"Unherd": ماذا حلّ بشعار "أميركا أولاً"؟
بعد أسابيع على فوز ترامب في الانتخابات، بدأت الآمال تتلاشى في أنّ الرئيس القادم قد يتبع سياسة خارجية أكثر "انعزالية" أو أقلّ تدخّلاً بالحدّ الأدنى.
موقع "Unherd" البريطاني ينشر مقالاً يتحدّث فيه عن اختيارات الرئيس الأميركي المقبل دونالد ترامب لمناصب مهمة في إدارته، تدعم الحروب والتدخّل الخارجي، على عكس ما وعد به ترامب بوقف الحروب، والاهتمام بالقضايا الداخلية عوضاً عن ذلك.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرّف:
"لا مزيد من الحروب، سأوقفها"، هذا ما تعهّد به دونالد ترامب في أوّل خطاب له بعد فوزه بالانتخابات أمام ناخبيه. وكانت حملته اتّسمت بانتقاده للاشتباكات العسكرية التي يقودها المحافظون الجدد في الشرق الأوسط، لكنّ ترامب، لم يظهر إلّا القليل من التفاصيل حول الطرق التي ستسلكها السياسة الخارجية في ولايته الرئاسية الثانية.
ومع ذلك، يفسّر كثيرون شعاره "أميركا أوّلاً" على أنّه دعوة إلى التركيز على القضايا الداخلية عوضاً عن الصراعات الخارجية وتغيير النظام في هذا البلد أو ذاك. ويبدو أنّ نائبه جي دي فانس يدعمه في هذا التوجّه، ويعتبر أنّ الديمقراطيين فشلوا، لأنّهم "بنوا سياسة خارجية تقوم على الإجهاد وإلقاء المحاضرات الأخلاقية على الدول التي لا تريد أيّ علاقة معها، على عكس الصينيين، الذين يقدّمون سياسة خارجية مع الدول لبناء الطرق والجسور وإطعام الفقراء".
لكن، بعد أسابيع على فوز ترامب التاريخي في الانتخابات، بدأت الآمال تتلاشى في أنّ الرئيس القادم قد يتبع سياسة خارجية أكثر "انعزالية" أو أقلّ تدخّلاً بالحدّ الأدنى. ومنذ ذلك الحين تجري معركة شرسة مستعرة داخل حركة "اجعل أميركا عظيمة مرّة أخرى"، بين مؤيّدي إنهاء الحروب مع أصوات قعقعة السيوف. وعندما بدأ ترامب في الكشف عن اختياراته الوزارية، سرعان ما تحوّلت البهجة إلى يأس وغضب.
العديد من الأسماء التي اختارها ترامب لملء المناصب الرئيسية في فريق السياسة الخارجية والأمن القومي، هي في الواقع من المحافظين الجدد المعروفين وصقور الحرب الذين يتبنّون سياسة خارجية شرسة ضدّ دول مثل إيران والصين. ولا تشير تعيينات ترامب إلى أنّه يبتعد عن تدخّل بايدن الخارجي المتهور وتجاوزاته الإمبريالية، بل تشي بأنّه ملتزم السياسات التي انتقدها أكثر من مرّة.
على سبيل المثال ماركو روبيو، الذي اختاره ترامب لمنصب وزير الخارجية، وهو عضو بارز في مجلس الشيوخ من ولاية فلوريدا، هو من الصقور القدامى الذين أمضوا معظم حياتهم السياسية في الترويج لمواقف السياسة الخارجية للمحافظين الجدد، وخاصّة بشأن إيران والشرق الأوسط، والدعوة إلى العمل العسكري الأميركي في الخارج.
كذلك، كان روبيو مؤيداً قوياً للحرب في العراق وقصف ليبيا ومحاولة إدارة أوباما الفاشلة لتغيير النظام في سوريا. كما دعم التدخّل الأميركي في أميركا اللاتينية، وخاصة ضدّ الحكومات اليسارية. وباعتباره حليفاً قويّاً لـ "إسرائيل"، وبشكل وثيق مع رؤية حكومة بنيامين نتنياهو، وهو باستمرار أصدر مواقف متطرّفة ضدّ إيران، وعارض الاتّفاق النووي في العام 2015 مع إيران، داعياً إلى فرض عقوبات أكثر صرامة، وإلى ضربات عسكرية ضدّها. كما دافع عن كلّ خطوة تقوم بها "إسرائيل" في الحرب على غزّة ولبنان. وهو أيضاً متشدّد مناهض للصين، فقد كان له دور فعّال في الضغط من أجل تشريع من شأنه مواجهة نفوذ الصين في قطاعات التكنولوجيا الأميركية.
