"فورين بوليسي": ما معنى "صمود"؟

على الرغم من خصوصيّة كلمة "صمود" للفلسطينيين، إلّا أنّها تكشف عن حقائق عالميّة

  • "فورين بوليسي": ما معنى "صمود"؟

مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يتناول النص مفهوم "الصمود" الفلسطيني بوصفه فكرةً وجوهراً ثقافياً وإنسانياً يتجاوز الجغرافيا والسياسة ليغدو رمزاً عالمياً للمقاومة والكرامة والإصرار على الوجود.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

في أول رحلة لي إلى فلسطين كشخص بالغ، زرت كنيسة المهد في بيت لحم، حيث جذبني تمثال خشبي كبير مطليّ للقديس جرجس، وهو يقتل تنّيناً. ووفقاً للنقش الموجود على قاعدته، كان هديةً من عائلة دبدوب العريقة في المدينة، وهي عائلتي من جهة والدتي، التي عاشت في بيت لحم منذ الحروب الصليبية. وحين سألت مرشدي الفلسطيني عن سبب وجود التمثال هناك، هزّ كتفيه وأجاب بكلمة واحدة باللغة العربية: "صمود".

القديس جرجس يُعتبر بطلاً بين الفلسطينيين، وقد وصفه أحد نحّاتي بيت لحم بأنه "فارس مفعم بالسلام والنعمة، من على صهوة جواده يحارب الشرّ دائماً". وغالباً ما تعني كلمة "صمود" الصبر والمثابرة، بينما يُساء فهمها من قبل الإسرائيليين على أنها "التشبّث بالأرض"، بدلاً من أن تُفسَّر كضمير يفيض بالجرأة والكرامة.

يطلق الفلسطينيون على أطفالهم اسم "صمود". لكن لا أحد يعلن عن صموده، بل يُشار إليه من قبل الآخرين كمثال على الجرأة والشجاعة. الصمود هو شيء ثابت وقوة لا تُقهر، ويقتل التنّين مثل القديس جرجس.

يتحدّث اللغة العربية نحو 400 مليون شخص بنحو 30 لهجةً محليةً، لكنّ "الصمود" هو مصطلح فلسطيني خاص، منذ عام 1978، عندما تبنّت منظمة التحرير الفلسطينية الصمود كآليةٍ للتكيّف مع صدمة الحياة في ظل الاحتلال الإسرائيلي. وقد اكتسبت الكلمة مؤخراً اعترافاً دولياً، حين أبحر أسطول الصمود العالمي الذي يقوده مدنيون من أكثر من 40 سفينةً تحمل مساعداتٍ إنسانيةً، من أوروبا في محاولةٍ لكسر الحصار الإسرائيلي على غزّة.

وقد أرسلت إيطاليا وإسبانيا قطعاً حربيةً لحماية الأسطول، بينما أدان زعماء من كولومبيا وماليزيا وجنوب أفريقيا وتركيا اعتراض "إسرائيل" العسكري للأسطول في وقت سابق من هذا الشهر. ويصف رجا شحادة، مؤسّس منظمة الحقّ الفلسطينية لحقوق الإنسان، الصمودَ بأنه "مشاهدة منزلك يتحوّل إلى سجن، واختيار البقاء في هذا السجن لأنّه منزلك، ولأنّك تخشى أنّه إذا غادرت، لن يسمح لك سجّانك بالعودة".

كتب شحادة في مجلته "الطريق الثالث": إذا كنت تعيش بهذه الطريقة، فيجب "عليك أن تقاوم باستمرار الإغراء بين الرضا بخطة السجّان في يأسٍ خامل، أو الجنون بسبب الكراهية المستهلكة تجاه السجّان ونفسك".

الفهم الشائع لمفهوم الصمود في الغرب يتمثّل في الطريقة التي يواجه بها الفلسطينيون إجراءات المسؤولين الإسرائيليين القمعية ضدّ إظهار العلم الفلسطيني، بينما يحتفي الآن الكثيرون بالبطيخ لما يُظهره بشكلٍ طبيعي من ألوان الأسود والأخضر والأحمر والأبيض، وهي ألوان العلم الفلسطيني. إنّه نوع من المقاومة الذكية في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أصبح البطيخ الرمز التعبيري للعلم الفلسطيني الأكثر انتشاراً دون قدرةٍ على حظره.

