قراءة في رسالة بايدن
الرئيس الأميركي، جو بايدن، سيكون قريباً أعجز من أن يضمن الأمن لـ"إسرائيل" لأنه لن يتمكن من انتزاع الوعي من جيل الشباب الذي أصبح شاهداً على بشاعة الصهيونية.
قال الرئيس الأميركي، جو بايدن، في رسالة إلى رئيس الكيان الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، بمناسبة الذكرى الـ 76 للنكبة: "إنّ التزامي بأمن إسرائيل ثابت، ومن الضروري أن نعمل معاً"، وأضاف: "إنّ التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل لا يتزعزع".
هذا التأكيد يجعل كل ما تلاه من العبارات عن العمل من أجل السلام في المنطقة بأكملها، وخلق مستقبل أفضل لجميع شعوبنا غير ذي معنى ولا قيمة له، لأنّ التزام الولايات المتحدة بأمن "إسرائيل"، وإغداق المال والسلاح عليها، رغم كلّ جرائم الإبادة الوحشية التي ترتكبها عصابة رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الإرهابية، واستخدام الفيتو لمنع أحد من محاسبتها على جرائم الحرب كان هو السبب الأهمّ في تمكين مجرمي الكيان العنصري من ارتكاب جرائم حرب فظيعة، وشنّ حرب إبادة جماعية بحقّ الأطفال والأمهات والمدنيين الفلسطينيين، لم يشهدها أحد في التاريخ الحديث.
ولكن الذي لا يعرفه بايدن هو أنه سيكون، وفي المستقبل القريب، أعجز من أن يضمن الأمن لـ"إسرائيل" لأنه لن يتمكن من انتزاع الوعي من جيل الشباب الذي أصبح شاهداً على بشاعة الصهيونية، والذي سوف يكون هو الحاكم في المستقبل حين لن يكون هناك بايدن وأعوانه، وحين تثمر دماء كلّ هؤلاء الشهداء الأبرياء من المدنيين العزل، ودموع الأمهات وقهر الأطفال استعادة حقّ عَمِلَ الطغاة الصهاينة على طمسه وإنكاره على مدى عقود.
لا شكّ أنّ بايدن وأذرعته من المسؤولين الإسرائيليين الذين لا يخجلون أن يشاركوا في حرب الإبادة عندما يصرحون: " لم نجد دليلاً على ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية"، ويتناقضون في أحكامهم وتصريحاتهم ومواقفهم بين أوكرانيا وفلسطين؛ لا شكّ أنهم يعوّلون على بعض المتواطئين معهم والمتعاونين معهم على ارتكاب أبشع أنواع الظلم والعدوان والإرهاب على هذا الشعب الفلسطيني الأبيّ، وعلى عقد صفقات تستكمل في رأيهم الاتفاقات المجحفة التي يدأبون على إبرامها ظناً منهم أنها قادرة على إجهاض حقّ الفلسطينيين في الحرية والاستقلال إلى الأبد، أو إسكات شعب عربي أصيل وأجيال من المنتمين إلى أرضهم وأوطانهم.
ولكنّ الذي سوف يكتشفه بايدن وورثته من أمثاله هو أنّ القضية الفلسطينية لم تعد ملكاً لهؤلاء، ولم يعودوا قادرين، حتى وإن أرادوا، أن يساوموا على حقوق شعب فلسطين أو يتاجروا بحقّه في الحياة والحرية والعودة؛ لأنّ القضية الفلسطينية وصلت إلى منعطف دولي كنّا نأمل أن تصله منذ زمن، وهو أنها أخذت تحرّك الضمائر العالمية الحرّة في كلّ مكان، وتزرع وعياً في عقول الأجيال سوف تتمّ ترجمته إلى أعمال تُنهي الظلم والقهر والاحتلال والطغيان والإرهاب الصهيوني والغربي، وتُبشّر بمستقبل جديد ليس لفلسطين وأبناء فلسطين وحدهم، وإنما للبشرية جمعاء لأنّ قضية فلسطين ستحرّر الإرادة العالمية من الجور والظلم والطغيان، وتساهم أيّما مساهمة في انبلاج عالم متعدّد الأقطاب لا قدرة لدى إدارة الولايات المتحدة المتصهينة ومن معها من الغربيين على تمرير كلّ هذا الإجرام والإبادة على مرأى الناس جميعاً ومسمعهم.
