"Unherd": أوروبا تسعى إلى تحقيق النصر.. بحماقة وتهوّر

إنّ الوهم الأوروبي والأوكراني بأنّ هناك طريقاً إلى النصر في الحرب سيؤدّي حتماً إلى مستقبل أكثر خطورة على أوروبا جميعها.

  • "Unherd": أوروبا تسعى إلى تحقيق النصر.. بحماقة وتهوّر

موقع "Unherd" البريطاني ينشر مقالاً يناقش الاختلافات بين رؤى الولايات المتحدة وأوروبا بشأن الحرب الروسية- الأوكرانية.

يرى كاتب المقال أنّ النظرة الأوروبية تعتمد على نموذج الحرب العالمية الثانية، الذي يعدّ النصر أهم من السلام، وأنّ أوروبا وأوكرانيا تطلبان أكثر مما يمكن تحقيقه في ظل الظروف الحالية، ويشير إلى أنّ الاستمرار في البحث عن نصر قد يجر إلى مخاطر أكبر في المستقبل.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية: 

دونالد ترامب يريد السلام الآن، لكنّ، فولوديمير زيلينسكي وأنصاره الأوروبّيين يريدون النصر، ولو في وقت لاحق. وكان هذا ما دار حوله الخلاف العلني في المكتب البيضاوي في الأسبوع الماضي. السلام من خلال النصر، وهو نموذج الحرب العالمية الثانية، والعدسة التي ينظر من خلالها جميع القادة الأوروبيين تقريباً ومعظم المراقبين إلى الصراع الروسي- الأوكراني، لكن أميركا ترى الأمر بشكل مختلف.

الكاتبة والمؤرّخة آن أبلباوم الفائزة بجائزة السلام المرموقة لدور النشر الألمانية، التقطت عبثية وسخافة الموقف الأوروبي، وقالت في العام الماضي، إنّ "النصر أكثر أهمّية من السلام"، مؤكّدةً  أنّ الهدف النهائي للغرب يجب أن يكون تغيير النظام في روسيا، ومساعدة الأوكرانيين على تحقيق النصر، ليس فقط لأجل أوكرانيا.

ما تقوله أبلباوم نموذج لسياسات اتّبعت في الحرب العالمية الثانية في أنقى صورها، مع أنّ أغلب الحروب لا تتناسب مع هذا النمط، وهي تنتهي عموماً باتّفاقات سلام معقّدة. وقد يكون النموذج الأفضل للصراع الحالي هو الحرب التي اندلعت في أوروبا الوسطى في عام 1618، واستمرّت 30 عاماً بين الإمبراطورية الرومانية "المقدّسة" ضدّ المدن والبلديّات البروتستانتية التي تدعمها السويد وهولندا.

لم تنته تلك الحرب بانتصار مجيد لأي من الأطراف المعنية. لكنّها انتهت بمعاهدة صلح أو "سلام وستفاليا"، التي تعدّ أهمّ معاهدة سلام في التاريخ، أرست أحد المبادئ المهمّة في عدم التدخل في السياسات الداخلية للدول الأخرى، وبالتالي أسست البنية الأولى للدولة الوطنية الحديثة، وشكّلت بداية العصر الذهبي لازدهار اقتصادي وسياسي وعلمي وثقافي في أوروبا.

لقد استمرّ صراع روسيا مع الغرب منذ فترة طويلة تقريباً، خاض خلالها فلاديمير بوتين حرباً في الشيشان وجورجيا وأوكرانيا وسوريا في محاولة لاستعادة مناطق النفوذ التي فقدتها بلاده بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي في عام 1990، ما يؤشّر إلى أنّه من دون نوع من أنواع اتّفاقات السلام، من المؤكّد أنّ بوتين سيواصل الضغط باستراتيجية قد تتوسّع لتشمل دول البلطيق وبولندا.

وأمام هذا الواقع، من الخطير أن تصرّ أوروبا بدلاً من ذلك على النصر. وحين تحدّث ترامب بكثير من الهراء عن زيلينسكي والحرب، كان محقّاً في جانب واحد مهمّ، أنّه من دون أميركا لا يوجد طريق لانتصار أوكرانيا. ولا يتعلّق الأمر في المقام الأول بالأسلحة والذخيرة والمساعدات المالية، ولكن بدعم الأقمار الصناعية والاستخبارات. فإذا أغلقت الولايات المتّحدة وأوقفت تدفق المعلومات من الفضاء، فلن يكون لدى الأوروبّيين وسيلة تعويض لسدّ الفجوة. من دون الولايات المتّحدة سينتهي الأمر بالنسبة إلى أوكرانيا.

