بين زمام المبادرة والوظيفة الإمبريالية
التفوق التكنولوجي للعدو ليس تفوقاً أبدياً مطلقاً، وبات اليوم شكلاً من التعويض التكتيكي الميداني لأفول سياسي تاريخي ناجم عن تفسخ الفسيفساء الاجتماعية الصهيونية.
في سياق صراع الاستراتيجيات الكبرى بين الشرق وبين الغرب الإمبريالي على الجزء الهام من الهارت لاند الجنوبي، أو غرب آسيا أو ما يعرف بالشرق الأوسط، دخلت المنطقة تجاذبات دامية تحدد مصيرها بل مصير العالم كله.
وعلى أهمية عقود الصراع السابقة بين حركة التحرر بزعامة جمال عبد الناصر وبين الاستعمار القديم والجديد، فقد تمكنت القوى الشعبية المقاومة بعد وفاة عبد الناصر وتفكك الاتحاد السوفياتي من عرقلة المشروع الأميركي- الصهيوني الرجعي للشرق الأوسط وهزيمته، وصولاً إلى عام 2006 ثم السابع من أكتوبر وحتى اللحظة، ولا يزال الصراع في خطوطه العامة يدور في السياقات ذاتها التي عززتها التطورات المتلاحقة، على الجبهتين الفلسطينية واللبنانية ضمن المعطيات الآتية:
1- الشراكة الكاملة للإمبريالية الأميركية مع العدو في كل اعتداءاته وجرائمه، فواشنطن ليست داعمة أو متواطئة بل هي غرفة العمليات الكبرى لكل ما يجري من مذابح صهيونية في إطار محاولاتها ربط الهارت لاند الشمالي الأوراسي بالهارت لاند الجنوبي الشرق أوسطي وضمنه مشروع طريق الهند الجديدة – حيفا، والإبراهيمية السياسية التي تقتضي تصفية كل القوى المناهضة ومجمل قوى محور المقاومة ودوله.
في المقابل، تدرك واشنطن أكثر من غيرها أن غطرستها السابقة مرّت في الشرق الأوسط بلا مكابدة حقيقية، مقارنة بما تواجهه وينتظرها في زمن المقاومة، فضلاً عن أنها إمبريالية تعيش أزمات بنيوية متفاقمة قد تذهب بها إلى إرهاصات حروب داخلية أهلية برائحة عنصرية.
2- في ما يتعلق بالعدو الصهيوني، فالمشروع الخاص به هو محاولته استعادة دور الشرطي الإقليمي الموكل به والذي تشكّل أساساً لتنفيذه، فالمشروع الصهيوني ما كان له ليرى النور أصلاً كحالة استيطانية كولونيالية إجرامية شرق المتوسط، لولا الحاجة الإمبريالية البريطانية ثم الأميركية له كـ "بافر ستيت" بين مصر والشرق العربي، وكمحطة عسكرية استخبارية على طريق الهند الشرقية – حيفا.
والأهم كضامن أو صمّام أمان للمصالح الإمبريالية النفطية ومحمياتها ولدولة سايكس بيكو التي قامت على أنقاض وحدة البلاد السورية والعراق، وقد ساعده عدوان حزيران 1967 وتداعياته التي انتهت بوفاة عبد الناصر وصعود الساداتية على تكريس هذا الدور قبل أن يهتز بعد تحطيم المصريين خط بارليف واختراق السوريين دفاعاته في الجولان المحتل، واقترابه من أسوأ أيامه لولا التدخل الأميركي وتعديل ميزان القوى من جديد وترجمة ذلك في الاتفاقيات المذلة المعروفة.
لكن صعود بديل مقاوم غير حكومي( حزب الله والمقاومة الفلسطينية الجديدة) وإخفاق العدو أمامهما في أكثر من محطة بين عام 2006 والسابع من أكتوبر، هز الدور الوظيفي للشرطي الصهيوني من جديد وقطع الطريق على إعلان نهاية التاريخ في الشرق الأوسط عند أقدام العدو والاتفاقيات الإبراهيمية.
