"الغارديان": تجاهل حرب السودان والعواقب العالمية

التجاهل العالمي للصراع في السودان المستمر منذ نحو عامين يزيد من معاناة الشعب، مع استمرار المجاعة والعنف، ويهدّد استقرار المنطقة بالكامل.

0:00
  • التجاهل العالمي للصراع في السودان المستمر منذ نحو عامين يزيد من معاناة الشعب
    التجاهل العالمي للصراع في السودان المستمرّ منذ نحو عامين يزيد من معاناة الشعب

صحيفة "الغارديان" البريطانية تنشر مقالاً للكاتبة نسرين مالك، تتحدّث فيه عن التجاهل الدولي المستمرّ للصراع في السودان، الأمر الذي يعمّق الأزمة الإنسانية، ويهدّد استقرار المنطقة بأكملها.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

تقترب الحرب في السودان من إتمام عامها الثاني، والبلاد تواجه الفوضى والمجاعة والإبادة الجماعية وحوادث الاغتصاب في ظلّ تجاهل دولي، من المؤكّد أنّه سترتدّ عليه بعواقب وخيمة. ومن اللافت أنّ السودانيين وبعض المراقبين الخارجيين لم يتوقّعوا الحرب، وما زالوا لا يصدّقُون أنّ هذا ما يحدث فعلاً. ومنذ اندلاع الصراع الكارثي بين الجيش السوداني وقوّات الدعم السريع، وهي ميليشيا كانت في السابق شريكاً للجيش في السلطة، كان من الصعب فهم السرعة التي تفكّكت بها البلاد، والأزمات المتداخلة التي تسبّبت فيها الحرب.

الملايين شرّدوا داخل البلاد وخارجها على حدّ سواء. المجاعة تفتك بمئات آلاف السودانيين، وحوادث العنف الجنسي منتشرة على "نطاق مذهل" وفقاً للأمم المتّحدة. وفي المناطق التي يشاع أنّ جنود قوّات الدعم السريع يغتصبون فيها النساء والفتيات اللّواتي ينتحر بعضهنّ، بينما تفكّر أخريات بالانتحار بشكل استباقي، حين تقترب المليشيا المذكورة من بلدتهنّ. تقول شابّة سودانية إنّها اتّفقت مع قريباتها على الانتحار الجماعي قبل وقوعهنّ فريسة بين يدي المغتصبين.

تأسّست قوات الدعم السريع في غرب السودان، من بين بقايا الميليشيات العربية التي شاركت إلى جانب الحكومة في القمع الوحشي منذ نحو 4 عقود لتمرّد القبائل المهمّشة في البلاد. والآن، تكرّر هذه المجموعة الحرب العنصرية التي مارستها من قبل، والتي وصفتها المحكمة الجنائية الدولية آنذاك بأنّها تشكّل إبادة جماعية، بقتل الآلاف على أساس انتمائهم العرقي من غير العرب وحرق مساكنهم، وتهجير مئات الآلاف إلى تشاد ومصادرة أراضيهم ومنع عودتهم.

وبسبب جرائمها خلال الأشهر الماضية، فرضت الولايات المتّحدة عقوبات على زعيم الميليشيا محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي. كذلك فرضت عقوبات على 7 شركات مملوكة للمجموعة في الإمارات العربية المتّحدة لإمدادها قوّات الدعم السريع بالسلاح، وأعلنت واشنطن رسميّاً أنّ ما تقوم به المجموعة المسلّحة بمثابة إبادة جماعية.

لا شكّ في أنّ هذه التدابير مرحّب بها، ومن شأنها أن تحدّ من الجرائم التي ترتكبها قوّات الدعم السريع، وتمنع عنها أيّ قدرة على تبييض سجلّها وتصوير نفسها كلاعب سياسي موثوق. ولكن، هذه التدابير تشير إلى نهج مستمرّ منذ عقود من الزمان من جانب القوى الأجنبية تجاه السودان، يعتمد على الإيماءات عوضاً عن الانخراط بشكل هادف على النحو الذي قد ينقذ الأرواح. كذلك، أنّ التوقيت الذي اختاره بايدن في نهاية ولايته لاتّخاذ هذه الإجراءات، مع أنه كانت لديه أشهر للقيام بذلك بوضوح، يشير مجدّداً إلى تمرير المسؤولية إلى إدارة ترامب المقبلة، بدلاً من إعداد الخطط العملية وممارسة الضغوط السياسية على الأطراف المتصارعة.

لا يمكن لحرب في بلد فقير مثل السودان أن تستمرّ بهذه القوّة اعتماداً على الأسلحة والأموال التي يملكها اللاعبون المحلّيون فقط. فالصراعات عادة ما تغذّيها وتموّلها جهات خارجية، بينما تغضّ جهات أخرى الطرف عنها. الإمارات العربية المتّحدة هي اللاعب الأكبر في حرب السودان، حيث تضطلع الدولة الخليجية بدور صانع الملوك من خلال الحروب في أفريقيا، مراهنة على الاستحواذ على موارد هائلة وقوّة جيوسياسية إذا ما انتصر حليفها المختار.