الصمود هو الطريقة التي يتحوّل بها مخيمٌ للاجئين الفلسطينيين، المعروف بأنّه أكثر الأماكن في العالم تعرّضاً للغاز المسيل للدموع، إلى مكان لصنع المجوهرات من قنابل الغاز لمتجر الهدايا. إنّه الحلم الملحمي لمدينة روابي في الضفة الغربية، أول مدينةٍ مخططة في فلسطين، وهو "حنظلة" بالنسبة للاجئ يبلغ من العمر 10 سنوات وقد أدار ظهره للعالم منذ عام 1973. وهو عزيمة الأطفال في الضفة الغربية لرؤية البحر، الأطفال الذين يشكّلون نصف تعداد الفلسطينيين، وهم يعيشون في خضمّ الإبادة الجماعية، حيث كلّ ولادةٍ فلسطينية هي فعل صمود.

الصمود هو أيضاً حسام زملط، الذي وُلِد في مخيم للاجئين في رفح، وأصبح سفير فلسطين لدى الولايات المتحدة ثم المملكة المتحدة. والصمود هو رؤية الشركات الناشئة الفلسطينية في مجال التكنولوجيا، وهو الصحافيون في غزّة الذين يسجّل كلّ واحدٍ منهم وصيّته قبل أن تصل إليه القنابل الإسرائيلية. والصمود هو في أسرِ قلبِ العالم عن غير قصد في شهر آذار/مارس الماضي خلال مأدبة إفطارٍ جماعية فاخرة وسط أنقاض غزّة.

في هذا الصيف، نشر الوزير الإسرائيلي إيتمار بن غفير مقطع فيديو مدّته 13 ثانية، يظهر فيه وهو يسخر من مروان البرغوثي، القائد السياسي الفلسطيني الذي يقبع في السجن منذ 20 عاماً. وقد قامت فدوى، زوجة البرغوثي، بتفحّص الفيديو لتجد إطاراً واحداً تعتقد أنّه يُظهر قوة زوجها، وطلبت من أنصاره استخدام تلك الصورة في نشر تفاصيل هذا اللقاء، وهذا هو الصمود.

أينما وُجد فلسطينيون، وُجد الصمود دائماً. قد يجادل آخرون بأنّ الهوية الفلسطينية تُعرَّف بالنكبة، الكلمة العربية التي تعني الكارثة، والتي تُستخدم للإشارة إلى المذبحة الجماعية وتهجير الفلسطينيين حين تأسست "إسرائيل" عام 1948. ولكنّ أحلك ساعاتِ شعبٍ ما نادراً ما تكون هي محور تراثه؛ فقد اعتاد الفلسطينيون على سوء فهمهم من قبل الآخرين، خصوصاً من بعض التصوّرات النمطية التي تُظهرهم كإرهابيين عنوةً، لا كحقيقة كفاحهم ضدّ الإرهاب ومقاومتهم الاحتلال الإسرائيلي والإبادة الجماعية من خلال الصمود، بينما العديد من الناس الذين ينعتون الفلسطينيين بالإرهابيين لا يخافون أسلحتهم، بل من وجودهم نفسه، ومن نبض الفلسطيني الذي يخفق كقلبٍ كاشفٍ في ظلّ محاولات "إسرائيل" لتغطية فلسطين بالورق.

في هذا العصر المترابط، ينتشر تعبير "الصمود" عبر الإنترنت وهو متاحٌ للجميع. ويظهر في أسماء برامج التوعية في الكنائس الأميركية، وفي علامة ملابس تبيع سترات تشي غيفارا، وعلى حقيبة تسوّق فنلندية، وفي كلمات الأغاني البريطانية، وفي عطرٍ غير ربحي يُباع في ولاية أوريغون.

ومن الإنصاف القول إنّ العالم مليء بالمفاهيم الأجنبية التي أسيء استخدامها مثل: "ألوها"، "لا بريغا"، "دويندي"، "هيغيه"، "إيكيغاي"، "جوغاد". كما أنّ التبادل الثقافي غير المدروس منتشر في الغرب، حيث يشتري الناس تعاطفاً مزيّفاً بأوشحة الكوفية على منصّات العرض، أو يتصنّعون نطق الحروف، أو يحصلون على وشومٍ صينيةٍ مشكوكٍ فيها.

رغم خصوصيتها الفلسطينية، يكشف "الصمود" حقائقَ عالميةً. قد تبدو الولايات المتحدة وفلسطين عالمين متناقضين: أرض الفرص مقابل أرض الاحتلال. لكنّ الصمود ليس غريباً على التاريخ الأميركي، فالصمود الأميركي هو في الشعر الصيني المنقوش على جدران جزيرة أنجيل في خليج سان فرانسيسكو، وفي والدة إيميت تيل التي طالبت بتابوتٍ مفتوح، أو في السيدة الأولى جاكلين كينيدي التي رفضت تغيير بدلتها الوردية من "شانيل" الملطّخة بالدماء، ويُقال إنّها قالت: "دعوهم يرون ماذا فعلوا"، في تعريفٍ غير مقصودٍ للصمود.

