الضمير اليهودي والهولوكوست الفلسطيني

لم يكن الصراع الذي اندلع مع الكيان الذي تأسس على جزء من الأرض الفلسطينية، صراعاً بين مسلمين أو عرب ويهود، ولكن كان صراعاً قادته شعوب المنطقة في مواجهة مشروع استعماري جسّدته الحركة الصهيونية.

  • "إسرائيل" دولة نشاز لا مثيل لها في العالم أجمع.

يدّعي الكيان الصهيوني أنه يمثل يهود العالم كافة، ومن ثم يعطي لنفسه حق التحدث باسمهم والدفاع عن مصالحهم، بل وحصل بالفعل على تعويضات ضخمة عن جرائم ارتكبها النظام النازي في حق اليهود الألمان.

ولإضفاء الشرعية على هذه الادعاءات، أصدر الكنيست مجموعة من القوانين، منها "قانون العودة"، الذي يتيح لكل يهودي يعيش في مكان ما في العالم حق الهجرة إلى "إسرائيل"، وحمل جنسيتها، والتمتع بحقوق المواطنة كافة، بينما لا يستطيع ملايين الفلسطينيين، وهم أصحاب الأرض الأصليون، العودة إلى منازلهم التي طردوا منها، وقانون "القومية اليهودية"، الذي يرى في "إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي"، بينما ينكر وجود الشعب الفلسطيني ولا يعترف له حتى بالحق في العيش داخل هذه "الدولة" كأقلية قومية.

لو كانت "الدولة" اليهودية قد أقيمت على أرض بلا شعب، كما تدّعي الحركة الصهيونية زوراً وبهتاناً، لكان من الممكن اعتبارها حلاً سحرياً لواحدة من أكبر المعضلات التي واجهت البشرية منذ الأزل، وأعني بذلك آفة التعصب وكراهية "الآخر المختلف"، لكن المشكلة أنها أقيمت بالقوة على أرض شعب آخر، عاش عليها منذ فجر التاريخ، وفي سياق مؤامرة دولية انتهكت فيها القوانين الدولية والشرائع الإنسانية كافة.

ويكفي أن نشير هنا إلى أن الميليشيات اليهودية المسلحة، مثل "الهاجاناه" و"الإرجون" و"شتيرن" وغيرها، لعبت دوراً رئيسياً في إنشاء هذه "الدولة"، وارتكبت مجازر بشعة أدّت إلى فرار وطرد 700000 نسمة (كانوا يشكّلون في ذلك الوقت أغلبية الشعب الفلسطيني وأصبح تعدادهم الآن أكثر من 9 ملايين نسمة)، أما من بقي من الفلسطينيين داخل حدود 1948 فقد تحوّلوا إلى مواطنين من الدرجة الثانية، يعانون العديد من مظاهر الاضطهاد والتمييز والفصل العنصري.

اليهودي، بحكم التعريف، إنسان ينتمي إلى ديانة معينة، شأنه في ذلك شأن المسيحي والمسلم والبوذي، وليس إلى قومية أو إلى عرق أو مذهب بعينه. ولأن الدول لا تقام استناداً إلى معايير دينية أو عرقية أو مذهبية، وإنما إلى معايير قومية، لا توجد دولة يحق لكل مسلمي العالم أن يعيشوا فيها أو يهاجروا إليها، وأخرى يحق لكل مسيحيي العالم أن يعيشوا فيها أو يهاجروا إليها..الخ.

صحيح أن المنتمين إلى كل دين يرتبطون في ما بينهم بروابط خاصة، روحية وثقافية وحضارية، لكن يصعب جمعهم تحت مظلة سياسية واحدة أو داخل نظام سياسي واحد، لأن الأديان هي بطبيعتها عابرة للقوميات والثقافات والحضارات. فاليهودي، شأنه في ذلك شأن المسلم أو المسيحي أو البوذي، يمكن أن يكون أوروبياً أو أميركياً أو هندياً أو صينياً أو عربياً. لذا، تبدو "إسرائيل" دولة نشاز لا مثيل لها في العالم أجمع، لأنها تعبّر عن نفسها دولة لليهود فقط، الأوروبي منهم والأميركي والصيني والهندي والعربي. وهذا وضع يحمل في ثناياه، إن تم تعميمه على العالم بذور عدم الاستقرار وربما الفناء أيضاً. 

