"فورين أفيرز": على الصين وأميركا إجراء محادثات عسكرية منعاً لتكرار أزمة عام 2001
بعد تضاعف قوة الجيش الصيني بشكل كبير، أصبح من شبه المستحيل حلّ أزمة مماثلة لأزمة عام 2001 بين بكين وواشنطن، بالطريقة نفسها، وعليه يجب على البلدين الدخول في مناقشات جادة لتدارك الوضع.
مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً للكاتب جين بيرليز، يتحدّث فيه عن أزمة عام 2001 بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، واحتمال حدوثها مجدّداً، إلا أنّه يشير إلى أنّ حلّ أزمة مماثلة لن يكون بالطرق السلمية هذه المرّة كما حدث في حينها، نظراً لتصاعد قوّة الصين.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:
في صباح يوم أحد مشمس من شهر نيسان/أبريل عام 2001، كانت طائرة استطلاع أميركية من طراز "إي بيه – 3 إي إيريز 2" (EP-3E Aries II) تحلّق على ارتفاع 22,500 قدم فوق المياه الدولية في بحر الصين الجنوبي عندما ظهرت طائرتان مقاتلتان صينيتان من طراز "إف -8" (F-8).
طارت إحدى طائرات "إف -8"، التي يقودها رائد في القوة الجوّية الصينية يدعى وانغ وي، على بعد 10 أقدام من الجناح الأيسر لطائرة التجسس الأميركية وحيّت الطاقم قبل أن تتراجع مسافة 100 قدم.
بعدها اقترب وانغ مرّة جديدة من الطائرة، وطار على بعد 5 أقدام وبدا وكأنه يصرخ في وجه الطيارين الأميركيين. وفي محاولة ثالثة، اقترب الرائد أكثر بما يكفي ليتمّ سحبه إلى إحدى مراوح طائرة "إي بيه -3 إي". تم تقطيع الطائرة الصينية من طراز "إف -8" إلى نصفين، ما أدّى إلى مقتل وانغ، الذي أشارت إليه وسائل الإعلام الحكومية لاحقاً على أنه "شهيد ثوريّ".
ونتيجة ذلك، تطايرت الشظايا الناتجة عن الاصطدام في كلّ اتجاه متسببّة ببتر مقدمة الطائرة "إي بيه -3 إي" وانكسار جناحها وإتلاف اثنين من محرّكاتها الأربعة. فهوَت الطائرة على ارتفاع 8,000 قدم في 30 ثانية قبل أن يتمكّن الطيار الملازم في البحرية الأميركية شين أوزبورن من تثبيتها.
تجدر الإشارة إلى أنّ الطاقم الأميركي المؤلف من 24 فرداً كان في منتصف الطريق خلال مهمة استطلاع روتينية مدتها عشر ساعات عندما وقع الحادث. ونظراً لحالة الطائرة، لم يتمكّن الطاقم من العودة إلى القاعدة الأميركية الموجودة في محافظة أوكيناوا باليابان. وبعد التفكير لفترة وجيزة في الهبوط على الماء المحفوف بالمخاطر، اختار أوزبورن توجيه الطائرة على بعد 70 ميلاً جنوب غربي البلاد نحو قاعدة جوية صينية في جزيرة هاينان.
وعلى الرغم من علمه بأنّه كان متجهاً نحو منطقة معادية، أمضى الطاقم الأربعين دقيقة التالية في محاولة مجنونة لتدمير المواد الحساسة. ولأنّ أفراد الطاقم غير مستعدين على الإطلاق لمثل هذا السيناريو، فقد داسوا بلا جدوى على أجهزة الكمبيوتر المحمولة، وسكبوا القهوة الساخنة على محرّكات الأقراص الصلبة، ومزّقوا المستندات بأيديهم. وكان الفأس المصمّم لتدمير المعدّات غير حاد للغاية بحيث لا يمكن استخدامه. عندها، أصدر أوزبورن نداء استغاثة لم يتمّ الردّ عليه. ثمّ أصدر نداءً تلو الآخر، إلّا أنّه لم يحصل على ردّ من جيش التحرير الشعبي الصيني المتمركز في جزيرة هاينان. ومع عدم وجود خيار سوى الهبوط من دون إذن، قام أوزبورن بتوجيه الطائرة نحو المدرج، حيث كانت الشاحنات العسكرية الصينية ونحو عشرين جندياً يحملون بنادق "إيه كيه -47" (AK-47) بانتظارهم بالفعل.
