مجلة "+972": في مسافر يطا.. حقّ التعليم تحت العدوان الإسرائيلي
مُستقبل الأطفال في قرية مسافر يطا بمدينة الخليل تحت التهديد الوجودي المستمرّ من عُنف الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين مُنذ عقود.
مجلة "972+" الإسرائيلية تنشر مقالاً كتبه الفلسطيني محمود العمور، وهو أستاذ يعطي دروساً للطلاب الفلسطينيين في قرية مسافر يطا في مدينة الخليل في الضفة الغربية، التي يحاصرها الاحتلال بالمستوطنات ويمنع الفلسطينيين فيها من التنقّل ويهدم بيوتهم، ويعرقل حياتهم بهدف تهجيرهم واستيطان المنطقة.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف:
مسؤولية كبيرة أن تكون مُدرّساً في مسافر يطا، وهي مجموعة من 19 قرية فلسطينية مُتجاورة على تلال جنوب الخليل في الضفّة الغربية، حيث مُستقبل الأطفال في هذه الناحية النائية تحت التهديد الوجودي المستمر ّمن عُنف "الدولة" الإسرائيلية والمستوطنين مُنذ عقود. وقبل 15 عاماً، لم تكن هناك مدارس في المنطقة إطلاقاً. واضطُرّ الطلّابُ إلى الاختيار بين التخلّي عن التعليم تماماً، أو الذهاب إلى المدرسة في مدينة يطا والابتعاد لفترات طويلة عن العائلة والبقاء مع الأصدقاء أو الأقارب، وهو أمر فعلته بنفسي وكذلك إخوتي عندما كُنّا أطفالاً.
وفي العام 2009، وتحت إشراف وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، بدأ المعلّمون والسكّان في بناء أول مدرسة في قرية الفخيت في مسافر يطا، حيث بدأ التدريس في الخيام، وبعد ذلك باستخدام موادّ أكثر ديمومة، وأصبحت تُعرف باسم مدرسة المسافر الثانوية المختلطة، وأنا الآن أحد مُعلّميها.
أنتمي إلى عائلة من المربّين، ووالدي ساعد على بناء 3 من 4 مدارس موجودة اليوم في مسافر يطا. ولقد نشأت وأنا أشهد أهمّية أن تكون مُدرّساً في ناحيتنا، وقرّرت مُنذ صغري أن أسير على خطى والدي، وبعد تخرّجي من الجامعة المفتوحة في يطا قبل عامين، بدأت تدريس اللغة الإنكليزية في مدرسة المسافر، وغني عن القول إنّ وظيفتي لم تكن سهلة أبداً. ولكن مُنذ 7 تشرين الأوّل/أكتوبر العام الماضي، تضاعفت التحدّيات إلى حدّ بعيد، وفي الشهر الأوّل من الحرب، اضطُررنا إلى إغلاق المدارس واللجوء إلى التدريس عبر الإنترنت، بسبب القيود الجديدة المفروضة على حركتنا والتصعيد الحادّ لعنف المستوطنين، الذي يستهدف الأطفال أيضاً. وممّا زاد تفاقم المشكلة، الحالة الاقتصادية المتردّية في الضفة الغربية، نتيجة لقرار "إسرائيل" احتجاز عائدات الضرائب المستحقّة للسلطة الفلسطينية، التي تدفع من خلالها رواتب المدرّسين.
لقد كان التدريس عن بُعد خلال تلك الفترة شبه مستحيل للعديد من الطلاب في مسافر يطا، لأنّ مُعظمهم ليست لديهم أجهزة كومبيوتر، حتّى إنّ بعضهم ليست لديهم هواتف. بالإضافة إلى ذلك، كثيراً ما يُصادر "الجيش" الإسرائيلي الأجهزة الإلكترونية للطلاب خلال المداهمات الليلية على قرانا، ممّا يتركهم من دون وسيلة للوصول إلى الإنترنت.
وخلال العام الماضي، داهم مستوطنون يرتدون الزي العسكري منزل إحدى طالباتي التي كانت في سنتها الأخيرة في المدرسة الثانوية، وقد ألحقوا أضراراً جسيمة بالعديد من ممتلكات عائلتها، وسرقوا الجهاز اللوحيّ الذي تقاسمته هي وشقيقتاها بينهنّ للدراسة، وهذا كان أمراً مدمّراً لهنّ.
كذلك، العودة إلى الفصول الدراسية العادية في الشهر الماضي، رزحت تحت المخاطر التي تبدأ من الرحلة إلى المدرسة والعودة منها، عبر الطرق التي يغلقها "الجيش" الإسرائيلي في مُعظم الأوقات.
وفي العام الماضي حفَر "الجيش" حُفرةٌ عملاقة في منتصف الطريق الوحيد الذي يربط مدينتي الكرمل ويطا، حيث يعيش العديد من معلّمي المدارس. وفي ضوء هذه الصعوبات، قرّر مُدير التعليم في منطقة يطا أن تعقد الفصول الدراسية حُضورياً 3 أيّام فقط في الأسبوع لبقية العام الدراسي، على أن يدرسوا الفصلين المتبقّيَين عبر الإنترنت. وهذا يعني أنّ الطلّابَ كانوا جسديّاً فقط في فصولهم الدراسية نحو 12 يوماً في الشهر، وهذا لا يكفي للتقدّم في دراستهم. وقد لاحظت انخفاضاً في إنجازاتهم التعليمية نتيجة لذلك.