والواقع أن الكيان الصهيوني الذي تأسس عام 1948 على جزء من أرض فلسطين لا علاقة له بدين أو بمذهب أو بجماعة بشرية بعينها، وإنما استخدم الدين في هذه الحالة كغطاء لمشروع استعماري صمّم في مرحلة اتّسمت بضعف الإمبراطورية العثمانية وتفككها، وتبنّته قوى دولية تطمح في وراثة هذه الإمبراطورية بعد سقوطها، لأسباب تتعلق بالرغبة في الحيلولة دون ظهور دولة عربية أو إسلامية كبرى في هذه المنطقة من العالم، تعيد إحياء مفهوم الخلافة.

صحيح أن "الحركة الصهيونية" التي أسسها تيار يرى أن تأسيس دولة لليهود في فلسطين هو الحل الجذري لمشكلة الاضطهاد الذي عانوا منه على مر القرون، كانت هي النواة الأساسية لهذا المشروع، غير أنه ما كان لهذه الحركة أن تنمو وتزدهر لولا تبنّيها وتعهّدها بالرعاية من جانب قوى الاستعمار الغربي، سواء في شكله التقليدي الذي مثلته بريطانيا في فترة ما بين الحربين، أو في شكله الإمبريالي الذي مثلته الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لذا، يمكن القول إن مصير الكيان الصهيوني ومستقبله سيظلان مرتبطين عضوياً بمصير الظاهرتين الاستعمارية والإمبريالية ومستقبلهما.

لم يكن الصراع الذي اندلع مع الكيان الذي تأسس على جزء من الأرض الفلسطينية عام 1948، صراعاً بين مسلمين أو عرب ويهود، ولكن كان صراعاً قادته شعوب المنطقة في مواجهة مشروع استعماري جسّدته الحركة الصهيونية، ومن ثم ظل صراعاً سياسياً وفكرياً في جوهره وليس صراعاً دينياً في أي حال من الأحوال.

لذا، حرصت الدول العربية دائماً، حتى وهي في ذروة الصراع المسلح مع هذا المشروع، على التمييز بين الصهيونية واليهودية، ونجحت في طرح مشروع قرار يساوي بين الصهيونية والعنصرية ويرى في الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، تبنّته الجمعية العامة للأمم المتحدة بالفعل (القرار رقم 3397 لعام 1975). ولو كانت الدول العربية قد ألزمت نفسها بمواصلة هذا النهج في إدارتها للصراع، لما وصل الكيان الصهيوني إلى درجة التوحش التي أصبح عليها بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. غير أن التخلي عنه أدى عام 1991 إلى إلغاء هذا القرار الهام الذي أصبح العالم في حاجة ماسة إلى إعادة التذكير به.

تجدر الإشارة هنا إلى أن الطابع العنصري المتوحش للكيان الصهيوني بدأ يترسخ بشكل أعمق بعد إلغاء هذا القرار، وذلك من خلال إجراءات عديدة، كإقامة جدار عازل يفصل بين الفلسطينيين واليهود، وبناء طرق التفافية تفصل المستوطنات اليهودية عن المدن العربية. كما قام الكنيست بإصدار سلسلة من القوانين التمييزية، استهدفت طمس الهوية الثقافية والحضارية الفلسطينية، وتأكيد الطابع "اليهودي" للكيان، وحرمان أصحاب الأرض الأصليين من حقوق طبيعية أصيلة غير قابلة للتنازل.

ورغم ذلك كله، لم يتصور أحد أن يصل الشطط بصناع القرار في هذا الكيان إلى حد استخدام عملية "طوفان الأقصى" ذريعة لشن حرب إبادة جماعية شاملة، والقيام بحملات تطهير عرقي لإجبار الشعب الفلسطيني على الرحيل من وطنه. فكيف يمكن لإنسان عاقل، أياً كان دينه أو توجهاته الفكرية والسياسية، أن يصل بخياله الجنوح إلى حدّ تصوّر أن يقدم كيان أنشئ خصيصاً للحيلولة دون تعرض اليهود إلى "هولوكوست" جديد، على أن يرتكب بنفسه "هولوكوست" ضد الفلسطينيين لا يقل بشاعة عما تعرض له اليهود إبان الحكم النازي.

