"972+": رحلة الأطباء الأجانب إلى غزة خلال الحرب.. كيف قيّدتها "إسرائيل"؟
أطباء متطوّعون يتحدّثون عن سياسة "إسرائيل" التي تهدف إلى منعهم من مزاولة عملهم المتمثّل في إنقاذ أرواح، من خلال منعهم من الدخول أو الحصول على الإمدادات الطبية بعد السيطرة على رفح.
مجلة "972+" الإسرائيلية تنشر تقريراً تتحدّث فيه عن القيود التي وضعتها "إسرائيل" على دخول الأطباء الأجانب إلى قطاع غزّة خلال الحرب، وكيف أدّى ذلك إلى ارتفاع عدد الضحايا.
أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:
في محاولة لإنقاذ حياة الأطفال الفلسطينيين الذين يعالَجون في مستشفيات غزة، أقدم الدكتور أياز باثان على القيام بأمر لم يتخيّل قط أنه سيفعله؛ وهو ترك الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و14 عاماً يموتون. وفي وصفه لما جرى معه في مستشفى ناصر في خان يونس، وهو أكبر مستشفى في جنوب غزة، قال: "لم يكن لدينا أيّ سرير متاح. كانوا على الأرض وسحبناهم إلى الجانب بينما كانوا لا يزالون يتنفّسون وكانت قلوبهم لا تزال تنبض، مع العلم أنّ فرصة نجاتهم كانت ضئيلة نتيجة إصاباتهم البليغة. فهل كانوا سيبقون على قيد الحياة لو كانوا في القدس أو الولايات المتحدة؟ نعم بلا شك.
باثان، وهو طبيب طوارئ من ولاية كارولينا الشمالية، تطوّع للعمل في غزة من أواخر تموز/يوليو إلى منتصف آب/أغسطس 2024 كجزء مما يعرف باسم فرق الطوارئ الطبية، وهي مجموعات من العاملين في المجال الطبي الأجانب، بما في ذلك الجرّاحين وأطباء الطوارئ والممرضات وأطباء التخدير، يتمّ إرسالها خلال الأزمات الإنسانية لتوفير الرعاية عندما يكون نظام الرعاية الصحية المحلي مثقلاً. وفي غزة، حيث يقترب نظام الرعاية الصحية من الانهيار بعد أن استهدف "الجيش" الإسرائيلي بشكل منهجي مرافق الرعاية الصحية والأطباء، باتت هذه البعثات الطبية الأجنبية ضرورية بشكل خاصّ.
إنّ تجربة باثان ليست مميّزة على الإطلاق. وفي الشهادات التي حصلت عليها مجلة "+972" الإسرائيلية، قال 6 أطباء متخصصين عملوا في غزة و8 مسؤولين في الأمم المتحدة والمنظّمات غير الحكومية التي تتفاوض مع وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق (COGAT)، وهي الهيئة العسكرية الإسرائيلية التي تشرف على سياسات المساعدات الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إنّ نظام الاستجابة للطوارئ غير مستعدّ على الإطلاق للتعامل مع الظروف الكارثية على الأرض.
وخلال الأشهر التي سبقت وقف إطلاق النار، فرضت "إسرائيل" قيوداً صارمة على دخول الأطباء الأجانب والشحنات الإنسانية والتجارية إلى غزة. وفي الأسابيع الأربعة التي سبقت تاريخ 11 كانون الثاني/يناير، دخل أقلّ من 2000 شاحنة إلى القطاع، أو قرابة 70 شاحنة يومياً. وخلص تحليل أجرته منظمة "أوكسفام" إلى أن هناك حاجة إلى 221 شاحنة من المواد الغذائية يومياً لضمان الحدّ الأدنى من السعرات الحرارية لكلّ فرد في القطاع. ومن بين الشاحنات التي دخلت، كان 13 منهم فقط يحمل إمدادات طبية.
