"Mondoweiss": رحلتي في غزة كطبيبة طوارئ

منذ بداية الحرب، تطوّعت كطبيبة طوارئ في غزة لمساعدة شعبي. وعلى مدى أكثر من عام، شهدت أهوالاً لا حصر لها، وتشرّدت مراراً وتكراراً بسبب القصف والغزو الإسرائيلي.

0:00
  • مستشفى الشفاء
    مستشفى الشفاء

موقع "Mondoweiss" ينشر مقالاً كتبته طبيبة فلسطينية في قطاع غزّة، شروق أحمد، التي عملت في عدّة مستشفيات شمالاً وجنوباً. روت تجربتها، وكيف انتظرت الموت، وفي الوقت نفسه رأت بصيص أملٍ من خلال عملها.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

منذ بداية الحرب، تطوّعت كطبيبة طوارئ في غزة لمساعدة شعبي. وعلى مدى أكثر من عام، شهدت أهوالاً لا حصر لها، وتشرّدت مراراً وتكراراً بسبب القصف والغزو الإسرائيلي. لقد فقدت أحباء، ورأيت مرضى يموتون بطرق مروّعة، وخشيت على حياتي. ومع ذلك، حتى في أحلك اللحظات، وجدت ومضات من الضوء.

في انتظار الموت في مستشفى الشفاء

منذ البداية كان الوضع في مستشفى الشفاء في مدينة غزة كارثياً. لم يكن هناك ما يكفي من الأسرّة للجرحى الذين كانوا متناثرين في كلّ مكان. وتكدّست الجثث في "خيمة الشهداء" في ساحة المستشفى.

في التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وجدت بين الشهداء ابن عمي وزوجته وابنتيهما الصغيرتين. أجسادهم ممزّقة إلى أشلاء لا يمكن التعرّف إليها، ضحايا القصف الإسرائيلي العشوائي الذي دمّر حيّهم. لم أدرك أنهم هم حتى رأيت بطاقات هويّاتهم التي سقطت من بقايا ملابسهم الممزّقة. كان المشهد مليئاً بالأسى والحزن.. فسيفساء قاسية من البراءة والمأساة.

وبعد أن عجزنا عن التمييز بين ابن عمي وزوجته، دفناهما معاً، ملفوفين في كفن واحد، وكأنّ الموت نفسه لا يستطيع أن يفصل بينهما. وكان الصمت الذي أعقب ذلك يصمّ الآذان، لكن خسارتهما تردّد صداها في كلّ ركن من أركان روحي.

في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، منعت "إسرائيل" دخول الوقود والغذاء والمياه إلى غزة، بينما حاصرت القوات الإسرائيلية مستشفى الشفاء. وفي المستشفى، شرب بعضنا محلولاً ملحيّاً وجدناه في غرفة التخزين للبقاء على قيد الحياة.

وناشد مسؤولو المستشفى "الجيش" الإسرائيلي السماح للمرضى بالإخلاء. وبمجرّد حدوث ذلك، انقطع التيار الكهربائي، تاركين الطاقم الطبي محاصراً لمدة يومين، محاطاً بالعدو، في انتظار الموت.

لقد اجتمعنا في مكان مظلِم في صمت تام، محاطين فقط بأصوات إطلاق النار والدبابات والقصف. أتذكّر أنني افتقدت عائلتي، التي كانت قد تمّ إجلاؤها بالفعل إلى جنوب غزة في ذلك الوقت. لم تكن لدي أيّ وسيلة للاتصال بهم، ولم أكن أعلم إذا كنت سأراهم مرة أخرى أم لا.

وفجأة، بدأ أحد الأطباء بغناء أغنية "سوف نبقى هنا"، وهي أغنية عن الحياة وجمالها. أعتقد أنّه أراد أن يصرف انتباهنا، ويصرف انتباهه، عن الخوف. كان صوته جميلاً وهو يغني الكلمات: "سوف نبقى هنا حتى يختفي الألم، سوف نعيش هنا، ويصبح اللحن جميلاً، وطني، وطني".

أخيراً، قمنا بإخلاء المستشفى، ونقُلنا في سيارات الإسعاف. وقبل أن نخرج من المنطقة، فتّشنا جنود الاحتلال، واحتجزوا العديد من كبار الأطباء.

أماكن جديدة.. الرعب نفسه

عندما وصلت إلى الجنوب، ذهبت على الفور للبحث عن عائلتي. وبينما شعرتُ بالسعادة والأمان بعد لمّ شملهم أخيراً، شعرتُ بحزنٍ مألوف، وكأنه عالق في حلقي. بعد الوقت الذي أمضيته في مستشفى الشفاء، وبعد أن شهدت ما كان يحدث لوطني، امتلأتُ بإحساس مؤلم بالخسارة.