لقد عبّر طلاب جامعة مينوسيتا وكولومبيا وطلاب 75 جامعة أخرى في الولايات المتحدة في حفل تخرجهم عن ضمير الشعب الأميركي الحيّ حين حمل كلّ طالب وطالبة لوحة تحيي فلسطين، وتدعم شعب غزّة وشعب فلسطين وغطوا وجوههم بهذه اللوحات قبل أن يكشفوا عنها لاستلام الشهادة. وأنا أقول لهم إنّ موقفهم النبيل والشجاع في مساندة شعب أعزل يعاني من أبشع أنواع الظلم وبمشاركة حكومتهم هو أهمّ شهادة إنسانية لهم، وأهمّ موقف سطّروه لأنفسهم ليقولوا من هم، وهذا هو الأهمّ؛ لأنّ الشهادة التي نالوها من الجامعة، وفي أيّ اختصاص كانت، تشكّل فقط عنواناً لاجتهادهم وبحثهم، أمّا مواقفهم من هذه المجازر الصهيونية الشنيعة فهي تمثلهم هم كأحرار، وتمثل كلّ الراغبين والعاجزين عن اتخاذ مثل هذا الموقف المشرّف.
هؤلاء الشباب اليوم هم حكّام الغد، وهم الذين سوف يتبرؤون من الإرث الإجرامي الثقيل الذي تركته لهم هذه الإدارة المتصهينة، ويفتحون صفحة جديدة تُمثّل حقيقة المبادئ الإنسانية بما فيها الأميركية. إذ إن الأميركيين يعمدون، وفي كلّ المجالات والحقول، إلى تأكيد صفقة "رابح – رابح" إلا في الحالة الفلسطينية فهم يلتزمون بأمن الكيان الغاصب، حتى وإن سطّر صفحة سوداء معيبة ومُشينة بحقّه وحقّ الولايات المتحدة الأميركية.
ومن هنا، يمكن لنا أن نفهم تصريح مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بأنه يرى "إرهاقاً لدى الجانب الأميركي على صعيد مواصلة الانخراط في البحث عن حلّ". وسبب الإرهاق أو الفشل هو أنّ السياسة الأميركية تسعى لإجهاض حقّ الفلسطينيين في ديارهم وفي العودة ونيل حريتهم الوطنية، وأن تسمّي ذلك حلاً. وقد ركّزت كلّ وسائل الإعلام الغربية منذ البداية في ترديد مقولة الصهاينة أنهم يريدون القضاء على حماس، ولكن المقاومة ليست فقط حماس؛ فهي كلّ الفصائل والجبهات المقاوِمة، وأنّ حرب الإبادة طالت كلّ شرائح الشعب الفلسطيني ومؤسساته وتاريخه وجامعاته ومدارسه وجوامعه وكنائسه وأشجاره وزراعته؛ لأنّ الهدف من حرب الإبادة هذه هي إبادة كلّ ما له سمة فلسطينية، والقضاء على كلّ مقوّمات العيش والاستمرار لهذا الشعب الأبيّ.