عندئذ، شعر أفراد الطاقم الأميركي بالارتياح لنجاتهم من حادث الاصطدام، إلا أنّ مصيرهم الآن بات في أيدي السلطات الصينية. فاتصل أوزبورن بمقر الأسطول الأميركي في المحيط الهادئ للإبلاغ عن موقعه. وبعد ذلك، وبأمر من الجنود، نزل هو ورفاقه من الطائرة.
وتمّ نقل الأميركيين بالحافلة إلى أماكن للإقامة في القاعدة العسكرية، حيث سيتمّ استجوابهم خلال الأيام المقبلة. ولم يرغب أحد في واشنطن بتأجيج الوضع بالقول إنّ الأميركيين كانوا في الأساس أسرى. وبدلاً من ذلك، أشارت وزارة الخارجية في تصريحاتها للصحافة إلى أنّ الطاقم "محتجز" أو "موقوف" مؤقتاً، وأكدت للشعب الأميركي أنّ الملحق العسكري الأميركي في بكين، نيل سيلوك، قد سُمح له بالوصول إلى أفراد الطاقم.
وفي وسط بكين، كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة صباحاً عندما تلقّى سفير الولايات المتحدة لدى الصين، جوزيف بروهير، نبأ وقوع الحادث من مقر أسطول المحيط الهادئ في هاواي، حيث كان يشغل سابقاً منصب القائد. وكان في ذلك الوقت يتمشّى مع زوجته بعد حضورهما قدّاساً في الكنيسة. فسارع بالعودة إلى السفارة لبدء المفاوضات مع وزارة الخارجية الصينية. وادّعى الصينيون أنّ الطائرة "إي بيه -3 إي" المتثاقلة قد اصطدمت بالطائرة سريعة التحليق. وأوضح بروهير، الذي كان طياراً سابقاً في البحرية، أنّ قوانين الديناميكا الهوائية لا تعمل بهذه الطريقة؛ إذ لا يمكن لطائرة أبطأ مثل "إي بيه -3 إي" أن تصطدم عمداً بطائرة مقاتلة. إلّا أنّه لم يُلقِ اللوم في حادث الاصطدام هذا على جيش التحرير الشعبي بشكل علني.
وبدلاً من ذلك، ابتكر بروهر، الذي عمل بشكل وثيق مع وزير الخارجية الأميركي كولن باول، طريقة لتهدئة التوترات. وقرّرا تقديم اعتذارين لائقين في برقية عرفت باسم "رسالة الاعتذارين". وأفادت واشنطن بأنّها تأسف لمقتل الطيار الصيني وتأسف لأنّ الطاقم الأميركي هبط في الصين من دون الحصول على إذن رسمي. وقد مهّد النظير الرئيس للسفير الأميركي، تشو ون تشونغ، وهو دبلوماسي صيني كبير يتحدث الإنكليزية وقد أصبح في ما بعد سفير الصين لدى واشنطن، الطريق للحصول على ردّ فعل إيجابي على الرسالة من رؤسائه، بما في ذلك الرئيس جيانغ زيمين.
وبعد 11 يوماً، أطلقت بكين سراح الطاقم الأميركي، الذي انطلق من جزيرة هاينان إلى جزيرة غوام على متن طائرة تجارية، كما اشترط الصينيون الذين أصرّوا على عدم دخول أي طائرة عسكرية أميركية إلى الصين. وأرسلت الولايات المتحدة تقنيين من شركة "لوكهيد مارتن"، وهي الشركة المصنّعة للطائرة، إلى جزيرة هاينان لتفكيك الطائرة "إي بيه – 3 إي"؛ وتمّ بعدها تسليم قطعها بواسطة طائرة شحن إلى قاعدة جوية في مدينة ماريتا، بجورجيا. ولم يتمّ تحديد مقدار المعلومات الاستخباراتية التي فُقدت وانتقلت إلى أيدي الصينيين. وقدّر محقّقو البحرية الأميركية الخسائر بالـ"متوسطة إلى منخفضة" من حيث الخطورة.
