"فورين بوليسي": خفض المساعدات الأميركية دمَّر اللاجئين السوريين
يواجه العديد من اللاجئين السوريين، خيارات صعبةً بين البقاء في مخيمات بائسة أو المخاطرة بالعودة إلى وطن مضطرب.
-
"فورين بوليسي": خفض المساعدات الأميركية دمَّر اللاجئين السوريين
مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يروي فيه الكاتب ما عاينه من مأساة اللاجئين السوريين في لبنان، مسلطاً الضوء على الأطفال بوصفهم أولى ضحايا الحرب، والإهمال الدولي، والأنانية السياسية الأميركية حيث وصف خفض المساعدات بأنّه مدمّر لهم.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
ربما يعود ذلك إلى عمري، كوني أباً لشابّ في العشرينيات من عمره، ومراهق، ينظران إليَّ كضرورة مُؤسفة، ما يجعلني أشتاق إلى سنواتي الأولى في التربية. يا إلهي كم أشتاق إلى قضم معصمي وأكواع أطفالي السمينة، وهم يستقبلونني بمناداتي بابا حين أعود إلى المنزل، والاستماع للتفاصيل المطولة جدّاً ليوم طفل في عمر 7 سنوات.
هذا أحد أسباب حزني الشديد خلال رحلتي الأخيرة إلى لبنان وسوريا، بدعوة من مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، حيث وجدت نفسي بين اللاجئين السوريين، وفي خضمّ القصص المروّعة التي سمعتها من البالغين عن الظروف المعيشية المتردية، وفرص العمل النادرة، والخوف من مداهمات الشرطة، بينما يواجهون الآن خياراً صعباً، بين البقاء في ظروف بائسة في لبنان أو المخاطرة في العودة إلى سوريا، التي وصفها فريق الأمن التابع للأمم المتحدة في دمشق بأنَّها "غير مستقرَّة ومتقلبة".
الأطفال في وضع هشّ للغاية، لا يمكن أن أنسى وجوههم، وستبقى محفورةً في ذاكرتي. عيونهم الداكنة العميقة، نظراتهم الفضولية، وابتساماتهم الخفية، بينما أطفال آخرون يلعبون في برك مياه قرب مبنى مدرسة مهجورة، تؤوي الآن 41 عائلةً في طرابلس شمال لبنان بالقرب من الحدود السورية. رأيت صبياً صغيراً يرتدي زيّاً أزرق بالكامل، ومعه اللعبة الوحيدة التي رأيتها هناك، سقط في الماء أمامي مباشرةً، وهو يضحك بصوت عال.
ثم كان هناك طفلان أحدهما يرتدي ملابس رياضية خضراء مكتوب عليها "نيويورك غيتز" بشكل غير متوقع، مع شقيقته الصغيرة يلعبان على ممرّ الحصى في "مخيم للاجئين غير رسمي"، بحسب لغة "الإداريين الأمميين"، بالقرب من زحلة في وادي البقاع اللبناني.
إنَّ تسمية "خيمة" خاطئة، نظراً لأنَّ الكلمة تستحضر صُوراً للخيّامِ، وهنا الملاجئ من الخشب الهشّ الذي اختلط مع أقمشة مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين القديمة، والصفيح المموَّج، وأي شيء آخر يمكن حصاده من أكوام القمامة، بينما مقابل هذا الامتياز تدفعُ العائلة الواحدة لمالك الأرض نحو 150 دولاراً أميركياً شهرياً، زائداً الرسوم الإضافية لجمع القمامة، والتي يبدو أنَّها لم تُجمع أبداً.
ومن بين مخيمات النازحين في المنطقة، كانت زحلة أسوأ ما رأيته، وليس هذا رأيي فقط، بل هو رأي سفير مُتقاعد أيضاً، سافرت معه وكان له مسيرة مهنية استثنائية في بعض أصعب الأماكن في الشرق الأوسط.
كان كل هذا فظيعاً في ظاهره، لكنَّني أحزن على هؤلاء الأطفال الصغار، بسبب أمر تعلمته على مر السنين، عن أنَّ الحرب والسياسة واللامبالاة والعداء قضت على هؤلاء بحياة مُهمَّشة، بلا كرامة، وعرضة للعنف والاستغلال. وعلى الأرجح، لن ينجو هؤلاء الأطفال من إرث قسوة الرئيس السوري السابق بشار الأسد، وسخرية اللحظة الراهنة في السياسة الأميركية، واستغلال النخبة اللبنانية لهم لتحقيق مكاسب سياسية أو مالية أو كليهما.