ولم تفشل أوروبا في فهم هذه المعطيات فحسب، بل فشلت أيضاً في رسم مسار استراتيجي نحو النصر المتوخّى. السياسيون والصحفيون والأكاديميون يردّدون ببغائية بلا معنى، عن أنّ أوروبا ستفعل كلّ ما يتطلّب منها، أو أنّهم يؤكّدون أنّ بوتين سيصرخ أوّلاً، إذا استمرّت الحرب لفترة أطول قليلاً، أو أنّ الاقتصاد الروسي سينهار مع إحداث خسائر فادحة. لكنّ التضامن ليس استراتيجية، وإشارات الفضيلة ليست استراتيجية، والعقوبات ليست استراتيجية إلّا إذا كان الهدف الأساسي هو تقليل الألم للذات.

إنّ الاستراتيجية ثرية بطبعها ومختبر سياسي يستجيب لسيناريوهات مختلفة، وتتضمّن أهدافاً أساسية، ولديها بدائل متّفق عليها لتحقيق أفضل النتائج، كما تتضمّن مساراً واضحاً لليوم التالي، لكنّ أوروبا ليس لديها شيء من هذا.

كان من الممكن أن يبدأ مسار موثوق به لانتصار أوكرانيا قبل 3 سنوات مع توسّع هائل في الإنفاق العسكري من قبل جميع دول حلف "الناتو" الأوروبية. وكان من المفترض أن يكون هناك توسّع فوري في القدرة الصناعية العسكرية التي استنفدت مخازنها في معظم الدول الغربية، مع حملة سياسية منسّقة لتنظيم مقايضات بين أولويّات الإنفاق الأخرى والدفاع. لكن الدول الأوروبّية المهمّة مثل ألمانيا وفرنسا والمملكة المتّحدة، لم تتصرف وقتئذ، والآن تفتقر جميعها إلى الأموال للانخراط في مثل هذا النهج.

لم تكتشف أوروبا بعد الكيفية التي يمكنها بها دعم أوكرانيا والقدرة على الوفاء بالتزاماتها. وكانت الفكرة الأكثر يأساً هي نهب احتياطيّات روسيا من النقد الأجنبي التي تبلغ 300 مليون دولار والمجمّدة حالياً في الغرب. ومن الواضح أنّ هذا لم يُفكّر فيه ملياً فإذا وقع ذلك، فإنّ الخطر يكمن في أنّ "يوروكلير"، المؤسسة المالية التي يقع مقرّها في بروكسل والتي تحتفظ بالاحتياطيّات، قد تواجه سلسلة من الدعاوى القضائية حتى الإفلاس. وسوف يضطرّ الاتّحاد الأوروبي إلى إنفاق عشرات المليارات لإعادة تمويل الشركة وهو ما قد يكلّف أكثر من المساعدات المقدّمة لأوكرانيا. وسوف تتراجع الثقة بأوروبا كمكان آمن للأصول، وقد ينتهي بها الأمر إلى أزمة مالية مطلقة.

ولكن، كيف للاتّحاد الأوروبّي أن يدافع عن نفسه في المستقبل في غياب استراتيجية خروج محدّدة التكاليف الآن، ومع ابتعاد أميركا عن الاتّحاد، وحتى لو شرعت دوله في مَسار متّفق عليه نحو الإنفاق العسكري بنسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030، وقرّر تجميع مشترياته لجعل الإنفاق الدفاعي أكثر كفاءة، فإنّني أجد صعوبة بالغة في تصوّر كيف يمكن للقارّة أن تجد الوحدة والعزم على استبدال الولايات المتّحدة كضامن لأمنها. ولقد جسّدت الممثلة العليا للسياسة الخارجية الأوروبية كايا كالاس، موقف أوروبا بشكل مضحك وقصير النظر تجاه الاستراتيجية عندما قالت إنّ العالم الحرّ يحتاج إلى زعيم جديد.

ومع حقّ النقض الذي يتمتّع به الأعضاء في الاتّحاد الأوروبّي ونظام التصويت الأغلبي المؤهّل، فهو غير مناسب من الناحية البنيوية للسياسة الخارجية والأمنية كما قال الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز في القرن 17.

