"Responsible Statecraft": لماذا تبدو حرب السودان عصيّة على صناعة ترامب للصفقات؟
سقوط الفاشر يكشف فشل اعتماد واشنطن على الوسطاء الإقليميين، وكثير منهم متورطون بشكل مباشر، لإنهاء الصراع.
-
"Responsible Statecraft": لماذا تبدو حرب السودان عصيّة على صناعة ترامب للصفقات؟
مجلة "Responsible Statecraft" الأميركية تنشر مقالاً يقدّم تحليلاً لمرحلة جديدة في الحرب السودانية، حيث تمكّنت قوات الدعم السريع من حسم السيطرة على دارفور، فيما تتعمّق الانقسامات الإقليمية التي تعيق أي تسوية. كما يُبرز عجز إدارة ترامب عن فهم وتشخيص جذور الصراع.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
لأكثر من 500 يوم، تابع العالم كيف قامت قوات الدعم السريع شبه العسكرية بخنق آخر حامية عسكرية رئيسية للجيش في دارفور بشكل ممنهج، من خلال الحصار والتجويع والقصف العشوائي. والآن، مع إعلان قوات الدعم السريع سيطرتها على مقر الفرقة السادسة مشاة التابعة للقوات المسلحة السودانية في الفاشر، وصلت هذه الاستراتيجية إلى نهايتها المأسوية.
يُعدّ الاستيلاء على هذه المدينة التاريخية انتصاراً عسكرياً كبيراً لقوات الدعم السريع وزعيمها محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، على الرغم من أنه انتصار خلّف ما لا يقل عن 1500 قتيل من المدنيين، بمن فيهم 100 مريض في أحد المستشفيات. وهو انتصار يُرسّخ التقسيم الفعلي للبلاد، حيث تُحكم قوات الدعم السريع سيطرتها على جميع أنحاء دارفور، وتدير شؤونها من حكومتها الموازية التي أنشأتها حديثاً في نيالا بجنوب دارفور.
في المقابل، تتمسك الدولة التي يقودها الجيش السوداني بالمركز النهري والشرق انطلاقاً من بورتسودان.
وقد أعرب مبعوث إدارة ترامب نفسه علناً عن هذا الخوف، حيث حذّر مستشار الرئيس لشؤون أفريقيا، مسعد بولس، من "وضع قائم على الأرض مشابه لما شهدناه في ليبيا".
جاء سقوط الفاشر بعد يوم واحد فقط من اجتماعات ما يُسمى "الرباعية"، وهو منتدى دبلوماسي يضم الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة في واشنطن. وبينما كانت تلك الاجتماعات جارية، عُقدت محادثات غير مباشرة في العاصمة الأميركية بين وفد حكومي سوداني برئاسة وزير الخارجية السوداني، ووفد من قوات الدعم السريع برئاسة الغوني دقلو، رئيس قسم المشتريات في هذه القوات شبه العسكرية الخاضعة للعقوبات والشقيق الأصغر لزعيمها.
وقد أشاد البعض بالبيان المشترك الصادر عن الرباعية في 12 أيلول/سبتمبر، والذي مهّد الطريق لهذه التطورات باقتراحه هدنة لمدة ثلاثة أشهر وعملية سياسية، ووصفوه بأنه إنجاز دبلوماسي. في الواقع، كان هذا البيان مجرد توافق هش بين دول تُغذّي بنشاط طرفي النزاع؛ وقد رفضه رئيس أركان الجيش السوداني منذ البداية.
في هذا المستنقع دخلت إدارة ترامب، بقيادة بولس. وبعد نجاحها في التوسط لوقف إطلاق نار هش في غزة، تعتقد الإدارة أنه يمكن تكرار نهجها في إبرام الصفقات في السودان، لكن هذا يمثل سوء فهم عميقاً لطبيعة الصراع والأدوات المتاحة.
