"972+": تدمير مدينة غزة جريمة بحق التاريخ
تواجه المساجد والكنائس والآثار القديمة التي يعود تاريخها إلى قرون مضت خطر التدمير، إذ تقوم القوات الإسرائيلية بتدمير ما تبقى من المدينة بشكل منهجيّ.
-
ما تبقى من مسجد الإمام الأكبر العمري، وهو أكبر مسجد وأقدمه في شمال غزة
مجلة "972+" الإسرائيلية تنشر مقالاً يسلّط الضوء على التدمير المنهجي للتراث الثقافي والديني في غزة، مركزاً على الأهمية التاريخية لغزة.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
يواجه الفلسطينيون في مدينة غزة خياراً مستحيلاً، إذ يعمل "الجيش" الإسرائيلي على تدمير ما تبقى من معاقل شمال غزة جواً وبراً. وقد فرّ مئات الآلاف من السكان في الأيام الأخيرة مع تصاعد وتيرة العدوان الإسرائيلي، واضطروا إلى دفع مبالغ تصل قيمتها إلى 5000 دولار للانتقال إلى أماكن أخرى، على الرغم من إدراكهم أنهم قد لا يجدون منازلهم حين يعودون. في المقابل، بقي آخرون في منازلهم غير قادرين أو غير راغبين في الفرار إلى مناطق يعرفون أنها لن توفر لهم الأمان أو الكرامة، مفضلين الموت فيها بدلاً من العيش في مخيمات مكتظة في الجنوب.
وفي حين يسعى السكان جاهدين للهرب من الموت، فإنهم لا يملكون القدرة على الحداد على تدمير مدينتهم، لكن المحو الممنهج لمدينة غزة الذي يقوم به "الجيش" الإسرائيلي، من خلال تدمير حيٍّ تلو الآخر، كما فعل في رفح وجباليا وبيت حانون وبيت لاهيا ومعظم مدينة خان يونس، يمحو آلاف السنين من التراث الفلسطيني والعربي، ويمثل جريمةً بحق التاريخ نفسه.
وقد سبق أن تم تدمير الكثير من كنوز الحضارات المتعددة في قطاع غزة على مدى عامين من الإبادة الجماعية التي ترتكبتها "إسرائيل"، لكن الأصول القديمة لمدينة غزة، إلى جانب مركزيتها في تشكيل الهوية الوطنية الفلسطينية والمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، تجعل تدميرها أكثر من مجرد مأساة إنسانية.
يعود تاريخ المدينة إلى آلاف السنين. ويُذكر في "سفر التكوين" أنها كانت مأهولة بالكنعانيين. وقد شكّل موقعها الاستراتيجي بين أفريقيا وآسيا ميناءً حيوياً وهدفاً لغزو الآشوريين والبابليين واليونانيين والفرس والحشمونيين والرومان والعثمانيين. وكما كتب المؤرخ الفلسطيني ورئيس بلدية القدس الشرقية السابق عارف العارف في كتابه "تاريخ غزة" عام 1943، فإن مدينة غزة "لم تُبنَ في قرن معين، ولا هي نتيجة فترة معينة، بل نتيجة كل الأجيال التي مرت، من اليوم الذي كتبت فيه الصفحات الأولى من التاريخ حتى يومنا هذا".
قبل نكبة عام 1948، شكّلت المدينة المركز الرئيس لمحافظة غزة، التي شملت كل غزة الحالية، إضافة إلى المجدل وعسقلان وأسدود، وهي بلدات هُجّر سكانها الفلسطينيون منها، وعلى أنقاضها تقف اليوم مدينتا أشكلون وأشدود الإسرائيليتان. وفي حديثه إلى مجلة "+972"، قال محمود يزبك، وهو مؤرخ في جامعة يافا: "لقد توسعت بيت حانون وبيت لاهيا شمالاً، وخان يونس ودير البلح جنوباً، وجميع القرى والبلدات في المنطقة، بالتزامن مع توسع مدينة غزة التاريخية التي ظلت مركز المنطقة".
