كي لا يسمح للكيان الصهيوني بالإفلات من العقاب

أثبت "الطوفان" أن وحشية الكيان ليست طارئة، بل كامنة في بنيته الذاتية، وأن تعاطف الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية ليس ناجماً عن عدالتها فحسب، وإنما أيضاً عن صمود للشعب الفلسطيني.

  • "الطوفان" أثبت أن وحشية الكيان الصهيوني ليست طارئة.

سواء نجحت جهود تثبيت وقف إطلاق النار في غزة أم لا، توجد حقيقة أساسية يجب عدم تجاهلها، مفادها عدم أهلية الولايات المتحدة الأميركية للعب دور الوسيط في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لأنها طرف أصيل في هذا الصراع، وشريك في حرب الإبادة الجماعية التي تشنّ على الشعب الفلسطيني منذ عامين كاملين.

لذا، فليس من المنطقي أبداً أن ننظر إلى خطة ترامب، التي أدّت مؤخراً إلى وقف شبه كامل لإطلاق النار، بوصفها خريطة طريق نحو سلام شامل في المنطقة، لأن السلام بهذا المعنى ليس قابلاً للتحقق إلا بقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.

ولأنه يستحيل على الحكومة الممسكة حالياً بزمام سلطة الكيان، أو على أي حكومة يفرزها المجتمع الصهيوني في المستقبل المنظور، أن تقبل بدولة فلسطينية بالمواصفات السابق ذكرها، ولا يتصور في الوقت نفسه تخلي ترامب فجأة عن قناعاته وسياساته المنحازة للكيان، يرجح أن يكون الهدف الحقيقي لخطة ترامب إدارة الصراع بوسائل أخرى غير الحرب.

لا شك أن وقفاً دائماً لإطلاق النار في غزة يحقق مكاسب مؤكدة للشعب الفلسطيني، في مقدمتها وضع حد لمعاناته غير المسبوقة خلال العامين الماضيين، ما قد يساعد على إنقاذه نهائياً من خطر الإبادة الجماعية والتهجير القسري، وتحرير عدد كبير من أسراه، منهم مئات المحكوم عليهم بمؤبدات، وتمهيد الطريق للبدء في إعادة إعمار القطاع، وتلك كلها مكاسب تتيح أمام هذا الشعب الصبور فرصة لالتقاط أنفاسه وتهيئة الأجواء التي قد تساعده على الاستعداد لمرحلة نضالية جديدة، خصوصاً إذا أغلقت أمامه أبواب الأمل في إقامة دولته المستقلة في الأمد المنظور.

غير أن المكاسب الناجمة عن وقف إطلاق النار لا تقتصر على الشعب الفلسطيني وحده، وإنما تمتد لتشمل الكيان الصهيوني في الوقت نفسه.

صحيح أن حكومة هذا الكيان ما تزال قادرة على الاحتفاظ بتماسكها، رغم تهديدات سابقة بانسحاب بن غفير وسموتريتش منها فور القبول بخطة ترامب، غير أنه يبدو واضحاً أن نتنياهو يسعى في الوقت نفسه لاستغلال وقف إطلاق النار لتحقيق مآرب أخرى لم يتمكن من تحقيقها في ميدان القتال، فبالإضافة إلى المكاسب الناجمة عن استعادة الأسرى الأحياء دفعة واحدة، وهو ما تحقق بالفعل، يتوقع أن يتعلل بعدم قدرة حماس على تسليم جميع الجثث في الموعد المحدد للتنصل من كل التزاماته، خصوصاً ما يتعلق منها بالانسحاب وبالمساعدات الإنسانية، وهو ما يدور حالياً، بل وليس من المستبعد أن يشترط نزع سلاح جميع فصائل المقاومة، وتدمير جميع الأنفاق بالكامل، قبل البدء في إعمار القطاع، وربما التحكم في تحديد أسماء الدول المرشحة للإسهام في قوات لحفظ الأمن في القطاع، مع العمل في الوقت نفسه على إقحامها في مهمة نزع السلاح، بل وتشير بعض التقارير إلى أنه قد يسعى جاهداً لتشكيل جماعات من المرتزقة لاستخدامها في إثارة الفوضى في القطاع، ثم التعلل بعد ذلك بغياب الأمن لعرقلة الانسحاب الكامل، تمهيداً لإعادة احتلاله واستيطانه حين تتاح فرصة مناسبة.