ومنذ دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في 19 كانون الثاني/يناير، زاد عدد شاحنات المساعدات التي تدخل غزة بصورة مطردة. ومع ذلك، فإنّ العدد المحدود من الأطباء المسموح لهم بالدخول ومعهم القليل من الإمدادات الطبية أو من دونها يترك الرعاية الصحية المتخصصة غير متوفّرة إلى حد كبير في القطاع. في المقابل، لا يزال معبر رفح الحدودي مع مصر مغلقاً، ولا تزال عمليات الإجلاء الطبي إلى الخارج، وهي ضرورية لأكثر من 12 ألف شخص وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، قليلة للغاية.
"إنهم يعلمون أننا هنا لتقديم لمساعدة، فلماذا لا يسمحون لنا بالدخول؟"
أشار جميع الأطباء الذين تحدّثوا إلى مجلة "+972" إلى أنّ يوم 7 أيار/مايو 2024، وهو اليوم الذي سيطرت فيه "إسرائيل" بالكامل على معبر رفح، كان مفصلياً. فقبل هذا التاريخ، لم يكن هناك حد أقصى لعدد المتخصصين في المجال الطبي الذين يدخلون غزة عبر معبر رفح، ولا للإمدادات التي يمكنهم حملها. وأوضح الأطباء الأجانب الذين عملوا في القطاع أنه كان بإمكانهم إحضار "المستلزمات الضرورية" مثل حليب الأطفال وكميات كبيرة من الأطعمة الجافة للتوزيع، بالإضافة إلى المعدّات الطبية الصغيرة، بما في ذلك جهاز التشخيص بالموجات فوق الصوتية والستائر الجراحية والقفازات والضمادات.
وتستذكر الدكتورة تامي أبو غنيم، الطبيبة الأميركية التي دخلت غزة للمرّة الأولى في آذار/مارس 2024، كيف تمكّنت هي و7 من زملائها من حمل ما مجموعه 42 حقيبة مليئة بالمعدات والمستلزمات. وقد خضعت حقائبهم للتفتيش في المطار من قبل السلطات المصرية، ومرة أخرى على الحدود ولم تتمّ مصادرة سوى عدد قليل من المواد، مثل الأدوية القوية لتخفيف الألم كالمورفين أو الكيتامين.
ولكن منذ 7 أيار/مايو، اضطرت الغالبية العظمى من البعثات الطبية الأجنبية التي تسعى إلى الوصول إلى غزة إلى الدخول عبر معبر كرم أبو سالم الإسرائيلي، حيث خضعت لعمليات تفتيش أكثر صرامة، ومُنعت من إحضار أي إمدادات أو معدات طبية تقريباً. وفي هذا الصدد، قال الدكتور نبيل رنا، جرّاح الأوعية الدموية الأميركي الذي تطوّع في غزة في تموز/يوليو وتشرين الأول/أكتوبر 2024: "يحاول عمّال الإغاثة من جميع أنحاء العالم المجيء لتقديم المساعدة، لكنّ العدد المسموح بدخوله يقتصر على نحو 20 فرداً من العاملين في المركبات المدرّعة الذين يدخلون أسبوعياً إما يوم الثلاثاء أو الخميس. ومن بين هؤلاء، تمّ تخصيص نحو 7 أو 8 فقط للأطباء"، واصفاً ذلك بأنه "تغيير جذري" مقارنة بالإجراءات التي سبقت 7 أيار/مايو.
وقد نصحت الأمم المتحدة الأطباء الذين دخلوا غزة عبر معبر كرم أبو سالم بالسفر بحقيبة واحدة فقط وحقيبة يد ويُحظر عليهم أخذ أي شيء ليس لاستخدامهم الشخصي، بما في ذلك المعدات الطبية، وذلك وفقاً لوحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق. وستتمّ مصادرة أيّ أغراض تزيد قيمتها عن مبلغ 2000 دولار أميركي المسموح به، ما يؤدي بشكل مباشر إلى تأخير القوافل أو منع الأطباء من الدخول.