وإذا كان نصف الهزيمة الذي مُني به العدو أمام الجيوش المصرية والسورية عام 1973، قد انعكس عليه في انقلاب اجتماعي غير مسبوق في تاريخه، دفع الطبقة الوسطى من الأشكناز وأحزابها إلى الخلف قليلاً لصالح الفئات الأكثر إجراماً مثل الليكود وتحالفاته مع قوى السفرديم، فإن البيئة الحاخامية العنصرية محمولة بالنزعة الأكثر توحشاً للإمبريالية العالمية وبالخطاب التكفيري أيضاً الذي صنعته وغذّته الاستخبارات الأميركية والبريطانية، راحت تنعكس على الكيان وتشكيلته الاجتماعية وتدفع الأشكناز خطوات واسعة إلى الخلف وهم جوهر الدور الوظيفي الإقليمي للكيان.
انطلاقاً من ذلك، وبالإضافة إلى الجوهر العنصري الإجرامي الصهيوني بحد ذاته في التعاطي مع حالات الاشتباك المختلفة، فإن جانباً هاماً وأساسياً من هذا السلوك يعكس محاولة العدو استعادة ثقة المتروبولات الإمبريالية بدوره المتآكل في الإقليم، بالتزامن مع حاجة هذه المتروبولات لدور كهذا في لعبة الجيوبوليتيك التي باتت تحدد مصير العالم وأسواقه وطرقه الاستراتيجية وموارده.
يمكن الإضافة بأن المنظومة الرسمية العربية التابعة رغم دموع بعض عواصمها على أشلاء النساء والأطفال، تعرف أيضاً أن إضعاف العدو واستنزافه هو إضعاف وإنهاك لها، ولا يسعدها أبداً صمود المقاومة أو انتصارها، ومعروف للجميع كيف تعاطت مع العدوان الصهيوني على المقاومة والجيش السوري عام 1982 لتجديد دورها وتمرير مشاريعها الاستسلامية مثل مبادرة فاس الأولى، وصولاً إلى مزيد من الاتفاقيات الإبراهيمية، وفق معادلة المركز الإسرائيلي – المحيط العربي التابع.
إلى ذلك، لا بد من الإشارة أولاً إلى خطورة تصوير ما يجري داخل الكيان كما لو أنه مرتبط بـ نتنياهو ومصيره، فنتنياهو تكثيف لكل مجتمع الثكنة الصهيونية، وثانياً أن محاولات العدو المذكورة لاستعادة دوره الدركي المتآكل، اتسمت هذه المرة بجرعة أكثر وحشية وأكثر تقنية في رسالة تتخطى ميدان الاشتباك العسكري إلى السيكولوجيا العربية، وتكتيكات الصدمة والترويع وبلبلة بيئة المقاومة ومحاولة فصلها عن المقاتلين واستبدال ثقافة الإرادة والكرامة والشهادة والبطولة باستدخال الهزيمة واليأس ثم الاستسلام.
وهي تكتيكات عرفتها كل الشعوب التي وضعت بين خيار القتال والكرامة والتضحيات الجسام، وبين خيار حري بالعبيد، بل إن إمبرياليات مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا خسرت في لحظات من تاريخها ملايين القتلى وكادت أن تغادر التاريخ لولا تنحية أصوات الهزيمة في اللحظات الفاصلة، ولم تكن قضيتها عادلة في تلك الحروب.
3- إذا كان العدو الصهيوني يسعى إلى استعادة دوره الوظيفي الإقليمي، إضافة إلى رائحة الدم التوراتية التي تسري في عروقه الفاشية، فإن حزب الله بالرغم من استشهاد قائد تاريخي كبير من وزن سماحة السيد نصر الله، وكذلك حركة المقاومة الفلسطينية بالرغم من استشهاد قائد تاريخي كبير أيضاً مثل يحيى السنوار، فإن هذه القوى قادرة على الصمود وتوسيع الاشتباك وقوس وحزام النار حول وضد معسكرات العدو ومستوطناته ومؤسساته الاستراتيجية في سياقين:
الأول، تعميق المواجهة وتوسيعها والضغط على المستوطنات في الحزامين الشمالي والجنوبي، سواء لغايات استراتيجية أو تكتيكية في ما يخص أي وضع مستقبلي.