ربما يكون من الصعب التنبؤ بما ستكون عليه ردة فعل ترامب تجاه تصرفات نتنياهو المنفلتة، لأن ذلك سيتوقف على عوامل عديدة: محلية (أميركية) وإقليمية (شرق أوسطية) ودولية (عالمية).

ومع ذلك، فليس من المستبعد أبداً أن ينجح نتنياهو في حشد وتعبئة اللوبي الصهيوني-الأميركي للعمل على تطويع سياسات ترامب ومواقفه، كي تتلاءم مع أهداف نتنياهو ولتجنب حدوث مواجهة مفتوحة بينهما، ما سيؤدي إلى قذف الكرة داخل الملعب العربي والإسلامي، خصوصاً داخل الدول التي تقوم حالياً بدور الوسيط الضامن لتنفيذ الخطة واستمرار وقف إطلاق النار، وكذلك الدول التي سبق لترامب أن اجتمع بها في نيويورك قبل الإعلان رسمياً عن خطته.

وفي سياق كهذا، يجب على جميع هذه الدول أن تدرك أن هدف نتنياهو الحقيقي في المرحلة القادمة لن يكون نزع سلاح حماس وشطبها من معادلات المنطقة، وهو ما يتمناه البعض ولا يمانع في تقديم يد المساعدة لتحقيقه، وإنما فرض هيمنته الكاملة والمنفردة على المنطقة، عبر إقامة "إسرائيل الكبرى"، وهو ما يتصادم كلياً مع طموحات الشعوب، خصوصاً أن نجاح نتنياهو في تحقيق أهدافه لن يساعد على تحقيق استقرار المنطقة أو تنميتها أو ازدهارها.

من الطبيعي، في سياق كهذا، أن تثور خلافات عميقة بين نخب سياسية وفكرية عربية وإسلامية تعتقد أن "طوفان الأقصى" مسؤول عما جرى للمنطقة وفيها خلال العامين الأخيرين.

ومع ذلك، لا يستطيع أحد إنكار ما لعبه هذا الحدث المفصلي من دور محوري في إسقاط القناع عن الكيان الصهيوني، من ناحية، وفي إظهار عدالة القضية الفلسطينية، من ناحية أخرى.

فقد أثبت "الطوفان" أن وحشية الكيان الصهيوني ليست طارئة أو دخيلة، بل كامنة في بنيته الذاتية، وأن تعاطف الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية ليس ناجماً عن عدالتها فحسب، لأن العدالة مكوّن أصيل فيها منذ البداية، وإنما أيضاً عن صمود أسطوري للشعب الفلسطيني ولمقاومته المسلحة، ما يرتب على العالمين العربي والإسلامي مسؤولية مزدوجة، تفرض عليهما أن يسعيا معاً لمعاقبة الكيان الصهيوني على جرائمه الوحشية، من ناحية، ولمكافأة الشعب الفلسطيني على صموده الأسطوري، من ناحية أخرى، بعيداً من أي مصالح فصائلية أو حزبية.

 قد تشكل مكافأة الشعب الفلسطيني على صموده الأسطوري مسؤولية أكبر من قدرة العالمين العربي والإسلامي على الوفاء بها، لأن الحد الأدنى لمكافأة تليق بهذا الشعب المكافح، خصوصاً في المرحلة التي يمر بها حالياً، يجب أن لا تكون أقل من السعي لمساعدته على إقامة دولته المستقلة، وهو ما قد لا يتسق تماماً مع إمكانياتهما الراهنة، ومع ذلك، فبإمكانهما المساهمة في التقليل من جسامة ما قد يعانيه في قادم الأيام، بالامتناع عن تقديم هدايا مجانية للكيان الصهيوني، عبر رفض التطبيع والحيلولة دون توسيع نطاق "الاتفاقات الإبراهيمية".

أما الطريق إلى معاقبة الكيان الصهيوني على ما ارتكبه من جرائم يندى لها جبين الإنسانية، فيبدو أكثر وضوحاً، إذ يسهل الوصول إليه باستخدام آليات قانونية ثلاث، الأولى: عبر التضامن مع دولة جنوب أفريقيا في الدعوى المنظورة أمام محكمة العدل الدولية، المتهم فيها الكيان بانتهاك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، والثانية: عبر تعاون جاد مع المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، تشجيعاً له على الحرص على تنفيذ أوامر الاعتقال التي وجّهها إلى كل من نتنياهو وغالانت المطلوبين للمثول أمام المحكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، والثالثة: بمطالبة المجتمع الدولي فرض عقوبات صارمة على "دولة" الكيان المارقة، بما في ذلك طردها من الأمم المتحدة، استناداً إلى ما أصدرته محكمة العدل الدولية من فتاوى تثبت الإمعان في انتهاك قواعد القانون الدولي، 