الصمود الأميركي هو فندقٌ صغير حول متحف الحقوق المدنية في ممفيس بولاية تينيسي، وموجود في أسماء النصب التذكاري لقدامى محاربي فيتنام. وهو عبارة عن علمٍ بورتوريكيّ ملفوفٍ على شكل وشاحٍ على تاج تمثال الحرية، وحضور الغياب في نصب 11 أيلول/سبتمبر التذكاري. إنّه مجموعة الأحذية في أيّ متحفٍ للهولوكوست، وهو طلاءٌ وإعادة طلاءٍ لممرّات المشاة بألوان قوس قزح في أورلاندو، فلوريدا. يعرف الصمود الأميركي أنّ الثورات لا تبدأ بالهتافات أو المسيرات أو حتى أعمال الشغب، بل تبدأ بالصمت المقدّس للطلاب الجالسين إلى طاولة الغداء في غرينسبورو بولاية كارولينا الشمالية، أو بخيّاطةٍ تبلغ من العمر 42 عاماً تجلس في مقعد حافلةٍ في مونتغمري، ألاباما.

يقول محسن مهداوي، الطالب الفلسطيني الذي عاد مؤخّراً إلى جامعة كولومبيا بعد اعتقاله بسبب نشاطه في الشهر الماضي: "مقاومتي ليست بالهرب. من الأسهل أن أنأى بنفسي وأذهب إلى مكانٍ آخر، لكنّ اختياري البقاء كي أكون جزءاً من الحلّ، وجزءاً من المقاومة، ومن تصوّر كيف سيبدو المستقبل".

في هذا العام التاريخي للدعم العالمي للفلسطينيين، انخفض التعاطف الأميركي مع "إسرائيل" إلى أقلّ من 46% للمرة الأولى منذ 25 عاماً، منذ أن بدأت مؤسسة "غالوب" بإجراء هذا الاستطلاع سنوياً. وقد وصل التعاطف مع فلسطين إلى أعلى مستوى له على الإطلاق بنسبة 33%. ويعود هذا التحوّل، إلى حدّ كبير، إلى استياء الأميركيين من وحشية "إسرائيل" في غزّة، والتي يعارضها الآن 60% من الشعب الأميركي، وفقاً لاستطلاع رأيٍ منفصل أجرته "غالوب" أيضاً.

كما أنّ الأميركيين اليهود ينظرون بشكل سلبيّ للغاية إلى العنف وجرائم الحرب الإسرائيلية، بينما يفهم المجتمع الدولي معنى الصمود في مشهد "رجل الدبّابة" الذي كان يتحرّك يميناً ويساراً بمفرده في مواجهة الجيش الصيني في ميدان تيانانمن، وعدّاد المسافات الذي يصل إلى المليون ميل في سيارة "شيفروليه" عتيقة مطلية حديثاً بألوان الباستيل في هافانا، أو ظلال البشر المحترقة في الحجر، المعروفة باسم "هيتوكاغي نو إيش" في متحف هيروشيما التذكاري للسلام.

الصمود ليس عبئاً ولا وصمة عارٍ على شعبٍ ما. لقد تقاسم البشر غريزة الصمود منذ أيام سكنهم الكهوف، عندما تركوا بصمات أيديهم على الجدران. لم يكن ذلك الفن تعبيراً عن غرور، فقد اكتشف علماء الآثار مؤخّراً أنّ تلك البصمات ربّما كانت في الواقع شهاداتٍ على الحياة والمجتمع والفرح المشترك.

لقد قطعنا شوطاً طويلاً منذ تلك الكهوف، لكن ليس بالقدر الذي نحب أن نعتقده. الصمود هو التذكير الأبدي بالمحرومين، وبمدى سهولة إساءة معاملة الناس لهؤلاء المحرومين. إنّه إدانةٌ لوحشية "إسرائيل"، ولحكومة الولايات المتحدة التي تموّلها، وللعالم الأوسع الذي يراقب ذلك مكتفياً بردّ فعلٍ لا يتجاوز التلويح بالأصابع.

ومع ذلك، يرفض الفلسطينيون المحرومون أن يكونوا معدومي الوجود، فهم كيميائيو الحياة الذين يحوّلون الحرمان الثقيل إلى ذهب الأوسكار. هذا هو الصمود: امتلاكٌ لا يعتذر عن المعرفة بأنّ وجود الإنسان نفسه يحمل قوّةً لا يمكن للقوّة الغاشمة أو القسوة الجبانة أن تمسّها. وإذا كانت الولايات المتحدة هي بوتقة انصهار العالم، فإنّ فلسطين هي جرن العالم، حيث يُسحَق البشر ويُطحَنون، وما يبقى هو الصمود.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.