وأفادت المصادر بأنّ هذه القيود دفعت الكوادر الطبية والأطباء إلى القيام بـ"السيطرة على الأضرار بدلاً من ممارسة الطب"، ما أجبرهم على اتخاذ قرارات مستحيلة بشأن المرضى الذين يجب محاولة إنقاذهم والمرضى الذين يجب تركهم ليموتوا. وأشار الأطباء الأجانب العاملون في غزة الذين تحدّثوا إلى مجلة "+972" إلى أنهم اضطروا إلى إعادة استخدام أنابيب التنفّس الصناعي غير المعقّمة على المرضى، وربط الأطراف بأربطة مطاطية كبيرة بدلاً من الضمادات، وإزالة الأطفال الذين كانوا "على قيد الحياة" عن أجهزة التنفّس الصناعي القليلة المتاحة لإعطاء الأولوية للآخرين الذين يمتلكون فرصاً أفضل للبقاء على قيد الحياة.
لعبة المطاردة
إنّ القيود المفروضة على فرق الطوارئ الطبية التي تدخل غزة ستكون أقلّ خطورة في حال نجح "الجزء الآخر من المعادلة نفسها"، في إشارة إلى الدخول والتوزيع الآمن للمساعدات والمعدات الطبية من خلال قوافل المساعدات الإنسانية. لكن "إسرائيل" أعاقت بشكل متكرّر هذا النوع من تقديم المساعدات، خاصة في شمال غزة، حيث لم يُسمح بدخول أيّ مساعدات إنسانية تقريباً خلال الأشهر الأربعة الماضية.
ووصف عامل في منظّمة "MedGlobal" الإنسانية غير الربحية التي توفّر الاستجابة لحالات الطوارئ والبرامج الصحية في غزة، الإجراء الخاص بالحصول على موافقة وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق على الأدوات المنقذة للحياة بأنه "لعبة مطاردة". وشرح كيف يمكن الموافقة على البنود التي تمّ رفضها في البداية بعد أسابيع إذا قامت وكالات الأمم المتحدة أو الحكومة الأميركية بالضغط على "إسرائيل". وأضاف: "هذا الأمر جعلنا نشعر مرة جديدة أنها لعبة قوة ونفوذ".
ووفقاً لمصادر متعددة، فإنّ الجزء الأكثر صعوبة في توصيل المساعدات إلى غزة هو تنسيق الدخول بعد أن تمنح "إسرائيل" الموافقة على الجزء الأكبر من الموادّ. إذ يُطلب من منظّمات الإغاثة تزويد وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق بتفاصيل شاملة عن الشحنة، بما في ذلك معلومات عن السائق، ولوحة ترخيص السيارة، وأصل العناصر، ومصدر التمويل، ووجهة التسليم النهائية. ومع ذلك، حتى عندما يتمّ استيفاء جميع هذه المتطلّبات بدقّة، ترفض "السلطات" الإسرائيلية بشكل روتيني الشحنات من دون أيّ تفسير واضح.
في المقابل، قال المتحدّث باسم وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق لمجلة "+972" إنّ "إسرائيل" "تحافظ على اتصالات مستمرة مع ممثّلي المجتمع الدولي ومع السلطات المحلية التي ترفع الاحتياجات الطبية من الميدان وتعمل على تلبية تلك الاحتياجات، سواء كان ذلك يتعلّق بإدخال المعدات أو تنسيق الأنشطة الإنسانية". وأوضح أنّه منذ بداية الحرب "دخلت عشرات الآلاف من الأطنان من الإمدادات الطبية، بما في ذلك أدوية مرضى السرطان وأقلام الأنسولين والمواد المخدّرة وأجهزة الأشعة السينية وأجهزة التصوير المقطعي ومولدات الأوكسجين للمستشفيات".