ومنذ خمسينيات القرن الماضي، انطلق عدد من حركات المقاومة الفلسطينية من مدينة غزة، بما في ذلك الانتفاضة الأولى عام 1987. وبعد توقيع اتفاقيات "أوسلو"، غدت المدينة موطناً لأقدم مؤسسات السلطة الفلسطينية، فضلاً عن عدد من المؤسسات الثقافية والأكاديمية، التي سبق أن دُمر الكثير منها نتيجةً للهجوم الإسرائيلي على مدى العامين الماضيين. واليوم، يوشك كل ما تبقى من التاريخ، القديم والحديث، على أن يتحول إلى أنقاض.
المساجد والكنائس والآثار القديمة
تُعرف مدينة غزة باسم "غزة هاشم" نسبةً إلى الجد الأكبر للنبي محمد (ص) المدفون فيها. ويُعدّ ضريحه، الذي يقع داخل مسجد السيد هاشم الذي لحقت به أضرار بالغة، أحد المواقع المتعددة التي تُضفي على غزة أهمية إسلامية والمُعرّضة للتدمير حالياً.
كذلك تعرّض المسجد العمري الكبير، وهو أكبر مساجد المدينة وأقدمها، لتدمير شبه كامل من جراء الغارات الجوية الإسرائيلية في وقت سابق من الحرب، على الرغم من أن جزءاً منه لا يزال قائماً. وقد بُني في القرن السابع الميلادي على أنقاض كنيسة بيزنطية ومعبد وثني، وهو ثالث أكبر مسجد في فلسطين. وقد أوضح يزبك أن "جامع العمري كان في فترة من الفترات مؤسسة تعليمية أشبه بجامعة. وكان أبرز من درّس فيه الإمام الشافعي، أحد الأئمة الأربعة الذين أسسوا المذاهب الفقهية في الإسلام السني". كما كان المسجد يضمّ مجموعة أرشيفية من المخطوطات النادرة التي دمرها القصف الإسرائيلي. وأشار يزبك إلى أنه على حد علمه "لم ينجُ إلا ما تم تحويله إلى نسخة رقمية قبل الحرب وما تم إخراجه من غزة".
إضافة إلى ذلك، تضررت آثار الوجود المسيحي المبكر في مدينة غزة، والتي تعود إلى بدايات المسيحية، من جراء القصف الإسرائيلي، فقد تعرضت كنيسة القديس برفيريوس، التي بُنيت في القرن الخامس الميلادي، لهجمات متكررة منذ بداية الحرب. كما تعرضت كنيسة العائلة المقدسة الكاثوليكية المجاورة، التي بُنيت مؤخراً في الستينيات، للقصف في وقت سابق من هذا العام، إلا أنّ رجال الدين تعهدوا بتحدي أوامر الإخلاء الإسرائيلية والبقاء في المدينة.
كذلك، تتعرض الجهود المتواصلة للحفاظ على تراث غزة العريق للتهديد. ففي الأسبوع الفائت، أصدرت "إسرائيل" أمراً بإخلاء فوري لمبنى الكوثر المكون من 13 طابقاً، والذي يضم مستودعاً لآلاف القطع الأثرية القديمة من مواقع أثرية في جميع أنحاء غزة. وتحتوي هذه المجموعة، المملوكة للمدرسة الفرنسية للكتاب المقدس والآثار في القدس، على قطع عُثر عليها في دير القديس هيلاريون قرب دير البلح، وهو موقع مُدرج في قائمة اليونيسكو لمواقع التراث العالمي.
وقد نجحت الضغوط التي مارستها الحكومة الفرنسية، بالتنسيق مع اليونسكو والبطريركية اللاتينية في القدس، في الحصول على تمديد لفترة الإخلاء، الأمر الذي أتاح للموظفين الوقت الكافي لإزالة معظم القطع الأثرية الموجودة في المبنى، وليس كلها، بما في ذلك القطع الخزفية الهشة واللوحات الفسيفسائية والهياكل العظمية التي يعود تاريخها إلى قرون خلت، قبل أن تقوم غارة جوية إسرائيلية بسحق ما تبقى.
ووفقاً لليونسكو، تضرر أكثر من 100 موقع ذي أهمية دينية وتاريخية وثقافية في مدينة غزة خلال العامين الماضيين. فما مصير هذه المواقع، وما تبقى منها، في ظل تصاعد العدوان الإسرائيلي؟
نقلته إلى العربية: زينب منعم.