مسؤوليات ما بعد المحرقة الفلسطينية
خطة ترامب كانت وما زالت تستهدف، بناء "ريفييرا" على الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط، لذا فإنّ على الدول العربية والإسلامية أن تتحمّل مسؤوليتها التاريخية في المحافظة على القضية الفلسطينية.
-
مؤتمر شرم الشيخ فوّض ترامب وحده بأن يتولّى بنفسه وضع خطته موضع التنفيذ.
يسود شعور عامّ بالارتياح عقب نجاح الجهود التي أفضت إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة، والتي لولاها لما تحرّكت قوافل المساعدات التي قد تخفّف من حدّة الآلام الناجمة عن المحرقة التي تعرّض لها سكان القطاع على مدى عامين كاملين.
فما جرى في هذا القطاع خلال العامين الماضيين لم يكن حرباً بالمعنى العسكري أو السياسي أو الأخلاقي للكلمة، بل عملية إجرامية متعمّدة لإبادة شعب وإجباره على الرحيل من وطنه، حيث أقدم الكيان الصهيوني على تدمير قطاع غزة تماماً وأحاله إلى منطقة غير قابلة للحياة، وقتل وجرح ودفن تحت الأنقاض ما يزيد على مئتي ألف شخص، يمثّلون ما يقرب من 10% من سكّانه (معظمهم من الأطفال والنساء)، وتعمّد تجويع وتشريد ومطاردة من تبقّى منهم، وارتكب كلّ ما يمكن تصوّره من جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، شملت: تدمير المدارس والمستشفيات ودور العبادة، واغتيال الصحافيين والأطباء والمسعفين والعاملين في قطاع الإغاثة وموظفي الأمم المتحدة والمنظّمات الدولية غير الحكومية.
ولأنها جرائم لا تستقط بالتقادم، ينبغي ملاحقة كلّ من تسبّب في ارتكابها وتقديمه للمحاكمة، كي ينال جزاءه العادل ولكي لا يتكرّر ما حدث مرة أخرى. وتلك هي أولى الواجبات التي يتعيّن على كلّ شرفاء العالم أن يطالبوا بها في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، خصوصاً وأنّ الدعوى التي أقامتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، المتهم فيها الكيان الصهيوني بانتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية، لا تزال منظورة، كما أنّ الأوامر الصادرة من محكمة الجنايات الدولية باعتقال كلّ من بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء، ويوآف غالانت، وزير الدفاع السابق، لا تزال سارية المفعول.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الخطاب الذي ألقاه دونالد ترامب أمام الكنيست الإسرائيلي يوم الاثنين الماضي خلا من أيّ كلمة تشير إلى معاناة الفلسطينيين أو تعكس أيّ قدر من التعاطف مع الشعب الفلسطيني بسبب المحرقة التي تعرّض لها طوال تلك الفترة، رغم أنها لا تقلّ قسوة وبشاعة عمّا تعرّض له اليهود على يد النظام النازي قبيل وإبان الحرب العالمية الثانية، بينما استفاض في حديث متشعّب عن معاناة الأسرى الإسرائيليين داخل أنفاق القطاع المظلمة، كما خلا الخطاب في الوقت نفسه من أيّ كلمة تشير إلى "حلّ الدولتين" أو إلى حقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وفي إقامة دولته المستقلة.
الأكثر غرابة من كلّ ما سبق أنّ ترامب راح يتباهى في خطابه بما قام به شخصياً لصالح الكيان إبّان فترة ولايته الأولى، حين أقدم على نقل السفارة الأميركية إلى القدس واعترف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السورية، قبل أن يتفاخر أيضاً بما قام به من دور لمساعدة هذا الكيان على إنجاز كلّ ما حقّقه من انتصارات عسكرية في المعارك التي خاضها مؤخراً على مختلف الجبهات، خصوصاً على الجبهتين اللبنانية والإيرانية، في مؤشّرات لا تبعث على الارتياح مطلقاً، خصوصاً وأنها تصدر عن مسؤول يفترض أن يتولّى بنفسه قيادة "مجلس سلام" مكلّف بالإشراف على تطبيق خطة للسلام تحمل اسمه!!.