أدرك حجم الغضب الذي قد يشعر به كثيرون، حين يستخدم هذا المصطلح بالذات لوصف ما يجري حالياً في قطاع غزة. لكن، كيف نسمّي ما يحدث هناك، حين نشاهد "جيشاً" يطلق على نفسه لقب "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم" يقوم بتحويل منطقة جغرافية يقطنها أكثر من 2 مليون نسمة إلى كومة هائلة من الرماد المحترق، أي إلى منطقة غير قابلة للحياة، ويتولى بشكل منهجي منظم قتل ما لا يقل عن 100 فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، وجرح أضعاف هذا العدد يومياً، وبشكل متواصل لمدة 650 يوماً من دون انقطاع، ما رفع إجمالي أرقام الشهداء والجرحى والمفقودين حتى كتابة هذه السطور إلى أكثر من 200 ألف، وهو ما يعادل نحو 10% من إجمالي سكان القطاع.

وكيف نسمّي ما يجري هناك، حين يمارس هذا "الجيش" سياسة منهجية لتجويع جميع السكان، بما في ذلك منع الحليب عن الأطفال، وحجب ما تحتاجه المستشفيات التي نجت من التدمير من وقود وكهرباء ومياه.

وكيف نسمّي ما يجري حين تباشر الآلة العسكرية الإسرائيلية القتل المتعمّد لمئات الصحفيين وعمال الإغاثة والمسعفين، وتحوّل مراكز توزيع المعونات "الإنسانية" إلى مصائد للموت والتعذيب والانتقام، وتطارد السكان تحت وابل من قذائف الطائرات والمسيرات، لإجبارهم على ترحال لا ينتهي نحو كل الاتجاهات، بل وصل الأمر إلى حد دفع مئات الآلاف نحو معازل بشرية يسهل من خلالها القيام بعمليات تهجير "طوعي"!!

لا شك أن لدى الكيان إجابة جاهزة عن كل التساؤلات المستنكرة: حماس هي السبب في كل ما يحدث، فهي التي قامت أولاً بقطع رؤوس الأطفال وباغتصاب النساء. وحتى بافتراض صحة هذه الادعاءات، وهو أمر مشكوك أو مبالغ فيه، لا يبرر ما ترتكبه "إسرائيل" من جرائم. لذا، لم أجد سوى مصطلح "الهولوكوست الفلسطيني" لوصف ما يجري حالياً في القطاع. فالعالم أجمع يدرك أن الهدف من ورائه هو تمهيد الطريق نحو دولة يهودية كبرى ومهيمنة في المنطقة، لا يمكن لها أن تقام إلا بإخلاء القطاع والضفة من السكان.

ما يجري حالياً في قطاع غزة يشكل إهانة كبرى للإنسانية، وسُبَّة في جبين الحضارة الغربية المعاصرة، وطعنة في الظهر لكل مؤسسات النظام الدولي، لكنه يلقي في الوقت نفسه بمسؤولية من نوع خاص على عاتق الضمير الجمعي لكل يهود العالم الذين يدّعي الكيان الصهيوني أنه يمثلهم.

لذا، حان الوقت كي يستيقظ هذا الضمير، ولكي يعلن كل يهود العالم، وبأعلى صوت، أن "إسرائيل" لا تمثلهم، وأن الصهيونية شيء واليهودية شيء آخر.

أدرك أن للعديد من الكتاب والفلاسفة والمفكرين اليهود سجلاً ناصع البياض في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق الفلسطينيين، وأعرف أيضاً أن نحو 500 شخصية يهودية من جميع أنحاء العالم شاركت في مؤتمر دولي مناهض للصهيونية، عقد في فيينا في منتصف الشهر الماضي، وهي خطوة في الاتجاه الصحيح جاءت في وقتها تماماً، غير أن ذلك كله لا يكفي أمام هول ما يجري. لذا، أظن أن الوقت قد حان لاتخاذ إجراءات إضافية، أهمها:

1- إعادة إحياء القرار 3397، الذي يجرّم الصهيونية ويساوي بينها وبين العنصرية، 2- إقامة محاكمات لكل المتورطين في "الهولوكوست" الفلسطيني على غرار محاكمات نورمبرج 3- تجريم كل من يرفض أو يجادل في حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وفي إقامة دولة مستقلة في كل فلسطين التاريخية يتمتع فيها اليهود والفلسطينيون بجميع الحقوق السياسية والمدنية على قدم المساواة.