التمييز ضد الأطباء الفلسطينيين
أشار جميع الأطباء الذين تحدّثوا إلى مجلة "+972" إلى أنه غالباً ما يتمّ تأكيد الإذن بدخول غزة أو مغادرتها بعد إكمال مهامهم، قبيل ساعات فقط من موعد مغادرة قوافلهم الطبية. وفي كثير من الحالات، تقوم وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق بتأخير مواعيد الدخول والخروج بشكل تعسفي لأسابيع من دون أي تفسير، ما يؤثّر على مواعيد العمليات الجراحية المقرّرة مسبقاً في بلدانهم الأصلية.
كما أكد معظم الأطباء أنّ "السلطات" الإسرائيلية تمنع بشكل منهجي دخول الأطباء من أصل فلسطيني إلى غزة، حتى لو كانوا يحملون الجنسية الأميركية أو الكندية أو البريطانية. وأشار بعض العاملين في المنظمات غير الحكومية إلى أنه حتى الأطباء الذين ليست لديهم صلة مباشرة بفلسطين ولكنهم ينحدرون من دول ذات أغلبية مسلمة، مثل مصر أو الكويت، تمّ منعهم من الدخول من قبل وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق من دون أي تفسير.
بالإضافة إلى ذلك، كشف تقرير لشبكة "سي أن أن" أنّ منظمة الصحة العالمية نصحت مجموعات الإغاثة بعدم جلب الأطباء الذين يحملون جنسية مزدوجة أو يملكون أصولاً فلسطينية، لأنهم سيواجهون "مشكلات تتعلّق بالتصاريح"، وهو ما وصفته المنظّمة بسياسة "إسرائيل" الجديدة، بحسب المذكّرات الداخلية.
وقد تمّ الإبلاغ عن هذا الإعلان الصريح للتمييز العنصري بشكل مباشر من قبل العاملين في مجال الرعاية الصحية الأميركيين والأطباء البريطانيين والكنديين الذين تطوّعوا جميعاً للعمل في مستشفيات غزة. و"من المثير للدهشة أنّ إسرائيل تواصل منع العاملين في مجال الرعاية الصحية من أصل فلسطيني من العمل في غزة، حتى المواطنين الأميركيين".
وقال مسؤولون من جمعية العون الطبي للفلسطينيين (MAP)، وهي مؤسسة خيرية مقرها المملكة المتحدة تمّ منع الكثير من متطوّعيها من الدخول إلى غزة، إنّ الحظر المفروض على العاملين من أصل فلسطيني هو سرّ مكشوف أكثر من كونه حظراً صريحاً. و"النموذج الذي يجب إرساله إلى وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق يسأل عن اسم الأب والجد وعن وجود أيّ أصول فلسطينية على وجه التحديد. ولا يُقال إنه محظور، لكننا لسنا متأكّدين من أنه إذا قلت إنك من أصل فلسطيني يمكنك دخول غزة".
وكان من بين الأشخاص الذين مُنعوا من دخول غزة دكتورة بريطانية هندية مسلمة، انتظرت في عمّان لمدة أسبوعين لتجد اسمها مدرجاً باستمرار على أنه "معلّق" من قبل وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق. وأشارت إلى أنّ السياسة الإسرائيلية لا يمكن التنبؤ بها إلى حد أنه حتى عندما تختار المنظمات الإنسانية بعناية الأفراد الذين تعتقد أنهم سيُمنحون حقّ الدخول، "فإن الأمر يكاد يكون مقامرة". وأشار بعض الأطباء إلى أنّ الأفراد الذين سُمح لهم في السابق بدخول غزة وتُركوا في وضع معلّق، ربما تمّ استهدافهم انتقاماً لتحدّثهم علناً عمّا شهدوه. ولا يمكن التحقّق من هذا الادّعاء بشكل مستقل.
إنّ القيود المفروضة على الأطباء الأجانب، الذين كان من الممكن أن يشكّلوا بصيص أمل لسكان غزة، تشكّل ضربة أخرى لنظام الرعاية الصحية الذي شهد مقتل أكثر من 1000 من العاملين فيه، واعتقال الكثير منهم بصورة تعسفية وتدمير معظم مستشفياته.
نقلته إلى العربية: زينب منعم