على صعيد آخر، يلاحظ أنّ "وثيقة الضمانات" التي وقّعها دونالد ترامب في مؤتمر شرم الشيخ، إلى جانب توقيعات كلّ من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس التركي رجب طيب إردوغان وأمير دولة قطر تميم بن حمد آل ثاني، صيغت بعبارات فضفاضة، وبالتالي خلت تماماً من أيّ التزامات محدّدة تضمن عدم عودة الكيان لاستئناف العمليات العسكرية بعد استعادة جميع أسراه.
فقد اكتفت هذه "الوثيقة" بالتعبير عن "تطلّعهم وطموحهم نحو رؤية شاملة للسلام والأمن والرخاء المشترك تقوم على الاحترام المتبادل ومبدأ المصير المشترك"، وهي عبارة إنشائية توحي بأنّ الهدف الرئيسي من انعقاد مؤتمر شرم الشيخ لم يكن تقديم أيّ نوع من الضمانات التي تضفي قدراً أكبر من الجدّية على خطته المكتوبة، بقدر ما كان محاولة فجّة لإرضاء الغرور الشخصي لترامب نفسه وإيهام العالم بأنه قام بخطوة جبّارة لتحقيق السلام في المنطقة.
فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أنها حرصت في الوقت نفسه على أن تتضمّن نصاً يشير إلى "الترحيب بأيّ خطوات عملية يتمّ اتخاذها نحو إقامة علاقات طبيعية بين "إسرائيل" وجيرانها الإقليميين، وبأيّ تقدّم يتمّ إحرازة نحو التوصّل إلى اتفاقيات شاملة تساهم في تحقيق السلام الدائم والاستقرار في المنطقة"، لتبيّن لنا بوضوح أنّ ترامب سيركّز نشاطه في المرحلة المقبلة على توسيع نطاق "الاتفاقيات الإبراهيمية" كي تضمّ أطرافاً عربية وإسلامية لم تنضمّ إليها بعد، وليس على أيّ شيء آخر له صلة بالحقوق الفلسطينية المشروعة، أو حتى بضمان الانسحاب الإسرائيلي الكامل من قطاع غزة خلال فترة زمنية معقولة، ما يقطع بأنّ مصاعب كثيرة ما زالت تعترض طريق الوصول إلى سلام حقيقي في المنطقة، بدليل خلو "خطة ترامب" ذات العشرين بنداً من أيّ تعهّدات أو التزامات حقيقية تضمن الوصول إلى "السلام" الذي تبشّر به، ولو بعد حين.
لا شكّ أنّ وقف إطلاق النار يعدّ خطوة شديدة الأهمية، غير أنه يتعيّن الانتباه إلى حقيقة أساسية، مفادها أنّ وقف إطلاق النار يحقّق مصلحة مؤكّدة للكيان أيضاً، خصوصاً إذا اقترن بعملية تؤدّي إلى استعادة جميع الرهائن دفعة واحدة، وذلك لأسباب كثيرة، أهمّها: عجزه الواضح طوال عامين عن تحرير هؤلاء الرهائن، تكبّد خلالهما خسائر عسكرية واقتصادية فادخة، وسقوط سرديته الإعلامية الرسمية بعد أن عجز عن تسويقها، وتحوّله إلى كيان معزول ومنبوذ عالمياً ليس لدى الرأي العامّ العالمي فحسب، وإنما لدى دول وحكومات عديدة، اعترف معظمها بالدولة الفلسطينية المستقلة، بما فيها دول غربية كانت تعدّ تقليدياً حليفة للكيان، كفرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا وغيرها، إضافة إلى تصاعد انقساماته الداخلية.
لذا يمكن القول إنّ وقف إطلاق النار لا ينقذ الشعب الفلسطيني وحده من خطر الإبادة الجماعية والتجويع، وإنما ينقذ الكيان الصهيوني أيضاً من خطر العزلة الخارجية والانهيار الداخلي. ولا شكّ أيضاً أنّ "خطة ترامب للسلام" تخلّت بشكل واضح عن مخططات التهجير الطوعي أو القسري للفلسطينيين، ومع ذلك ينبغي الانتباه إلى أنّ صمود الشعب الفلسطيني وتمسّكه الأسطوري بترابه الوطني هو ما أفشل هذه المخططات، وليس أيّ شيء آخر. ولأنّ الكيان ما زال يأمل في أن يتمكّن من تحقيق ما عجز عن تحقيقه في ميدان القتال بوسائل أخرى، خصوصاً من خلال الاستعانة بخدمات الرئيس ترامب، يتعيّن الانتباه إلى أنّ المرحلة المقبلة ستكون هي الأخطر في تاريخ القضية الفلسطينية، ما يفرض على الدول العربية والإسلامية التي وافقت على خطة ترامب وأعلنت عن استعدادها للتعاون في تنفيذها، التحلّي بقدر كبير من الحذر والقيام بخطوات محدّدة للحيلولة دون تصفية القضية الفلسطينية.