ولهذه الغاية، تزوّد الإمارات قوّات الدعم السريع بأسلحة فتّاكة وطائرات من دون طيّار، وحتّى بالمساعدات الطبّية لمقاتليها. كما أصبحت الإمارات المتلقّي الرئيسي لـشحنات "ذهب الدم"، الذي يهرّبه الجيش وقوّات الدعم السريع مقابل الأسلحة والأموال. وبذلك تضمن أبو ظبي فعلياً استمرار الصراع بتمويله، بينما تستفيد من الأسعار المخفّضة التي تدفعها مقابل سلعة وصل سعرها إلى مستويات قياسية. وفي هذه الأثناء، يتمّ استخراج أكثر ثروات الشعب السوداني ربحاً من تحت أقدامهم ونقلها فوق رؤوسهم إلى الشرق الأوسط، ثمّ تقايض بالقنابل التي تتساقط عليهم وهم يتضوّرون جوعاً.

على الرغم من دورها الواسع في الحرب، احتُضنت الإمارات من قبل الإدارة الأميركية الحالية، مع أنّ أبو ظبي لم تصدر بياناً بأنّها لم تعد تزوّد قوّات الدعم السريع بالأسلحة، إلا بعد اهتمام إعلامي متواصل وضغوط من النشطاء السودانيين واهتمام الكونغرس. ومع ذلك غُلّف البيان بإعلان أميركي مفاده أنّ الإمارات "كانت مساهماً إنسانياً طوال الحرب". ومن المحتمل أن يكون لمعاقبة زعيم الجماعة وليس راعيه، تأثير ضئيل في إجبار الإمارات على قطع علاقتها مع ميليشيا حميدتي، التي استثمرت فيها بالفعل بكثافة، ولم تصب منها حتّى الآن بأيّ عواقب أو لوم.

في ظلّ هذه البيئة الإنكارية انقسمت العاصمة السودانية الخرطوم إلى قسمين، تحت سيطرة الجيش في مناطق وقوات الدعم السريع في مناطق أخرى. وأصبحت بورتسودان وهي مدينة مطلّة على البحر الأحمر، قاعدة للسلطة العسكرية الرسمية المتبقّية، التي لا تزال تتمتّع بسلطة إصدار التأشيرات واستضافة البعثات الأجنبية والمنظّمات غير الحكومية وإدارة الرحلات الجوّية والشحن إلى البلاد. خلاف ذلك، في مساحة البلاد الكبيرة، انهار السودان فعليّاً، وانحدر إلى الفوضى والإقطاعيّات المجزّأة. ومن المرجّح أن يزداد الأمر سوءاً، خاصّة أنّ أيّاً من الطرفين لا يملك القدرة على التغلّب على الآخر، بالرغم من الدعم الخارجي لكليهما من الإمارات ومصر وتركيا.

الصراع في السودان يشكّل تحدّياً يتطوّر بشروطه الخاصة على خلفيّة الأزمات العالمية المتداخلة. والتعب من إراقة الدماء والجمود والحروب الطاحنة الطويلة من أوروبا إلى الشرق الأوسط يجعل الصراع في السودان مجرّد كارثة أخرى، يتمّ تجاهلها بسبب حقيقة أنّ الموت والمجاعة والإفلات من العقاب أصبحت قاعدة، والصور والحكايات عن أكثر الانتهاكات تطرّفاً تفقد صرختها. وبينما يستعدّ العالم لولاية ترامب الثانية، يقوم  أباطرة التكنولوجيا بتشويه شبكات المعلومات العالمية، ممّا يجعل من الصعب ظهور سرديّات عن أسوأ أزمة إنسانية في العالم بحجّة نظريّات المؤامرة والدعاية غير المتوازنة.

ولكن، على الرغم من أنّ هذا الصراع لا يجد الاهتمام الكافي مثل بعض الأزمات التي تستنفد الانتباه العالمي، فإنّ انهيار السودان لا يمكن أن يكون بلا تبعات عن بقيّة العالم. وهو أحد أكبر البلدان في أفريقيا، وتتقاطع حدوده مع بلدان أخرى اضطرّت إلى استيعاب أعداد كبيرة من اللاجئين مثل مصر وتشاد، إضافة إلى مخاطر التدفّقات الكبيرة للأسلحة والمرتزقة بالقرب منها. هناك بالفعل نوع من الاستسلام لفكرة أنّ السودان في طريقه إلى "الصوملة" أو لمحاكاة النموذج الليبي. هذا لا يعني أنّ الأطراف المتحاربة على مدى العقد المقبل ستحوّل البلاد إلى ساحات للجماعات المسلّحة والباحثين عن الثروة، ممّا يزيد المخاطر الجيوسياسية، وينشر الفوضى والعنف في أرض لا قانون فيها، تقع عند تقاطع العالم العربي وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

مع مرور الوقت واستمرار الحرب، يتمثّل الخوف في أن يستمرّ التجاهل لأزمة السودان ببساطة، حيث تبقى الجرائم الفادحة المرتكبة ضد شعبه لا تجد الصدى الذي تستحقه، من القوى العالمية التي ستدفع ثمناً باهظاً جدّاً إلى جانب السودانيين، نتيجة لسياسات غضّ النظر عن صراع سيصبح احتواؤه مستحيلاً.

نقله إلى العربية: حسين قطايا

منتصف نيسان/أبريل 2023 تندلع مواجهات عنيفة في الخرطوم وعدة مدن سودانية، بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، وتفشل الوساطات في التوصل لهدنة بين الطرفين.