فقد أصدرت محكمة العدل الدولية ثلاثة أوامر، أولها في 26/1/2024 وثانيها في 28/3/2024، وثالثة في 28/5/2024، طلبت فيها من الكيان اتخاذ كل ما يلزم من تدابير لمنع ارتكاب أعمال يمكن أن تشكل إبادة جماعية، وضمان أن لا ترتكب قواته العسكرية أفعالاً من هذا القبيل، ومنع ومعاقبة أي تحريض على الإبادة الجماعية للفلسطينيين، وتسهيل وتوسيع وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، وحماية الأدلة المتعلقة بأي انتهاكات محتملة، وفتح المعابر وزيادة قدراتها التشغيلية بالتعاون مع الأمم المتحدة، و "الوقف الفوري للهجوم العسكري على رفح ولأي عمليات أخرى قد تعرض الفلسطينيين هناك لخطر الإبادة"، وفتح معبر رفح والمعابر الأخرى لدخول المساعدات الإنسانية، والسماح بدخول بعثات تحقيق دولية لحماية المدنيين وجمع الأدلة. ورغم ذلك كله، لم ينفذ الكيان أياً من هذه الأوامر الثلاثة الملزمة قانوناً.

كما أصدرت المحكمة نفسها ثلاث فتاوى بالغة الأهمية، الأولى حول الجدار العازل، وصدرت عام 2004، حيث قضت بعدم شرعية الجدار وألزمت الكيان بضرورة تعويض الفلسطينيين عن الأضرار الناجمة عنه، والثانية حول "العواقب القانونية للسياسات والممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة"، وصدرت عام 2024، إذ رأت أن استمرار وجود "إسرائيل" في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانوني، ومن ثم فعليها "أن تلتزم بالوقف الفوري للاستيطان، وإزالة المستوطنين، وعدم تغيير التكوين الديمغرافي"، بل إن هذه المحكمة ذهبت إلى حد اعتبار أن "بعض ممارسات الاحتلال يندرج تحت جريمة الفصل العنصري (apartheid)"، والثالثة حول "التزامات الكيان تجاه وجود الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والأطراف الدولية الثالثة في الأراضي الفلسطينية المحتلة"، وصدرت عام 2025، حيث قضت بعدم شرعية ما يتخذه الكيان من إجراءات لعرقلة نشاط وكالة "الأونروا" وغيرها من المنظمات الدولية ومنعها من القيام بواجباتها الإنسانية. 

كانت محكمة الجنايات الدولية قد قررت في 5/2/2021 أن اختصاصها "يشمل الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة"، ثم قامت في 3/3/2021بفتح تحقيق رسمي في الجرائم التي ارتكبت خلال الحرب على غزة عام 2014، وخلال المظاهرات التي وقعت قرب السياج الحدودي عام 2018، وإبان عمليات الاستيطان التي جرت في الضفة الغربية، وأخيراً في الانتهاكات التي ارتكبت في حرب 2023 وما بعدها، وانتهت في مايو 2024، بإصدار مذكرات توقيف بحق كل من بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء، ويواف غالانت، وزير الدفاع السابق، بعد أن وجهت إليهما تهماً بتجويع المدنيين ومنع دخول المساعدات الإنسانية وارتكاب أعمال إبادة وجرائم ضد الإنسانية.

ولأن الكيان الصهيوني ارتكب جرائم ضد الإنسانية خلال السنتين الأخيرتين، تفوق ما ارتكبه نظام جنوب أفريقيا العنصري من جرائم في تاريخه، يجب على الأمم المتحدة أن تعامله مثلما عاملت نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا من قبل. فحين فشل مجلس الأمن في حرمان جنوب أفريقيا من شرف العضوية في الأمم المتحدة، بسبب الفيتو الأميركي، قررت الجمعية العامة رفض اعتماد وفدها للمشاركة في أعمال الدورة التي انعقدت عام 1974. وظلت جنوب أفريقيا منذ ذلك التاريخ دولة منبوذة وغير قادرة على المشاركة في أنشطة الأمم المتحدة حتى عام 1994، أي إلى ما بعد سقوط نظام الفصل العنصري. فهل يلقى نظام الكيان الصهيوني المصير نفسه؟ أظن أنه يستحقه بجدارة!