لقد وفرت حرب غزة، على الرغم من كل أهوالها وتعقيداتها، مجموعة من الظروف الأكثر ملاءمة. ومن المهم الإشارة إلى وجود توافق شبه كامل بين اللاعبين الإقليميين الرئيسيين، حيث تتشارك الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر مجموعة مشتركة من الأهداف، وهي إزاحة حماس، وإنهاء العمليات العسكرية، وتحقيق سيناريو "اليوم التالي" المستقر. وقد مكّن هذا الإجماع من ممارسة ضغط دبلوماسي على كلا الجانبين، حيث مارست تركيا وقطر ومصر ضغطاً لا يقدّر بثمن على حماس، بينما مارست الولايات المتحدة نفوذاً حاسماً على "إسرائيل" لقبول الاتفاق.
وقد سهّل ذلك التوصل إلى صفقة واضحة تقوم على مبدأ المقايضة: إطلاق سراح الأسرى مقابل وقف القتال. وبالتالي، كان من الممكن معالجة الكارثة الإنسانية الفورية مؤقتاً، بينما جرى تأجيل المسائل الشائكة المتعلقة بالتسوية النهائية إلى مراحل لاحقة.
أما السودان فيمثل عكس هذه الظروف، حيث يتمثل الفارق الرئيسي في أن الولايات المتحدة ليست قوة مهيمنة هنا، بل هي لاعب ثانوي في ساحة مزدحمة بالقوى الإقليمية الطموحة. لقد أصبح الصراع مسرحاً للتنافسات الإقليمية والدولية، حيث يشارك فيه الأعضاء العرب في الرباعية، وإيران، وتركيا، وحتى روسيا وأوكرانيا (الأولى كمورد للأسلحة، والأخيرة يُزعم أنها تشارك بقوات خاصة) وكل ذلك يحدث داخل دولة منهارة.
نظراً لضعف قنوات التواصل مع الأطراف المتحاربين، اتّسمَ رد إدارة ترامب بتطبيق نموذج التدخل الخارجي، وهو نموذج رأت أنه مُبرَّر بفضل الدور النشط الذي لعبته مصر في التوسط لوقف إطلاق النار الأخير في غزة. وأفادت التقارير بأنّ الرئيس ترامب كلّف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بـ"الضغط على" البرهان، قائد القوات المسلحة السودانية، وكلّفه بتسليم حليفه لمحادثات واشنطن.
إلا أنّ هذا النموذج يبدأ في التداعي عندما يثبت أن نفوذ الراعي على عميله غير كامل. وينهار تماماً تحت وطأة عيب أكثر خطورة: المشاركة النشطة للوسطاء كموردين للأسلحة للأطراف المتحاربين، وهو واقع لم تكن الولايات المتحدة مستعدة حتى الآن لمواجهته بنفوذها الخاص.
ويظهر هذا النفاق بشكل صارخ وخاص في تصرفات الإمارات العربية المتحدة. لم يجفّ حبر خارطة طريق الرباعية الصادرة في أيلول/سبتمبر الماضي إلا قليلاً حتى أحكمت الطائرات المسيرة الإماراتية الحصار على الفاشر، ما مهّد لسقوطها في نهاية المطاف. على الرغم من دعواتها العلنية إلى وقف فوري لإطلاق النار ومستقبل قائم على "انتقال مدني"، فإن توفير الأسلحة المتطورة والمقاتلين الأجانب، بمن فيهم مرتزقة كولومبيون يُزعم أنهم جُنّدوا عبر شركات مقرها في الإمارات، يسخر من المبدأ الخامس للرباعية نفسها، والذي ينص على أن "إنهاء الدعم العسكري الخارجي أمر أساسي لإنهاء الصراع".