قضيت ذلك اليوم مختبئةً حتى لا يراني أحد أبكي. تساءلت: ماذا يبقى من الشهداء بعد الموت؟ العظام والذكريات، هل هذا كل ما تبقّى من الشخص؟ من يرث خوفه وقلقه وحزنه؟

ما إن وصلت إلى خان يونس، حتى بدأت العمل في مستشفى ناصر. شهدتُ هناك الرعب نفسه الذي عشته في مستشفى الشفاء.

لا يزال مشهد مفجع محفوراً في ذهني. امرأة حامل ملقاة على الأرض، بطنها مفتوح، أمعاؤها وكبدها مكشوفة. كافح طبيب لإنقاذها، لكنها وطفلها الذي لم يولد بعد فقدا حياتهما. جمّدني الدم والصراخ والمأساة في مكاني.

كيف يمكن لطفل لم يرَ الحياة بعد أن يموت إلى جانب أمّه؟ كيف يمكن لأمّ أن تغادر العالم من دون أن تحتضن طفلها؟ أصبح ذلك الطفل مجرّد رقم آخر في حصيلة لا يمكن تصوّرها. كلّ ما يمكننا أن نأمله هو أن يرتاحوا معاً في سلام.

في النهاية، وصل "الجيش" الإسرائيلي أيضاً إلى مستشفى ناصر. في آذار/مارس، تمّ إجلاؤنا مرة أخرى وذهبت للعمل في مستشفى الكويتي في رفح.

في 25 آذار/مارس 2024، بينما كنت في الخدمة في الكويتي، ضربني واقع الحرب بأقسى طريقة. قرابة الساعة 1:00 صباحاً، تمّ نقل جثث الشهداء إلى المستشفى، ضحايا القصف المتواصل. من بينهم رزان محمد برهوم - خريجة الطب البالغة من العمر 24 عاماً، وصديقتي وزميلتي في الدراسة وأختي في الروح.

لقد قُتلت رزان، التي كانت تحفظ القرآن الكريم وكانت في الأشهر الأولى من حملها بعد صراع طويل للحمل، أثناء نومها مع آخرين من عائلتها عندما قُصف منزلهم.

لن أنسى أبداً اللحظة التي لففت فيها جسدها في كفن بيديّ، والدموع تنهمر على وجهي. لم تكن مجرّد صديقة؛ بل كانت مثالاً للرشاقة والمرونة، شخصاً يوازن بين واجباته كزوجة وطالبة وأمّ في المستقبل بقوة غير عادية.

كانت المشرحة مليئة بالعشرات من الشهداء، الذين وُضِعوا في خيمة خاصة في انتظار الدفن. بينما كنت أقول وداعاً نهائياً لرزان، لم أستطع تصديق حقيقة أن هذه كانت المرة الأخيرة التي أراها فيها.

نور وسط الظلام

أتمنّى لو كان هذا هو النزوح الأخير. في نيسان/أبريل، بعد اجتياح القوات الإسرائيلية لرفح، هربت إلى دير البلح، حيث التحقت بمستشفى شهداء الأقصى. ومنذ ذلك الحين، أصبحت طبيبةً متطوّعةً في قسم الطوارئ بالمستشفى.

حدثت لحظة لا تُنسى في تشرين الأول/أكتوبر 2024 بينما كنتُ أغادر العمل وأعود إلى الخيمة التي أقيم فيها مع عائلتي بالقرب من المستشفى. سمعت شخصاً يصرخ، "دكتورة شروق! الرأس يخرج!"

أخذت حقيبة الطوارئ الخاصة بي وهرعت إلى خيمة المرأة وأنجبت طفلة سليمة باستخدام الأدوات التي كانت بحوزتي فقط. ولحسن الحظ، كانت الأمّ والطفلة في أمان، وسارت الأمور بسلاسة. كانت لحظة فخر وامتنان، ونور ساطع وسط الظلام.

أطلقت عليها والدتها اسم شروق، مثلي.

أضاءت هذه اللحظة الظلام بداخلي وملأت قلبي ببصيص من الأمل. جعلتني أشعر أنّ وجودي يحمل معنى، وأننا أكثر من مجرّد أرقام على شاشة. بين يدي، شعرت بمعجزة ولادة حياة جديدة، تذكّرنا بأنه حتى وسط ظلال اليأس، لا يزال هناك نور وهدف وجمال التجديد.

نقلته إلى العربية: بتول دياب

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.