الفيتو الروسي والمشروع الغربي في السودان
قضية حماية المدنيين التي اتخذها مشروع القرار البريطاني عنواناً لمشروع القرار الذي أسقطه الفيتو الروسي، هو في الحقيقة مشروع هندسة سياسية واجتماعية غربية في السودان.
أحبطت روسيا مطلع هذا الأسبوع مشروع قرار قدّمته بريطانيا إلى مجلس الأمن الدولي حول الأزمة السودانية، وذلك عبر استخدامها حقّ النقض "الفيتو" في مواجهة مشروع القرار البريطاني المؤيّد من الغرب والدول الدائرة في فلكه.
أعاد استخدام روسيا للفيتو إلى الذاكرة استخدامها له 16 مرّة لصالح سوريا منذ تفجّر أزمتها عام 2011، بينها 10 مرّات بمشاركة صينية، وذكّر أيضاً باستخدام الدولتين له لصالح زمبابوي في العام 2008.
وكانت بريطانيا التي تترّأس مجلس الأمن هذا الشهر قد عملت لمدة طويلة على إعداد مشروع قرار يصدر عن المجلس خلال ترّؤسها له، ليمكّن من تعزيز التدخّل الغربي في شؤون السودان بغطاء دولي عنوانه "حماية المدنيين"، بعد فشل الجهود الغربية في توظيف مجلس حقوق الإنسان وتحالف جنيف الذي أسسته أميركا في شهر آب/أغسطس الماضي بمشاركة بعض الدول الغربية و3 دول عربية، وبحضور الاتحاد الأفريقي ومنظّمة الايغاد.
سعى مشروع القرار البريطاني إلى إدخال قوات دولية إلى السودان من دون موافقة السلطات السودانية، وإلى تشكيل آلية امتثال "Compliance Mechanism"، تتبع إلى الأمين العام للأمم المتحدة، تقوم عملياً مقام البعثة الأممية "يونتامس" (2020-2023)، لتعمل على السيطرة على مقاليد الأمور في السودان، ولتشكّل حاضره ومستقبله ثقافياً واجتماعياً وسياسياً بعيداً عن إرادة مواطنيه، علماً بأن سلطات تلك البعثة كانت أعلى من سلطة الدولة، وكانت بذلك وصيةً عليها.
وقد يسّر حمل بريطانيا لقلم السودان في مجلس الأمن، ابتدارها النقاش حول القضايا السودانية في اجتماعاته، وكذا ابتدار صياغة مشروعات القرارات ذات الصلة بتلك القضايا بما فيها هذا القرار.
استقرّ العمل بمنهج "حامل القلم" في مجلس الأمن في العام 2003، ويحمل قلم الدول الأعضاء في المنظة الدولية نظرياً الدول الأعضاء في مجلس الأمن، غير أن الممارسة العملية خلال عقدين من الزمن أثبتت أنّ الحقّ الفعليّ في حمل أقلام الدول يعود حصراً إلى بريطانيا وأميركا وفرنسا.
وتبدي دول كثيرة قلقاً ومخاوف من هذه الممارسة، التي جعلت قضاياها معلّقة على رؤى وتقديرات الدول الكولينيالية الثلاث، فهي التي تقود وتشكّل نتائج القرارات التي يصدرها مجلس الأمن بحقّ أيّ دولة تُعرض قضيتها عليه، الأمر الذي كرّس نمطاً من الهيمنة الغربية على قرارات المجلس ومصائر الشعوب وقضاياها، وهو ما يدعو الدول لمناهضته.
ولقد فطنت روسيا لمرامي بريطانيا حاملة قلم السودان، وأحاطت بمخاطر مشروع القرار المُقدّم منها للمجلس، فأوقفت إصداره، وفضحت مضامينه وأهدافه وطبيعته في كلمة مندوبها في جلسة مجلس الأمن الذي قال:
- إن المشكلة الرئيسة في المسوّدة البريطانية هي أنها تستند إلى فهم خاطئ فيما يتصل بمن يتحمّل المسؤولية عن حماية المدنيين في السودان وضمان السيطرة على حدود البلاد وأمنها. وهناك أيضاً تصوّر خاطئ يتصل بمن يحقّ له اتخاذ القرارات بشأن دعوة القوات الأجنبية إلى السودان. إن حكومة السودان وحدها هي التي ينبغي لها أن تؤدي هذا الدور.
- نعتبر مشروع القرار الذي تبنّاه زملاؤنا، محاولة للتدخّل في شؤون السودان، وتسهيل مشاركة دولهم في المزيد من الهندسة السياسية والاجتماعية في البلاد.
