"The Nation": الشيف محمود المدهون استُشهد لإطعام سكان غزة الجائعين

لقد بعث قتل الشيف محمود المدهون على يد "إسرائيل" برسالة مخيفة مفادها أن لا أحد في مأمن، بمن في ذلك العاملون في المجال الإنساني الذين يقفون في طريق محو غزة.

0:00
  • الشيف محمود المدهون، مؤسس مطبخ غزة الخيري، قتل في غارة إسرائيلية في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2024.
    الشيف محمود المدهون، مؤسس مطبخ غزة الخيري، قتل في غارة إسرائيلية في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2024.

مجلة "The Nation" الأميركية تنشر مقالاً كتبه هاني المدهون، أميركي من أصل فلسطيني، نشأ في غزة، حيث لا تزال عائلته تعيش. يحكي فيه معاناة أهله والفلسطينيين في القطاع، وقصة أخيه الذي قتلته "إسرائيل" بعد أن عمل خلال الحرب على إعداد الطعام وتوزيع وجبات للفلسطينيين الذين يجوّعهم الاحتلال.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

كلّما حلّ عيد الشكر، أشعر بحزن عميق على استشهاد شقيقيّ، اللذين قتلهما "الجيش" الإسرائيلي في غزة. ففي العام الفائت، قُتل أخي ماجد وعائلته أثناء نومهم في غارة جوية إسرائيلية. وفي 30 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، استهدفت طائرة مسيّرة إسرائيلية أخي الشيف محمود المدهون على بعد 30 متراً فقط من الملجأ الكائن في شمال غزة، حيث كان ينتظره أطفاله السبعة.

لم يكن مقتل محمود مجرّد هجوم على عائلتي؛ بل كان بمثابة رسالة. فهو لم يكن مقاتلاً، بل كان أباً ورجلاً إنسانياً مخلصاً لمجتمعه. وكانت "جريمته" الوحيدة إبطاء عملية التطهير العرقي الحاصلة في شمال غزة من خلال بذل الجهود الدؤوب لتنظيم المساعدات، وتوصيل الوجبات، وإعالة من حوله.

وأعتقد أنّ قتله لم يكن مجرّد حادث، بل كان المقصد منه إسكات المساعدين العاملين في المجال الإنساني الذين يقفون في طريق محو غزة بالكامل. عندما أمر "الجيش" الإسرائيلي الفلسطينيين في شمال غزة بالفرار إلى الجنوب في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، آثرت عائلتنا البقاء. فقد كانوا أفراداً مطلعين على تاريخ النكبة وصدمتها جيداً ورفضوا التهجير القسري مرة أخرى. فترك الحصار الإسرائيلي وإخلاء الشمال الناس منقطعين عن العالم ومحرومين من المساعدات وتحت وطأة التجويع المتعمّد في ظل حصار مستمر يهدف إلى إجبار الناس على الخروج من القطاع. 

وبصفتي الأخ الأكبر لمحمود، كنت أعلم أنّه يسعى لإثارة إعجابي؛ إلا أنني لطالما كنت فخوراً به. وقد شاركنا معاً في تأسيس مطبخ حساء غزة، ورويت القصص، التي تمّ جمعها من ولاية فرجينيا ومن جميع أنحاء الولايات المتحدة، وعبّرت عن كل ما في داخلي لإبقاء الأمل حياً؛ أما محمود،  فقد نشر سحره في المكان وعمل بلا كلل لجعل حياة كل من حوله أكثر احتمالاً، في وقت استسلم فيه الكثيرون.

في أوائل عام 2024، اتصل بي محمود متحمّساً بشأن عثوره على بائع لا يزال يبيع الأرز المطبوخ. فرتّبنا الأمور لتوزيع الوجبات مرتين في اليوم، لكن البائع سرعان ما توقّف عن العمل. وبعد أسبوع، اتصل محمود مرة أخرى وقال لي: "سأطبخ بنفسي". لم أتفاجأ، فلطالما أصرّ على إعداد وجبات كبيرة لعائلتنا يوم الجمعة. فقلت له: "لك ذلك".

بدأ محمود مشروعاً صغيراً؛ فاستأجر مساحة في منزل أحد أقاربه وقام بالطهي على نار مفتوحة. وفي يومه الأول، أطعم 120 أسرة؛ وفي ذروة عمله، كان يطعم 700 أسرة يومياً. وأصبح مطبخ الحساء المؤقت الخاص به رمزاً للأمل واليأس على حدّ سواء.