فيما يلي بعض ما ينبغي القيام به على هذا الصعيد:
أولاً: البحث عن صيغة تكفل الربط عضوياً بين مستقبل القطاع ومستقبل الضفة. فأخطر التحدّيات التي قد تعترض طريق القضية الفلسطينية في المرحلة المقبلة هو اختزالها في كلّ ما يتعلق بإدارة وإعمار قطاع غزة أو الرغبة، بما في ذلك الحجج المتعلقة بإنهاء حكم حماس في القطاع.
وفي تقديري أنه يمكن إيجاد هذا الربط العضوي من خلال:
1- التشكيل المقترح للحكومة التي ستتولّى إدارة القطاع في المرحلة الانتقالية. إذ ينبغي أن تتشكّل هذه الحكومة من تكنوقراط وطنيين مستقلين، يعيّنون بعد التشاور مع كلّ الفصائل والتيارات السياسية والفكرية الفلسطينية، ويراعى في اختيارهم أن يكونوا من بين أفضل العناصر المهنية التي تعبّر عن الشعب الفلسطيني أينما وجد، سواء كانت الأصول العائلية لهذه العناصر تنتمي لقطاع غزة أو للضفة الغربية أو للفلسطينيين الموجودين في المنفى.
2- التشكييل للمجلس الذي سيتولّى ترامب رئاسته (مجلس السلام). إذ يتعيّن أن يضمّ هذا المجلس شخصية فلسطينية تختارها منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها الممثّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وتحظى بتوافق وطني جامع.
3- التشكيل المقترح للأجهزة التي ستتولّى مهمة إعمار القطاع، إذ ينبغي أن تعمل هذه الأجهزة تحت إشراف وسلطة الحكومة الانتقالية وحدها، من دون أيّ تدخّل أو مشاركة من جانب أيّ جهة أخرى. ومن الواضح أنه يصعب تنفيذ أيّ من هذه المقترحات إلا بعد التوصّل إلى مصالحة حقيقية بين الفصائل الفلسطينية، وتلك هي المهمة الأساسية التي يجب أن توليها الدول العربية الإسلامية المنخرطة في تنفيذ خطة ترامب عناية فائقة وأولية على كلّ ما عداها من مهام.
ثانياً: إشراك مجلس الأمن في مرحلة ما في الجهود الرامية لتنفيذ "خطة ترامب للسلام". وللتغلّب على الاعتراضات الأميركية والإسرائيلية المتوقّعة لأيّ دور يعهد به إلى الأمم المتحدة، يتولّى "مجلس السلام" الذي يقوده ترامب بنفسه، مهمة إعادة صياغة خطته المكوّنة من عشرين بنداً، تقتصر في معظمها على مبادئ عامّة، لتأخذ شكل البرامج القابلة للتنفيذ على مراحل زمنية محدّدة، يفترض أن تفضي مرحلتها الأخيرة إلى صيغة تساعد على تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقّه في تقرير المصير، ثم تعرض هذه البرامج على مجلس الأمن لمناقشتها واعتمادها في صورة قرار ملزم، ينصّ فيه صراحة على أنه يتصرّف استناداً إلى الفصل السابع من الميثاق، ثم تترك الأمور بعد ذلك إلى مجلس الأمن كي يتولّى بنفسه استكمال المهمة الرامية إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، ولكن باسم المجتمع الدولي ككلّ وليس باسم ترامب أو الولايات المتحدة الأميركية.
يبدو واضحاً أنّ مؤتمر شرم الشيخ فوّض ترامب وحده بأن يتولّى بنفسه وضع خطته موضع التنفيذ. ولأنّ خطته كانت وما تزال تستهدف، من وجهة نظره على الأقل، بناء "ريفييرا" على الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط، وليس إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة وغزة، كما تتصوّر بعض الدول العربية والإسلامية، على الأخيرة أن تتحمّل مسؤوليتها التاريخية في المحافظة على القضية الفلسطينية والحيلولة دون تصفيتها، وهو ما لن يتحقّق من دون مشاركة فعّالة من جانب مجلس الأمن.