الثاني، من المؤكد أن العدو والبنتاغون يملكان أحدث التقنيات وأدوات التجسس والحرب السيبرانية التي حوّلت العالم كله إلى داتا تطال تفاصيل التفاصيل في عالم المقاتلين والمدنيين، لكن المتروبولات الرأسمالية التي كانت متقدمة تقنياً في كل حروبها العدوانية، خرجت مهزومة أو مكرهة في معظم هذه الحروب.
وتدرك المقاومة جيداً أن استعادة زمام المبادرة كضرورة سياسية، متاحة جداً ومحكومة لاعتبارات عديدة منها:
- إن حرب الاستنزاف المتبادلة بأعلى سقف ممكن، ليست في مصلحة العدو الذي لا يستطيع أن يدير حرباً كهذه لمدة طويلة بالنظر إلى حاجته إلى انخراط واسع فيها يعطل الحركة الاقتصادية واستثماراته الكبرى كما هو جار اليوم، كما إن استمرار مثل هذا الاستنزاف يكرس تفريغ ما يسمى بالحزامين الشمالي والجنوبي من المستوطنات ويوسّع الهجرة المعاكسة.
- إن مجال الجغرافيا السياسية الجديد هو في خدمة المقاومة أكثر من العدو الصهيوني، ولم يعد مربوطاً بمجال دول الطوق وحده الذي تعوّد عليه العدو بأشكال مختلفة من الترويض والتهديد والتطبيع والرهان على عواصم النظام الرسمي التابعة، بل بـمجال جديد حقاً هو مجال الساحات ووحدتها بهذا القدر أو ذاك، ولا سيما بعد امتلاكها مستويات ردع متقدمة من الصواريخ والمسيرات وغيرها، وهي ساحات تستند إلى بيئة شعبية حاضنة مهما حاولوا خلخلة استعدادات هذه البيئة بين الحين والحين، ورأينا أن الاختراقات الصهيونية والأميركية السياسية ما تزال بحدود أصوات سياسية وإعلامية معروفة في منابر المحميات النفطية.
- إن التفوق التكنولوجي للعدو ليس تفوقاً أبدياً مطلقاً، وبات اليوم شكلاً من التعويض التكتيكي الميداني لأفول سياسي تاريخي ناجم عن تفسخ الفسيفساء الاجتماعية الصهيونية وتحوّلها من مصدر للقوة إلى عبء أو مصدر للتفكك.
- مقابل الأزمة الاجتماعية والديموغرافية عند العدو، فإن سد الثغرات التي أحدثها الاستخدام المتوحش للتكنولوجيا في بيئة المقاومة أمر مجرب، فضلاً عن أن هذه البيئة وخاصة الكربلائية عند حزب الله، بيئة صلبة وصابرة في الوقت نفسه، وتعرف أن خط المقاومة هو الذي استعاد كرامتها ومكانتها وقيمتها التاريخية بعد قرون من الإقصاء والتهميش، كما إن الشهادة بالنسبة لها ليست حادثة مفارقة ترتبط بهذه المعركة أو تلك، بل هي في صميم وجدانها وثقافتها.
- ضرورة التشديد على الرؤية الاستراتيجية وإخضاع التكتيكات الميدانية وغيرها لهذه الرؤية، والمراقبة السياسية الدائمة للمسافة بينهما حتى لا تتحوّل يوميات الصراع إلى استنزاف غير محسوب، فالصراع اليوم تخطى تحسين الشروط والتحسبات المبالغ فيها للبيئة المحيطة، إلى كسر عظم استراتيجي حول مستقبل الشرق برمته.
- من بين المناطق الحيوية التي يدور الصراع حولها، وتستدعي التركيز عليها، ما تمثله حيفا والميناء على نحو خاص، والذي قد يتحوّل إلى حجر الرحى في هذا الصراع، ولا سيما أنه بات العقدة الاستراتيجية في مشروع طريق الهند الشرقية الجديدة، وموقعها في الصراع على الهارت لاند الجنوبي، ناهيك بأهميته للعدو الصهيوني.