاف: "لم أكن أبداً متشائماً كما أنا الآن بشأن مستقبل إسرائيل.. إنه أمر محبط. إنه أمر مخيف".
اللافت في الأمر أن هذه الأصوات الإسرائيلية لم تكن وحيدة أو معزولة، إنما تقاطعت مع استطلاع للرأي أجرته صحيفة "معاريف" الإسرائيلية في شهر أيار/مايو الماضي، إذ وجد الاستطلاع أن 37% فقط من اليهود الإسرائيليين قالوا إنهم "متفائلون جداً بشأن مستقبل إسرائيل"، في حين أن هذه النسبة كانت بلغت 48% في آذار/مارس، أي بانخفاض نسبته 11%.
وإذ تحدث الزوار عن أكبر عملية تعبئة للاحتياط قامت بها "إسرائيل" في تاريخها، نقلوا عن الجنود والمواطنين الذين التقوهم قولهم إنهم أصبحوا منهكين من الاستدعاءات المستمرة، فأحد طلاب الجامعة العبرية - وهو جندي احتياطي في سلاح الدبابات - أوضح لهم كيف كان عليه أن يدرس مقرراته الجامعية في منتصف الليل، فيما كان جالساً داخل دبابته قرب الحدود اللبنانية. وقال: "الكثير منا متعبون".
وعبّر هذا الجندي والكثير من زملائه في الاحتياط عن غضبهم الشديد من طائفة "الحريديم" الأرثوذكس المتطرفين - وهي مجموعة يهودية يقدر عدد أفرادها بـ 1.2 مليون شخص من أصل 7 ملايين مستوطن إسرائيلي - لكونهم لا يزالون معفيين من الخدمة العسكرية، ما يزيد العبء على بقية المجتمع الإسرائيلي (إشارة إلى أن المحكمة العليا الإسرائيلية قضت أواخر حزيران/يونيو الفائت بضرورة تجنيد الحريديم في الجيش).
الخوف من الغرق بمستنقع الحرب مع حزب الله
إضافة إلى غزة، استحوذت الجبهة الشمالية على اهتمامات الوفد الصحافي والأكاديمي الأميركي الزائر الذي استمع إلى شرح وافٍ ومفصّل للمخاطر التي تواجهها "إسرائيل" إذا نشبت حرب كبرى مع حزب الله نتيجة استمرار دعمه وإسناده العسكري لغزة وقصفه المستمر والنوعي البري والجوي للمواقع والمستوطنات والمدن الإسرائيلية، ما أدى إلى نزوح أكثر من 100 ألف إسرائيلي من مستوطناتهم.
اللافت هنا أن الوفد الأميركي عاين من كثب الصراع الذي يعيشه الجمهور الإسرائيلي من قضية الحرب على الحزب؛ ففي حين يطالب الإسرائيليون قيادة جيشهم بالعلن بضرورة القيام بعميلة عسكرية لإبعاد الحزب عن الحدود، فإنهم في الوقت ذاته لم يخفوا جحم المخاوف الكامنة في نفوسهم وقلقهم الشديد من التداعيات الكارثية التي سترتدّ على الكيان، في حال "تم إلقاء قوات الاحتلال المنهكة بالفعل في مستنقع مميت آخر"، إذ يحتمل الإسرائيليون أن يطلق حزب الله حينها العنان لترسانته الحربية الضخمة المكونة من مئات آلاف الصواريخ من مختلف الأنواع والمديات، ضد أهداف دقيقة ونوعية في جميع أنحاء "إسرائيل".
وللدلالة على هذه المخاطر، استشهد الوفد الأميركي الزائر بكلام لشاؤول غولدشتاين، المسؤول التنفيذي عن شبكة الكهرباء الإسرائيلية، والذي قال فيه: "إن زعيم حزب الله حسن نصر الله يمكنه تدمير شبكة الكهرباء الإسرائيلية في أي وقت يريده". وتابع: "بعد 72 ساعة بدون كهرباء في إسرائيل، العيش هنا سيكون مستحيلاً"، وحذر غولدشتاين: "نحن لسنا في حالة جيدة، ولسنا مستعدين لحرب حقيقية".
"إسرائيل" المنبوذة
وبحسب المجموعة الأميركية، فإن أكثر ما يؤلم الإسرائيليين هو شعورهم بأن معظم دول العالم تخلت عنهم. بدا ذلك واضحاً من خلال الحصار بشكل خاص على الجامعة العبرية التي تعاني بفعل مقاطعة الجامعات الأوروبية والأميركية لها.
وعلاوة على ذلك، أشار الزوار إلى أن استمرار قبضة نتنياهو على السلطة لن يؤدي إلا إلى تفاقم الوضع المزري الذي تجد "إسرائيل" نفسها فيه، فرئيس الوزراء يرفض أي خطة "لليوم التالي" لغزة، لأن شركاءه في الائتلاف اليميني هددوا بإسقاط حكومته إذا أعطى السلطة الفلسطينية أي دور في حكم غزة أو قدّم وعوداً لتسهيل إقامة دولة فلسطينية. في المقابل، بدأ جنرالات "إسرائيل" يتذمرون من أن تدمير حماس ليس هدفاً واقعياً، وأن قواتهم، في غياب أي حل سياسي نهائي في غزة، سوف تتجه إلى حرب أبدية.
وتحدث الوفد الأميركي عن أن الانقسام المدني العسكري القائم في الكيان غير مسبوق، وخصوصاً بين اليهود المتشددين كالحريديم واليمين واليسار. زد على ذلك أن الكثيرين من الإسرائيليين يعتريهم الشكّ في أن نتنياهو يعمل على إطالة أمد الحرب حتى يتمكن من الاحتفاظ بالسلطة.
في المحصلة، صحيح أن "إسرائيل" فتكت بالبشر والحجر في غزة، وسوت بيوتها وأسواقها ومؤسساتها بالأرض، غير أن الخلاصة التي عاد بها الوفد الأميركي الزائر، وقالها مواربة، تتمثل بافتقاد الإسرائيليين الأمن والأمان والاطمئنان، وهو ما أكده بشكل غير مباشر للمجموعة، شاحار شنورمان - جندي سابق يبلغ 62 عاماً - وهو أحد المستوطنين القلائل الذين عادوا إلى مستوطنة "كفار عزة" المحاذية للسياج الشائك مع غزة، إذ كشف أنه من بين نحو 800 مستوطن كانوا يعيشون فيها قبل 7 أكتوبر، ويسكنها الآن أقل من 20 شخصاً.
علي دربج - أستاذ جامعي.