أمّا اليوم، فأصبحت مثل هذه النتيجة السلسة والسريعة شبه مستحيلة. فقد تضاعفت قوة الجيش الصيني بشكل كبير، وتمتلك قوّاته البحرية صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت وسفناً أكثر من تلك التي تملكها البحرية الأميركية. وفي شهر أيار/مايو من هذا العام، أصدرت بكين قانوناً يسمح لخفر السواحل التابع لها باحتجاز السفن والأشخاص الأجانب في المياه الخاضعة للسيادة الصينية، والتي تشمل، وفقاً للصينيين، بحر الصين الجنوبي بأكمله تقريباً. ويكاد يكون من المؤكد حدوث تصادم آخر في مرحلة ما، لكنّ الأزمة لن تتطلّب الانتقال إلى حرب شاملة. ولتجنّب التصعيد الكارثي، يتوجب على كل من واشنطن وبكين الدخول في الوقت الراهن في مناقشات جادة لتدارك سوء التفاهم.
مستقبل المياه المضطربة
في عام 2001، كانت بكين تمتلك أسباباً أكثر للتصالح مما هي عليه اليوم. فقد كانت الصين على أعتاب الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية وعلى وشك الفوز بعرضها لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 2008؛ ولم ترغب في إهدار هذه الفرص من خلال اتخاذ موقف عدواني تجاه واشنطن. ولمدة 10 سنوات بعد حادثة الطائرة "إي بيه – 3 إي"، كان بحر الصين الجنوبي هادئاً نسبياً، واستفادت بكين من انشغال واشنطن بحرب العراق لتأمين مكاسب اقتصادية وسياسية في منطقة جنوب شرق آسيا.
وخلال العقد المنصرم، أصبحت الصين أكثر ثقة وقدرة عسكرياً، وتغيّرت طبيعة القيادة في البلاد. وبالتالي، من غير الوارد أن يواصل الرئيس شي جين بينغ المفاوضات بحسن نية، كما فعل جيانغ، لحلّ حادثة مماثلة اليوم. وقد أوضح الرئيس شي أنّ منطقة المحيطين الهندي والهادئ تابعة للصين، وتهدف من خلالها إلى أن تصبح القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية بلا منازع. وفي بحر الصين الجنوبي، بنى الصينيون سبع جزر صناعية تعمل كقواعد، مزوّدة بمدارج للطائرات وعنابر للسفن والطائرات الصينية.
وقد لمس الرئيس جو بايدن موقف شي عندما التقيا للمرة الأولى في عام 2011، في وقت كان الرجلان يشغلان منصب نائب الرئيس. وكانت إدارة أوباما قد أرسلت بايدن إلى الصين، وهي على علم باختيار شي كزعيم مقبل للصين. والتقط الرجلان صورة تذكارية في ملعب كرة السلة في مدينة تشنغدو وذهبا في نزهة. وبعد ذلك بعامين، وخلال زيارة لبكين، تحدّث بايدن أمام حشد من الصحافيين الأميركيين عمّا تضمّنه ذلك الاجتماع الأول. وكان واضحاً من رواية بايدن أنّ أولوية الرئيس شي كانت الأمن القومي.
وكان شي قد أخبر بايدن أنّه في حال حدوث اصطدام مماثل بين طائرة استطلاع أميركية وطائرة مقاتلة صينية، فلن تكون النهاية سعيدة. وحذّر من أنّ الولايات المتحدة يجب أن تتوقّف عن إرسال طائرات تجسس فوق المياه الصينية.
وردّ بايدن بأنّ الطائرات الأميركية كانت تحلّق فوق المياه الدولية ولها كلّ الحقّ في أن تكون موجودة هناك، مضيفاً أنّه إذا كانت الصين أكثر انفتاحاً بشأن عملياتها العسكرية، فإنّ الولايات المتحدة لن تتنصّت عليها كثيراً.
وفي هذا السياق، صرّح الرئيس شي قائلاً: "إذا لم توقفوا طلعاتكم الجوية، فسنضطر إلى إرسال طائراتنا لمطاردة الطائرات الأميركية". وذكّر بايدن الرئيس شي بأنّ مخاطر مثل هذه السياسة مرتفعة؛ فالطيارون الصينيون لم يكونوا مؤهّلين كفاية لتجنّب تكرار حادث الاصطدام الذي وقع عام 2001.