هذا ليس اكتشافاً جديدا بالطبع. لقد وثّق الصحافيون والمنظمات الإنسانية محنة اللاجئين السوريين في لبنان منذ فترة. لكن قراءة هذا الموضوع في أثناء احتساء القهوة على طاولة مطبخي شيء، ومواجهة الواقع القاسي للمعاناة واسعة النطاق شيء آخر. لقد راودتني لأيام أفكار حول كيفية مساعدة الأطفال الذين قابلتهم، والتي غالباً ما تتضمَّن حلماً وحُمَّى التهيُّؤات والخيال، حيث أزور متجر "تارغت" المحلي، وأشتري ملابس شتويةً لهم، وأضعها في حقائب، وأعود إليهم بسرعة. أعلم أنَّ "متلازمة المنقذ الغربي" ليست مظهراً جيداً، وبالطبع، ستكون قطرة في بحر الحاجة. سامحوني، لا أطيق مشاهدة الأطفال الصغار يعانون.
ما يزيد الطين بلةً هو الإقرار المقلق للغاية بأنَّ الولايات المتحدة قد زادت بؤس هؤلاء الأطفال، من خلال الدراما السياسية المطولة التي خاضتها واشنطن بين تيار العولمة، وحملة شعار "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، حيث خفضت ميزانية المساعدات الخارجية الأميركية، ما أثَّر بطريقة مروعة على مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي تفتقر إلى الموارد اللازمة لإصلاح حتى مبنى مدرسة في شمال لبنان، أو وتوفير ملابس شتوية للأطفال. ومن مكان زيارتي بالقرب من طرابلس، وفي سهل البقاع، توضَّح أمامي أنَّ القرار الأميركي المبتهج بإيقاف المساعدات الخارجية والمستند إلى فكرة أنَّ الإدارات السابقة كانت سخية للغاية، كان سخيفاً وضيق الأفق.
إنَّ الآثار الواقعية لأصحاب شعار " جعل أميركا عظيمة مرة أخرى " ونهجهم المتعصب في استئصال ميزانية المساعدات الخارجية مدمرة. ففي لبنان وهو بلد يفتقر إلى الموارد الكافية حظرت الحكومة على مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تسجيل اللاجئين لمدة عقد من الزمن، ما يعني أنهم لا يستوفون شروط الحصول على المساعدة، ومن دون رعاية طبية، ودعم نفسي، أو مساعدة للأشخاص ذوي الإعاقة، زائداً أنَّ فُرص العمل شبه معدومة وهناك أطفال لاجئون لم يدخلوا المدرسة قطُّ. لقد جعل نهج إدارة ترامب في تقليص المساعدات الخارجية كل هذا أسوأ.
وليس من الصعب تخيُّل أطفال بلا تعليم، يشعرون بالغربة، يسمون " سوريين " ولم تطأ أقدامهم سوريا أبداً، في أن يصبحوا غاضبين وعنيفين، فهم جيل ضائع عرضة للتطرف، وأمراء الحرب، والمتاجرين بالبشر، والعصابات، وهذا أمر مؤلم للغاية. الفوضى وعدم الاستقرار ليسا حتميين، لكن إدارة ترامب تزيد من فرص القهر والعنف من خلال جعل الأمور أكثر صعوبة على الحكومات والمفوضية وشركائها في معالجة بعض أكثر التحديات إلحاحاً والتي يواجهها اللاجئون.
هذا مكان نموذجي للغاية لهبوط خبراء الفكر في واشنطن، الذين يحبون الجدال بأنّ تخفيضات الميزانية في الولايات المتحدة تؤدي إلى عدم الاستقرار في الخارج. وهو استخفاف كاريكاتوري، يغض النظر عن الشباب اللاجئين غير الراضين، والعاطلين من العمل، الذين قد تجذبهم الجماعات المتطرفة التي تقدم لهم إحساساً بالهوية والهدف والرسالة. ليس من الصعب أن نتخيل كيف يمكن أن تصبح المخيمات العشوائية بؤراً للتطرف.
ومن باب الإنصاف، رغم كل التخفيضات، لا تزال الولايات المتحدة أكبر مانح للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بينما العار على الأوروبيين والكنديين المتفاخرين بأنفسهم. وتُعتبر مساهمات واشنطن عبئاً جزئياً لأن الآخرين لا يفعلون ما يكفي. لكن فيما يخص الأعباء، فهو ليس عبئاً ثقيلاً. ما قدمه الأميركيون للمفوضية قبل تخفيضات المساعدات الخارجية، وما يقدمونه الآن، لا يمثل سوى شيء بسيط في حسابات الميزانية العامة للولايات المتحدة. وبفضل ذلك، يمكننا أن نضمن حصول الأطفال الصغار على سترات شتوية وأن تلبي الملاجئ المؤقتة بعض المعايير الدنيا الأساسية. هذه الخطوات المتواضعة يجب أن تكون ضمن أهداف حتى ميزانية المساعدات الخارجية المخفضة.
صحيح أنَّ هؤلاء الأطفال ليسوا أطفالنا، ولا يمكننا إنقاذ العالم، لكن يمكننا أن نجعل حياة طفل صغير أو رضيع أقل هشاشة بقليل.
نقله إلى العربية: حسين قطايا.