لقد مررنا بهذا الموقف من قبل، حين تحدّثت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، عن الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا عن الولايات المتّحدة في عام 2018، بعد اجتماع كارثي مع ترامب. لكنّها لم تضع أيّ رأس مال سياسي وراء هذه الفكرة، لأنّها لم تكن تريد دفع الثمن.

ستتطلّب الزيادة الهيكلية في الإنفاق الدفاعي تضحيات كبيرة من الدول الأوروبية. فالولايات المتّحدة تنفق نحو 3.5% من ناتجها المحلّي الإجمالي على الشأن الدفاعي، بينما أنفقت دول الاتّحاد الأوروبي في عام 2023 مجتمعة ما معدّله 1.6% من الناتج المحلّي الإجمالي للمجموعة. تنشأ هذه الفجوة الفارقة بنقطتين مئوية، لأنّ الأوروبين ينفقون الأموال على أشياء أخرى. ألمانيا لديها نظام اجتماعي مطلي بالذهب، حيث يحقّ للناس الحصول على دخل أساسي، سواء كانوا يعملون أم لا. كما منحت ألمانيا نفسها ميزانية قدرها 150 مليار يورو للتحوّل إلى مجال الطاقة المستدامة. في الوقت ذاته، لدى الولايات المتّحدة كوبونات طعام توزّعها على الفقراء.

ومع ذلك، في يأسهم، يتحدّث الأوروبّيون الآن عن تمويل زيادة الإنفاق الدفاعي من خلال الديون. هذا جنون اقتصادي. ولهذا السبب، ستفشل أيضاً في تحقيق هدفها المعلن وردع هجوم العدوّ. تعتمد مصداقية سياسات أوروبا الأمنية على الاستعداد لتمويلها، ويجب تمويل الإنفاق الدفاعي من الإيرادات الجارية. وإذا حاولت القيام بذلك من خلال الديون، فسوف يحصد رأسك حرّاس السندات قبل أن يفعل بوتين الذي يحبّ أن يرى بالتأكيد أوروبا يائسة.

تمكّنت المملكة المتّحدة فقط من زيادة هدف الإنفاق العسكري لعام 2027 من 2.3% إلى 2.5% من خلال خفض ميزانية المساعدات الخارجية. وفي الوقت نفسه، تركت السياسة المنقسمة في فرنسا البلاد على مسار مالي غير مستدام، حتّى في الوقت الذي يتصارع فيه الألمان مع قواعدهم المالية. هذه أوروبا المدلّّلة والمنغمسة في نفسها ليست على وشك القتال والفوز بحرب ضدّ روسيا. نحن نشيد بالخطب التي تدعو إلى تغيير النظام في موسكو، لكننا نريد أن يفعل شخص آخر ذلك من أجلنا تماماً كما في الحرب العالمية الثانية. الفرق هو أنّه حينئذ، كانت أميركا على استعداد للعب دور أقوى تدريجياً، أمّا هذه المرّة فالولايات المتّحدة في تراجع مفتوح.

لو كان الأوروبّيون أذكياء، لكانوا أعلموا زيلينسكي بعيداً من الكاميرات، أنّ اللعبة انتهت، وأنّه ينبغي له أن يعقد صفقة مع ترامب الآن. وكان  عليهم أن يصرّوا على أن يفاوض زيلينسكي قبل المواجهة في المكتب البيضاوي وهو أفضل من أي شيء قد تحصل عليه أوكرانيا على الإطلاق، من خلال صفقة المعادن التي تهمّ الولايات المتّحدة وتتركها منخرطة في مستقبل أوكرانيا المحاصرة. ولكن حالياً، يبدو من الواضح أنّ أوروبا وأوكرانيا تطلبان حالياً أكثر ممّا قد يرغب ترامب في التنازل عنه، خاصة أنّ البيت الأبيض مقتنع بأنّهما غير مستعدتين للسلام.

في الأسبوع الماضي، سعى زيلينسكي إلى تحقيق النصر، فسقط مباشرة في فخّ في البيت الأبيض. وربّما كان أكثر ارتياحاً مع أصدقائه الأوروبّيين في لندن الذين أغروه بكلمات دافئة ووعود كبيرة. لكنّ الوهم المشترك بينهم بأنّ هناك طريقاً إلى النصر سيؤدّي حتماً إلى مستقبل أكثر خطورة على أوروبا جميعها.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.