ونظراً لتصميمه على تلبية الطلب المتزايد، قام محمود بتوسيع فريقه ليضمّ 15 عاملاً واستخدم 10 أوانٍ كبيرة. وكان يوثّق جهوده، ويختم عمله دائماً بالامتنان.

ولم تتوقّف جهود محمود عند توفير الطعام. ففي أواخر الصيف، استخدم الأموال التي جمعناها لفتح عيادة طبية تعالج نحو 75 مريضاً يومياً، وتوزّع المستلزمات الضرورية مثل حليب الأطفال والحفّاضات. وبحلول الخريف، أنشأ مدرسة صغيرة تقدّم خدماتها لـ560 طالباً، إلا أنها تعرّضت لقصف إسرائيلي وتضرّرت بشكل كبير على الرغم من وجود لافتة كبيرة باللغة العبرية وعلم أميركي كبير بما لا يدع مجالاً للشك. لم تكن رؤيته تتعلّق بمسألة البقاء على قيد الحياة فحسب؛ بل بالحفاظ على الكرامة والإنسانية.

ولم يكن محمود الضحية البارزة الوحيدة في شمال غزة الأسبوع الماضي. فقد قُتل صديقه رئيس وحدة العناية المركّزة في مستشفى كمال عدوان على يد "الجيش" الإسرائيلي في اليوم الذي سبق استشهاده. وقد بعثت وفاتهما برسالة مخيفة مفادها أن لا أحد في مأمن، بمن في ذلك العاملون في المجال الإنساني.

وبعد الهجوم الذي شنّته "إسرائيل" في تشرين الأول/أكتوبر على مستشفى كمال عدوان، دمّرت خلاله الخيام، وأسرت العشرات من الطواقم الطبية وغيرهم من المدنيين، واستولى "جيشها" على سيارات الإسعاف عنوةً، حوّل محمود السوق القديم إلى مركز حيوي للمسعفين والصحافيين. وحتى عندما اضطررنا إلى إغلاق مطبخنا مؤقتاً، واصل محمود عمله. فقام بالطهي لموظفي المستشفى، وبتوصيل المياه المفلترة إلى وحدة غسيل الكلى، ونقل ما يكفي من مستلزماته لدعم المستشفى لمدة ستة إلى عشرة أسابيع. حتى أنّه تمكّن من توصيل المنتجات الطازجة إلى المستشفى، وهو إنجاز لفت انتباه وسائل الإعلام وتدقيق "الجيش" الإسرائيلي لسوء الحظ؛ ليرحل بعدها بأيام قليلة.

وقد كسرني إبلاغ الابن الأكبر لمحمود، الذي كان لا يزال يتعافى من إصابات خطيرة أصيب بها في هجوم إسرائيلي، باستشهاد والده. رحل محمود تاركاً وراءه سبعة أطفال، بينهم طفلة عمرها عشرة أيام فقط لم تتح له الفرصة لتسميتها.

وعدتُ محمود بأخذ إجازة عندما تنتهي الحرب، لكنني لم أتمكّن حتى من دفنه. سأُخلّد ذكراه وأرعى أطفاله وستواصل فروع مطبخه عملها، في حين لا تزال شبكات المساعدات التي أنشأها تساعد العائلات. والحقيقة التي عمل جاهداً على توثيقها تُعدّ بمثابة شهادة على مثابرة شعبنا.

وتذكّرنا حياة محمود أنّه حتى في أحلك اللحظات، ينهض البعض لخدمة الآخرين. فقتله لن يقلل من تأثيره، ولن يسكتني أو يسكت سكان غزة، بل سيعزّز تصميمنا على مواصلة مهمته المتمثّلة في دعم عائلاتنا، والحفاظ على إنسانيتنا، وتذكير العالم بأن غزة لن يمحوها أحد.

لا يزال بايدن يملك السلطة اللازمة لوقف هذه الإبادة الجماعية التي شارك فيها. وآمل أن يتذكّر هو وآخرون اسم أخي، محمود المدهون، الرجل الذي أطعم سكان شمالي غزة في الوقت الذي كانت "إسرائيل" مصمّمة على تجويعهم، بمساعدة الحكومة الأميركية. وفي حال استمرّ الرئيس بايدن في تمكين جرائم الحرب الإسرائيلية وجعلها أمراً طبيعياً وتقويض القانون الإنساني الدولي والنظام القانوني الدولي، فإن كل الأطراف ستخسر، وليس الفلسطينيون في غزة فحسب. 

نقله إلى العربية: حسين قطايا

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.