وكان روبيو قد دعا في السابق إلى اتّخاذ تدابير قوية ضدّ روسيا، على الرغم من أنّه في السنوات الأخيرة تحالف مع ترامب في معارضة الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا. لكن، يمكن توقّع أن يدعم روبيو جهود ترامب لإنهاء الحرب، لأنّ سجلّه يشير إلى مواظبته على متابعة المصالح الأميركية في الخارج بقوّة، ومواجهة جميع الأعداء الرسميين والمنافسين الاستراتيجيين للولايات المتّحدة، بما فيها الوسائل العسكرية.
بيت هيغسيث مرشّح ترامب لمنصب وزير الدفاع، وهو من قدامى المحاربين في الحرس الوطني ومذيع في قناة "فوكس"، ومؤيّد سابق متحمّس للانخراط العسكري الأميركي في منطقة الشرق الأوسط. وفي عام 2008، كرئيس لمجموعة الضغط المؤيّدة للحرب "قدامى المحاربين من أجل الحرية"، ظهر مع جورج دبليو بوش في البيت الأبيض لدعم خطّته لتصعيد وتمديد الحرب على العراق. واليوم، يبدو أنّ وجهة نظره قد تغيّرت. في مقابلة أجريت معه مؤخّراً، وصف نفسه بأنّه "محافظ جديد يتعافى"، وأنّ الحروب ما بعد 11 أيلول/سبتمبر، "جعلت الأمور أسوأ". ومع ذلك، لا يزال داعماً ناشطاً لحرب "إسرائيل" على غزّة، وقال إنّ "قصّة إسرائيل هي قصّة شعب الله المختار". وذكر أيضاً أنّ "الصهيونية وأميركا هما الخطوط الأمامية للحضارة الغربية والحرية".
لا تحيد اختيارات ترامب عن هذا الاتّجاه في تعيينات مساعديه، وهو اختار مايك والتز لمنصب مستشار الأمن القومي في إدارته، وهو محافظ ومتشدّدٌ آخر، كان ينتقد بايدن لعدم تصعيده بقوّة كافية في أوكرانيا، ودعم السماح لكييف باستخدام الأسلحة الأميركية لضرب عمق الأراضي الروسية، على الرغم من أنّه مثل روبيو، صوّت مؤخّراً ضدّ المساعدات العسكرية الإضافية لأوكرانيا. كذلك دعا إلى قصف إيران، وعارض انسحاب الولايات المتّحدة من أفغانستان. وحثّ على استخدام "مبدأ مونرو" مجدّداً، للحدّ من النفوذ الصيني وردعه في نصف الكرة الأرضية الغربي، وشجّع على زيادة الدعم العسكري لتايوان.
مثل ماركو روبيو وبيت هيغسيث، والتز أيضاً مؤيّد لا يتزعزع لـ"إسرائيل". وقد انتقد إدارة بايدن لتقويضها موقف "إسرائيل" في الصراع الحالي، ولا سيّما في سياق الحرب على غزّة ولبنان. وطالب بترك "إسرائيل" تنهي "المهمّة"، حين تواجه تهديدات من جماعات مثل حماس وحزب الله. لكنه أوضح في مقالة نشرها في مجلّة "الإيكونوميست" في وقت سابق من هذا العام، "وجوب التحرّك بسرعة لإنهاء الحروب في غزّة وأوكرانيا من أجل نقل التركيز الأميركي والأصول العسكرية مرّة أخرى إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ ومواجهة الصين".
كذلك يعود براين هوك ليقود فريق انتقال السلطة في وزارة الخارجية، وهو معروف بموقفه المتشدّد من إيران، وكان الممثّل الخاصّ للولايات المتّحدة في الملفّ الإيراني خلال إدارة ترامب السابقة، وهو مهندس رئيسي لاستراتيجية "الضغط الأقصى" ضدّ طهران، والتي تضمّنت إعادة فرض العقوبات وتوسيعها بعد أن انسحب ترامب من "الاتّفاق النوويّ". وعلى المنوال نفسه تأتي إليز ستيفانيك سفيرة إدارة ترامب الجديدة لدى الأمم المتّحدة، مؤيّدة قوية لـ "إسرائيل"، ومن الصقور ضدّ إيران. تقول: "لا يوجد عذر لرئيس أميركي لمنع المساعدات العسكرية عن إسرائيل"، وانتقدت أمام الكنيست الإسرائيلي في وقت سابق من هذا العام إدارة الرئيس جو بايدن لتأخيرها شحنة واحدة من القنابل التي تزن 2000 رطل.