- نحن نحثّكم جميعاً على التخلّي نهائياً عن التفكير الاستعماري الجديد، والتخلّي عن كلّ محاولاتكم لخلق الفوضى، بشكل مصطنع في البلدان التي تنتهج سياسات مستقلة من أجل الاصطياد في مياهها العكرة.
- في ظل عدم استجابة "قوات الدعم السريع" لقرار مجلس الأمن لإنهاء حصارها لمدينة الفاشر وغيرها من المدن، فإن مشروع القرار الحالي يدعو في الأساس إلى تشجيع استمرار الأعمال العدائية.
- من المهم أن نتخلّص من المعايير المزدوجة، والتي تبدو فادحة بشكل خاص في حالة السودان. فعندما يتعلّق الأمر بالسودان، تُنادي بعض البلدان بصوت عال بوقف إطلاق النار، ووقف العنف وحماية المدنيين، بينما في حالة غزة، تعطي هذه البلدان ذاتها "تفويضاً مطلقاً" لـــ"إسرائيل" حتى تواصل التصعيد، متجاهلة الانتهاكات الصارخة للقانون الإنساني الدولي من قبل "الجيش الإسرائيلي". وعلى نحو مماثل، تعطي هذه البلدان الأولوية لـ(حقّ "إسرائيل" في الدفاع عن النفس وحماية "مواطنيها")، ولكن عندما يتعلق الأمر بالسودان، فإنها تنكر بطريقة أو بأخرى الحقّ نفسه لحكومتها وتتهم الجيش السوداني بكلّ الشرور.
- إننا نختلف تماماً مع الرواية التي يروّج لها القائمون على هذه الورقة حول الوضع الإنساني المزري وتجاهلهم المتعمّد لآراء وبيانات الوكالات السودانية المعنية. إن وكالات الأمم المتحدة الإنسانية وشركاءها الغربيين بحاجة إلى تجديد ذاكرتهم فيما يتعلق بالمبادئ الإنسانية التوجيهية للأمم المتحدة، بما في ذلك الطبيعة غير المسيّسة لأيّ مساعدة. ومن غير المناسب المطالبة بأن يفتح السودان جميع حدوده أمام وصول المساعدات الإنسانية مع عدم استخدام المعابر الحدودية العديدة التي توفّرها سلطات الدولة لتقديم المساعدات.
إن قضية حماية المدنيين التي اتخذها مشروع القرار البريطاني عنواناً لمشروع القرار الذي أسقطه الفيتو الروسي، هو في الحقيقة مشروع هندسة سياسية واجتماعية غربية في السودان، كما قال مندوب روسيا في مجلس الأمن، وقد سعت القوى الغربية إلى تحقيقه منذ بداية التغيير الذي حدث في السودان في العام 2019، وتطوّر العمل فيه من خلال أداء البعثة الأممية "يونتامس".
للقوى الغربية أطماع في السودان، فهي تطمع في موقعه الجيواستراتيجي، وفي موارده القادرة على المساهمة في معالجة أزمات العالم في الغذاء والطاقة وغيرها، وتطمع في توظيف قدرته الاستثنائية في التأثير على الفضاء الأفريقي، حتى تستأثر بموارد وثروات القارة القادرة على معالجة أزمات العالم المتمثّلة في الغذاء والطاقة، ولتجعل من ما تنتجه القارة من مواد خام حقاً خاصاً فقط بالمليار الذهبي.
للغرب أيضاً مخاوف، فتجربة السودان مع الصين وروسيا منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي قد أسهمت في تغلغل الدولتين في أفريقيا، وتمدّد نفوذهما فيها على حساب الدول الغربية صاحبة السبق في العلاقة مع أفريقيا بحكم تاريخها الكولنيالي، الأمر الذي زاد من حدة الصراع الدولي في القارة التي تنتابها موجة تحرّرية جديدة تضاءل على أثرها الوجود والنفوذ الغربي، وتنذر المعطيات بتزايد مساحات النفوذ الروسي الصيني وهو ما يمكن أن يؤدي السودان دوراً معتبراً في تكريسه حال استقرّت أوضاعه، وتمتّع بحرية تمكّن من تكريس سلطة جديدة ذات توجّهات استقلالية تحرّرية مسنودة بقوة المجتمع، وهنا تكمن المخاوف الغربية، وهنا تكمن أهم أسرار وأسباب تفجير الأوضاع في السودان.