على الجانب الآخر، انحازت مصر والمملكة العربية السعودية بشكل حاسم إلى جانب القوات المسلحة السودانية. وقد تعزز دعمها الدبلوماسي بما ورد عن تزويد مصر للجيش بالأسلحة والمعلومات الاستخبارية. واتهم حميدتي نفسه القاهرة بتنفيذ غارات جوية ضد مواقع قوات الدعم السريع في وسط السودان العام الماضي، في أعقاب مكاسب الجيش التي شهدت استعادة القوات المسلحة السودانية للعاصمة الخرطوم والولايات المحيطة بها.
وينعكس هذا الانقسام الخارجي في انقسام أكثر خطورة على الأرض. ففي خطاب ألقاه في عطبرة بعد أيام من لقائه بالرئيس السيسي، ألقى الجنرال البرهان خطاباً نارياً رافضاً أي سلام مفروض. وأعلن: "لن تكون هناك مفاوضات مع أي طرف"، مضيفاً أن العملية المقبولة الوحيدة هي تلك التي "تستعيد كرامة السودان... وتزيل أي إمكانية مستقبلية لتمرد آخر". من الواضح أن البرهان ليس الشخصية المرنة التي كان من المفترض أن يقدمها السيسي، بل هو قائد ائتلاف هش في زمن الحرب يعتبر التنازل خيانة.
ينبع تحدي الجيش من إطار يرى السلام بمنزلة استسلام لقوات الدعم السريع. يتمسك الجيش السوداني بإعلان جدة الصادر في أيار/مايو 2023 وخارطة طريقه السياسية الخاصة، التي قُدمت إلى الأمم المتحدة، والتي تفترض أن الجيش هو حامي الدولة وقوات الدعم السريع قوة متمردة تابعة له. يتطلب هذا الإطار استسلام قوات الدعم السريع الكامل في المناطق التي سيطرت عليها كثمن للانضمام إلى أي عملية سياسية، وهو شرط غير قابل للتفاوض بالنسبة إلى قوة تسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي منذ اندلاع الحرب في نيسان/أبريل 2023.
في المقابل، تتبنى قوات الدعم السريع مبادئ اتفاقية المنامة لعام 2024، وهي نتاج محادثات سرية رفيعة المستوى عُقدت في البحرين بين نواب الفصائل المتحاربة، بتسهيل من المخابرات المصرية والإماراتية. توفر هذه الاتفاقية لقوات الدعم السريع طريقاً للبقاء السياسي، بينما تسمح لها بالادعاء بالالتزام بالمعايير القانونية الدولية، وهو ادعاء تطلقه حتى في الوقت الذي ترتكب فيه قواتها عمليات قتل على أساس عرقي في الفاشر، وبعد أن قررت إدارة بايدن رسمياً في وقت سابق من هذا العام أنها ارتكبت إبادة جماعية.
طالبت الاتفاقية بتسليم مجرمي الحرب المتهمين للمحكمة الجنائية الدولية، وهي قائمة تضم الرئيس المخلوع عمر البشير، الذي لا يزال محتجزاً لدى الجيش السوداني. كما دعت إلى إعادة هيكلة الجيش من أعلى إلى أسفل وتفكيك الشبكات الإسلامية التي أصبحت ضرورية لبقاء الجيش عسكرياً.
وكما كان متوقعاً، انهارت المحادثات، حيث تنصلت قيادة الجيش من الاتفاقية لأن بنودها استهدفت المتشددين الإسلاميين الذين يشكلون العمود الفقري لجهودها الحربية.
في مثل هذا السياق المستقطب، تتطلب استراتيجية الوساطة الناجحة أكثر من مجرد عقد اجتماعات رفيعة المستوى وإصدار بيانات مشتركة. إنها تتطلب مشاركة مستمرة ورغبة في ممارسة ضغط حقيقي على الداعمين الخارجيين، فضلاً عن التزام طويل الأجل بدعم عملية سياسية شاملة حقاً.
حتى الآن، لم تُظهر إدارة ترامب، بتركيزها على المكاسب السريعة والظهور الإعلامي، رغبة تُذكر في مثل هذا المسعى.
نقله إلى العربية: الميادين نت.