في السنة الفائتة، انتقل 8 طلّاب من مدرستي إلى قرية التواني المجاورة الأكبر حجماً، حيث أعيش، لأداء الامتحان التوجيهي (امتحانات التقديم للجامعة)، وفي اليوم الأوّل من الامتحانات دخل "الجيش" الإسرائيلي القرية وداهم المدرسة، بعد أن أخضع الجنود كلّ طالب لتأكيد الهوية، وهي وسيلة تعسّفية أخرى "لجعل وجودهم محسوساً" في حياتنا، ثمّ سمحوا للتلاميذ بالعودة وإكمال مهامّهم.
كلّ ذلك يُشكّل شهادة على صمود هؤلاء الأطفال ومعلّميهم، وأنّ 7 من طلّابِي من أصل 8 اجتازوا امتحانات التوجيهي في هذه الظروف. وكانت الفتاة التي سرق المستوطنون لوحها، من بينهم، وهي لم تنجح فحسب، بل تفوّقت وحصلت على أعلى الدرجات في مسافر يطا، وتدرسُ الآن التمريض في كلّية في الخليل.
الغزاة في أرضنا
المصاعب التي تُواجه مُجتمعنا لم تبدأ العام الماضي. ففي أوائل العام 1980، بعد أكثر من عقد على الاحتلال العسكري، أعلنت "إسرائيل" جزءاً كبيراً من مسافر يطا منطقة إطلاق نار عسكرية، وهي أداة تستخدمها "إسرائيل" لطرد الفلسطينيين من أراضيهم وتسهيل التوسّع الاستيطاني. ومُنذ نحو عامين منحت المحكمة العليا الإسرائيلية الضوء الأخضر لطرد أكثر من 1000 من السكّان، لكن لا يزال مُعظمهم صامدين في منازلهم. وبينما تعدّ "إسرائيل" الفلسطينيين الذين عاشوا في هذه المنطقة لأجيال "غزاة"، فقد سمحت للمستوطنين الإسرائيليين بإنشاء 6 بؤر استيطانية جديدة في المنطقة خلال السنوات القليلة الماضية.
ولأنّ "الجيش" الإسرائيلي يرفض منح تصاريح البناء لسكّان مسافر يطا، ويهدم بانتظام أيّ شيء يبنيه الفلسطينيون، ومُعظم الطرق بين القرى غير مُعبّدَة، وبعضها في حالة سيّئة بحيث لا يمكن اجتيازها إِلّا بسيارات رباعية الدفع. وفي فصل الشتاء تصبح الطرقات غادرة، لدرجة أنّ العديد من التلاميذ يتنقّلون من قراهم بسيارات المدرّسين الذين يعانون مشقّة الطريق، بينما يلجأ آخرون إلى المشي أو ركوب الحمير طوال الطريق إلى المدرسة.
ومُنذ أن أغلق المستوطنون و"الجيش" الإسرائيلي الطرق بين يطا ومسافر يطا، لا يُوجد أمام المعلّمين سوى خيارين للعيش في المدينة والوصول إلى المدرسة. الأول، هو القيادة حتّى حاجز الطريق وركن السيّارة بالقرب منه، والسير الكيلومتر المتبقّي إلى التواني. وإذا حالفهم الحظ، يُمكنهم الانتقال الـ 7 كيلومترات المتبقّية إلى قرية الفخيت. لكنّ هذا قد يكون خطيراً جدّاً، في أواخر شهر كانون الثاني/يناير هذا العام، راقب المستوطنون المدرّسين يركنون سيّاراتهم في تلك الأمكنة، فشرعوا فوراً في تخريبها، ويعود أصحابها ليجدوا نوافذها مُحطّمَةً وإطاراتها مثقوبة.
الخيار الثاني، هو السفر على طريق التفافي يربط بين المستوطنات الإسرائيلية في ماعون وكرمل وسوسيا وبيت ياتير، ويقطع الطرق الزراعية التي كانت تربط قرى مسافر يطا، ممّا يُضيف إلى الرحلة ساعة أخرى، وتحمّل ما ينطوي عليه هذا الطريق بانتظام على نقاط التفتيش الطيّارة، وهي تعرقل وصول المعلّمين إلى مدارسهم، وقد يعني هذا تفويت يوم كامل من المدرسة.
ولكن على الرغم من هذه الصعوبات، نواصل نحن المعلّمين الحضور إلى المدرسة كلّ يَوم. فنحن مُلتزمون ليس فقط بضمان حصولِ طُلّابنا على تعليمهم، ولكن بحمايتهم وتعزيز الثقة بِقدراتهم. وبفضل جهود أشخاص مثل والدي، توجد الآن 4 مدارس في مسافر يطا، تمّ افتتاح أحدثها في عام 2022 في قرية الصفائي.
أنا فخور بكوني مُدرّساً، خاصّةً لِتوفير فرص تعليمية في مجتمعي لم تكن لديّ عندما كنت طفلاً. آمل أن أرى نتائج عملي الشاقّ عندما يكبر أطفال مسافر يطا ليصبحوا مُحامين، أو أطبّاءَ أَوْ مُعلّمين أو مديرين. ولكن قبل كلّ شيء، أريد أن يعرف طُلّابِي كيف يُناضلون من أجل حقوقهم الإنسانية، حتّى يتمكّنوا من التحدّث عن معاناتهم للعالم، وفضح جرائم المستوطنين و"الدولة" الإسرائيلية.
نقله إلى العربية: حسين قطايا.