واليوم، أصبحت مخاطر الاصطدام في الجو فوق بحر الصين الجنوبي أعلى بعدّة مرات مما كانت عليه في عام 2001. وعلى مدى العامين الماضيين، اقتربت الطائرات الصينية بشكل خطير من الطائرات الأميركية والطائرات المتحالفة معها نحو 300 مرة. وينظر البنتاغون إلى هذه المناورات المتهورة كجزء من حملة إكراه موجّهة مركزياً تهدف إلى منع الولايات المتحدة من التحليق فوق الممرات المائية الدولية.
التفاوض أو الهلاك
في حال تكرّر اليوم حادث الاصطدام الذي وقع عام 2001، فيُحتمل أن تستخدمه الصين لتعزيز مطالباتها بشأن بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان. إذ لا يزال هناك مجال واسع لسوء التفاهم بين الجيشين الأميركي والصيني، اللذين استأنفا محادثاتهما في وقت سابق من هذا العام، كاسرين بذلك الجمود الذي أعقب زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى تايوان في آب/أغسطس 2022. إلا أنّ الجيشين لا يملكان خطاً ساخناً للاتصال ببعضهما البعض في حالات الطوارئ.
وفي عام 2014، اعتمدت بكين وواشنطن مذكّرة تفاهم تحدّد قواعد السلوك لسفن الجانبين وطائراتهما. إلّا المسؤولين الأميركيين السابقين المشاركين في وضع الوثيقة يسخرون منها الآن. فقد انتهك الجانبان هذه القواعد بشكل روتيني ولم يشيرا إليها إلا عندما اقتضى الوضع السياسي ذلك.
ونظراً للعلاقة المتوترة والمخاطر المُحدقة، فمن غير المرجح أن تهبط طائرة أميركية متضررة، ولا سيّما طائرة تجسس محمّلة بمعلومات حساسة، على الأراضي الصينية. وقد أخبرني تشارلي براون، وهو ضابط سابق في البحرية الأميركية، قائلاً: "لا أعتقد أنّنا سنرى أي شخص من جانبنا يهبط على أراضيهم". وبدلاً من ذلك، قد تسقط الطائرة الأميركية في المياه وتتحطّم. وسيخرج الطاقم قبل الاصطدام، إن أمكن، أو ستهبط الطائرة في الماء والطاقم على متنها.
ومع سقوط طائرة عسكرية أميركية في بحر الصين الجنوبي، سيبدأ السباق للوصول إلى موقع تحطّمها. ويُرجّح أن تصل القوات الصينية إلى مكان الاصطدام أولاً، نظراً لامتلاك البحرية الصينية سفناً أكثر من تلك التي تملكها الولايات المتحدة في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، ستقوم هذه القوات بعرقلة السفن الأميركية وضربها لجعل وصولها إلى الموقع مستحيلاً. وفي هذا الصدد، قال لي سكوت سويفت، القائد السابق للأسطول الأميركي في المحيط الهادئ: "بدلاً من تحويل هذه العملية إلى عملية إنقاذ، يمكن للصينيين تحويلها إلى عملية سيادية". وستتزايد احتمالات المواجهة العسكرية المباشرة مع كل دقيقة تمرّ.
هذا ويعتقد بعض المراقبين الصينيين أنّه يتعيّن على البحرية الأميركية تقليص مهامها الاستطلاعية الاستفزازية بالقرب من الساحل الصيني، خاصةً وأنّ الكثير من المعلومات الاستخبارية التي تمّ جمعها خلال الطلعات الجوية يمكن الآن جمعها بوسائل أخرى، مثل الأقمار الصناعية. لكنه احتمال مستبعد، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنّ البحرية الأميركية لا ترضى بقبول دور أصغر لطيّاريها المدرّبين تدريباً عالياً وطائراتها المتخصصة.
ومع ذلك، تدرك الولايات المتحدة أنّ الصين أصبحت اليوم الطرف الأقوى في بحر الصين الجنوبي. وعليه، تحتاج واشنطن والصين اليوم أكثر من أيّ وقت مضى إلى إجراء محادثات عسكرية جوهرية لضمان عدم تحوّل الأزمة في بحر الصين الجنوبي إلى صراع.
نقلته إلى العربية: زينب منعم