ولذلك، فإنّ كلّ ما ارتكبه مجرمو الحرب الصهاينة في غزّة وفلسطين هو برسم الإرادة الدولية اليوم، ولم يعدْ شأناً عربياً فقط؛ إذ انتقل الصراع من أجل تحرير فلسطين من الشأن العربي والإسلامي إلى الشأن الدولي تماماً كما كان النضال من أجل تحرير جنوب أفريقيا من نظام الأبارثايد؛ فقد اتخذت جنوب أفريقيا خطوات محمودة ومشكورة في محكمة العدل الدولية لمحاسبة مجرمي الحرب في الكيان الصهيوني، وسلّطت الضوء على خطورة ما ترتكبه العصابة المجرمة الحاكمة في الكيان الصهيوني بحقّ شعب أصيل أعزل. كما قام الزعماء في أميركا اللاتينية بطرد سفراء الكيان، والوقوف مع الشعب الفلسطيني كما قامت 143 دولة في الجمعية العامة بالاعتراف بدولة فلسطين، والتي ستكون واقعاً في المستقبل القريب.
المطلوب اليوم هو أن تتحرّك القطاعات المختلفة، وعلى مستوى عالمي لطرد الصهاينة من النقابات والمؤسسات الدولية، بعد أن قتلوا الآلاف من الفلسطينيين التابعين لهذه المؤسسات ومن المدنيين العزل في غزة. ففي الرياضة، على سبيل المثال لا الحصر، قتلوا مئات اللاعبين والمدرّبين والحكّام؛ فكيف تقبل الفيفا انضواءهم تحت علمها وهم يفتكون بكوادرها ظلماً وعدواناً. وفي مجال العلوم والتربية، قتل الصهاينة أكثر من مئة من العلماء والأكاديميين وأساتذة الجامعات والباحثين، وعلى المؤسسات الدولية المعنية بالبحوث والجامعات أن تتخذ إجراءات لمحاسبة المجرمين الصهاينة. كما أنه على كلّ الجامعات في كلّ أنحاء العالم أن تضع أسماء هؤلاء في سجلاتها وترفض أيّ علاقة أكاديمية مع القتلة. كما دمّر الاحتلال أكثر من 103 جامعات ومدارس كلّياً، إضافة إلى تدمير 311 جامعة ومدرسة جزئياً. أما منظمة الصحة العالمية والمنظمات الطبية الدولية فعليها واجب كبير في تسجيل أفظع جريمة ارتُكبت بحقّ مئات الأطباء والكوادر الطبية، والجرحى وتدمير المشافي بشكل لم يحدث له مثيل في التاريخ البشري حتى خلال حربين عالميتين شهدتهما البشرية في القرن الماضي.
لا شكّ أنّ حكومات الولايات المتحدة والغرب الأوروبي عموماً قد سقطت سقوطاً أخلاقياً مدوّياً خلال هذا العدوان الأثيم على غزّة، والوحيد الذي أعاد بعضاً من الأمل هو هؤلاء الطلاب والطالبات في الجامعات الأميركية الذين تصدّوا لهذه المسؤولية الأخلاقية مدافعين عن شعب فلسطين وعن شرف بلدانهم في الوقت ذاته. تحية إلى كلّ هؤلاء، وإلى كلّ الذين استقالوا من غربيين ويهود من مناصبهم، وساهموا في رفع الصوت العالمي ضدّ الإبادة الجماعية الشنيعة في غزّة وفلسطين.
حين تتكشف الأرقام الناجمة عن الإبادة المُفجعة وتتحرّك القوى العالمية مسترشدة بتجربة جنوب أفريقيا على المستوى الدولي، لن يتمكّن بايدن ولا أمثاله من الصهاينة أو ورثته من مرتزقة منظمة "آيباك" الصهيونية من ضمان أمن الكيان الإرهابي على جماجم مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والمفقودين من المدنيين الأبرياء، وسيكتب اسمه وأسماء مجرمي حرب الكيان في صفحة مخزية من تاريخ الإنسانية، وسيتذكر العالم فقط من قاوم وضحّى وصمد وصبر من أجل حريته وأرضه واستقلال وطنه، ومن كان لديه البصيرة والحكمة ليعلن تأييده له بأيّ طريقة كانت، وسيكون العالم قد انتقل إلى مرحلة ما بعد الرأسمالية الصهيونية المتوحّشة.