وبينما أيّدت ستيفانيك في السابق المساعدات لأوكرانيا، صوّتت ضدّ حزمة المساعدات الأخيرة في شهر نيسان/أبريل الماضي. كما اقترحت أن تتّخذ الولايات المتّحدة موقفاً أكثر عدوانية ضدّ الصين. وقبل انتخابها لعضوية الكونغرس في عام 2014، عملت في العديد من مراكز أبحاث المحافظين الجدد الرائدة، من ضمنها "الصندوق الوطني للديمقراطية" و" مؤسّسة الدفاع عن الديمقراطيات" و" مبادرة السياسة الخارجية".
يتّضح أنّ الدعم القوي لـ "إسرائيل" هو السمة المشتركة بين جميع مرشّحي ترامب للسياسة الخارجية. مايك هاكابي، الذي اختاره ترامب سفيراً للولايات المتّحدة في "إسرائيل" أبرزهم، وهو يصف نفسه بأنّه "صهيوني غير اعتذاري وغير مصلح"، وكان مؤيّداً صريحاً للمستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في الضفّة الغربية، والتي يشير إليها باسم يهودا والسامرة. ووفق رأيه، "لا يوجد شيء اسمه تسوية"، ووصف المستوطنات بالمجتمعات والمدن.
كلّ هذه المواقف المؤيدة لـ "إسرائيل" بأغلبية ساحقة، والتي عبّرت عنها التعيينات الجديدة، عوضاً عن التوجّه نحو وقف العنف في الشرق الأوسط، تخاطر بتشجيع نتنياهو على تصعيد الحرب، بما في ذلك ضدّ إيران، ممّا قد يجرّ الولايات المتّحدة إلى صراع إقليمي شامل. ويبدو أنّ الحرب في أوكرانيا هي الوحيدة التي سيخفض التصعيد فيها على جدول أعمال ترامب الحريص على إنهائها كما يظهر، حتّى لو كان من المرجّح أن يواجه صعوبات بسبب المقاومة من القوى المؤيّدة للحرب في "الحزبين"، وكذلك في أوروبا، لكنّ هذا على الأقلّ يقدّم بعض الأمل. ويمكن أيضاً قراءة ترشيح تولسي غابارد لمنصب مديرة الاستخبارات الوطنية، وهي منشّقة عن "الحزب الديمقراطي"، وكانت من أشدّ منتقدي تورّط الولايات المتحدة في ما وصفته بأنّها "حروب هدر أجنبية ذات نتائج عكسية"، على أنّهُ علامة على نية ترامب وقف الحرب المذكورة.
من الصحيح أنّ ترامب لم يبدأ حروباً جديدة في ولايته الأولى، كما يزعم أنصاره في كثير من الأحيان، لكن، يمكن للمرء أن يجادل بأنّه ساعد على تمهيد الطريق للعديد من الصراعات التي تتكشّف حالياً في جميع أنحاء العالم، من خلال الانسحاب من الاتّفاق النووي مع إيران، والأمر باغتيال الجنرال قاسم سليماني ورعاية "اتّفاقيات أبراهام"، الهادفة إلى محو مسألة الدولة الفلسطينية وتهميش إيران في الإقليم. كما يعتقد كثيرون أنّ ترامب ساعد على توليد الظروف التي اندلعت في 7 تشرين الأوّل/أكتوبر في العام الماضي. وبالمثل، مهّدت حرب ترامب التجارية مع الصين الطريق لمواجهة جيوسياسية أوسع نطاقاً تتّخذ من حينها أبعاداً عسكرية ملحوظة بشكل متزايد. في الواقع، حتّى بما يتعلّق بالصراع الروسي الأوكراني، كانت إدارة ترامب هي التي بدأت في بيع الأسلحة الفتّاكة إلى أوكرانيا، ثمّ انسحبت من جانب واحد من معاهدة الأسلحة النووية المتوسّطة المدى لعام 1987، ممّا زاد تأجيج مخاوف روسيا الأمنية بشأن الطبيعة العدوانية لإدخال أوكرانيا في حلف "الناتو".
وهذا يسلّط الضوء على الطبيعة المتناقضة والغامضة في جوهرها لحركة "أميركا أوّلاً". وبالنسبة للكثيرين تشكّل هذه المؤشّرات فضاء يشبه ما كان واقعاً عشية الحرب العالمية الثانية، حين أعطت الولايات المتّحدة الأولوية للمخاوف المحلّية على الاشتباكات الخارجية، ويشير أيضاً إلى التركيز على الاكتفاء الذاتي الاقتصادي والموقف العسكري الذي يقتصر على الدفاع عن الوطن عوضاً عن الانخراط في صراعات خارجية مكلفة.
نقله إلى العربية: حسين قطايا