هل يستطيع نتنياهو التأثير في انتخابات الرئاسة الأميركية؟
خشية كمالا هاريس من فقدان أصوات الجالية اليهودية سيكون عاملاً رادعاً يحول دون إقدام إدارة بايدن على ممارسة ضغوط كافية لحمله على قبول وقف إطلاق النار في غزة.
لم يصدر عن نتنياهو أي تصريح رسمي يفيد قبوله المقترحات التي أعلنها بايدن يوم 31/5/2024 لوقف الحرب المشتعلة في قطاع غزة منذ 11 شهراً، رغم تأكيده أنها مقترحات "إسرائيلية" في الأصل.
ولم يكتفِ بايدن بتبني الولايات المتحدة رسمياً ما طرحه من مقترحات، لكنه حرص في الوقت نفسه على أن تحظى مقترحاته بغطاء دولي يضفي عليها قدراً أكبر من الجدية، وهو ما يفسر إقدام إدارته على صياغة مشروع قرار قامت بطرحه أمام مجلس الأمن، وأفضى إلى تبني المجلس القرار رقم 2735، الذي تحولت بموجبه المقترحات الإسرائيلية-الأميركية إلى قرار أممي ملزم، ولم يبق سوى ترجمتها إلى خطة عمل قابلة للتنفيذ على أرض الواقع.
وبينما أعلنت حماس قبولها من حيث المبدأ كلاً من مقترحات بايدن وقرار مجلس الأمن، وطالبت بوضع آلية تتضمن جدولاً زمنياً لتنفيذهما، راح نتنياهو يضع في طريقهما كل أنواع العراقيل إلى أن أوصلها إلى طريق مسدود.
في تفسير هذا التعنّت، يرى كثير من المراقبين أن نتنياهو يراهن على فوز ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية التي ستجري في 5 تشرين الثاني/نوفمبر القادم، ومن ثم فله مصلحة واضحة في عدم القيام بأي تحرك قد يساعد الحزب الديمقراطي على فوز مرشحه في هذه الانتخابات، بل إن البعض ذهب إلى حد التأكيد أنه أبرم مع ترامب، أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن بدعوة من الكونغرس، اتفاقاً صريحاً التزم بموجبه بالاستمرار في مواصلة الحرب ورفض الموافقة على أي مقترحات قد تتقدم بها إدارة بايدن للتوصل إلى صفقة تفضي إلى وقف لإطلاق النار، خوفاً من أن يساعد ذلك على تمكين مرشح الحزب الديمقراطي في الانتخابات من كسب أصوات الناخبين العرب والمسلمين في الولايات المتأرجحة، ما قد يسهم في حسم هذه الانتخابات لمصلحته.
أسباب كثيرة تدعو نتنياهو ليس لعرقلة أي مقترحات تتقدم بها إدارة بايدن لوقف إطلاق النار فحسب، وإنما للعمل أيضاً على حشد وتعبئة كل إمكانات وموارد اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، وهي ضخمة ومؤثرة، لضمان فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة، فرغم كل ما قدمه بايدن من دعم غير مشروط للكيان الصهيوني عقب "طوفان الأقصى"، فإنَّ نتنياهو يفضل أن يكون ترامب هو الرئيس القادم للولايات المتحدة الأميركية، وذلك لأسباب كثيرة، أهمها موقف ترامب من قضيتين رئيسيتين: إيران والقضية الفلسطينية.
في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ليس لدى ترامب ما يمنع من تمكين نتنياهو من القيام بكل ما هو ضروري لتصفية هذه القضية نهائياً، وبالتالي إفساح الطريق أمامه لإعادة احتلال قطاع غزة وضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية، وخصوصاً أنه صرح مؤخراً بأن "إسرائيل" دولة محدودة المساحة ولا ينبغي أن تظل كذلك إلى الأبد.
وفي ما يتعلق بإيران، يتبنى ترامب موقفاً مشابهاً إلى حد كبير لموقف نتنياهو، فهو يرى، شأنه في ذلك شأن نتنياهو تماماً، أن إيران تقود محور الشر في المنطقة، وبالتالي فإن العمل على تغيير نظامها، ولو بالقوة المسلحة إذا اقتضت الضرورة، هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تؤدي إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة.
وقد سبق لنتنياهو أن جرب ترامب في المسألتين الفلسطينية والإيرانية معاً إبان فترة ولايته الأولى، فترامب هو الرئيس الأميركي الوحيد الذي سمح بنقل السفارة الأميركية إلى القدس الشرقية واعترف بالقدس الموحدة عاصمة أبدية "للدولة العبرية"، كما اعترف في الوقت نفسه بضم "إسرائيل" إلى الجولان السوري، وهو الذي قام بفرض العقوبات الأكثر شمولاً وإيذاء بالنسبة إلى إيران، ومن ثم فقد لا يتردد في المشاركة في الحرب التي يريد نتنياهو شنها على إيران إذا ما توافرت أوضاع مواتية في المنطقة أو، على الأقل، التصريح له بشنها منفرداً، مع التزامه في الوقت نفسه، أي التزام ترامب بتقديم التغطية السياسية واللوجستية اللازمة، لكن هل بمقدور نتنياهو أن يساعد صديقه الغالي ترامب على حسم نتائج الانتخابات الرئاسية القادمة لمصلحته؟
للإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نتذكر حقيقة هامة، هي أن قضايا السياسة الخارجية نادراً ما تؤثر في نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. ومع ذلك، يتوقع أن تكون للحرب المشتعلة حالياً في قطاع غزة تأثيرات ملموسة في نتائج الانتخابات الرئاسية القادمة بالذات، وذلك بسبب السلوك الإسرائيلي في هذه الحرب من ناحية، وموقف إدارة بايدن من هذا السلوك من ناحية أخرى.
لقد اتسم السلوك الإسرائيلي ببعد إجرامي وصل إلى حد دفع دولة مثل جنوب أفريقيا إلى رفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها "إسرائيل" بانتهاك الاتفاقية الدولية لمنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وتوفر أدلة دامغة أمام مكتب المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية تؤكد ارتكاب هذه الدولة المارقة لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
ولأن وسائل الإعلام المرئية ووسائل التواصل الاجتماعي نقلت السلوك الإسرائيلي بكل تفاصيله البشعة على الهواء مباشرة، فقد كان من الطبيعي أن يتفاعل الرأي العام العالمي بشدة مع ما يجري في قطاع غزة، بما في ذلك الرأي العام الأميركي نفسه، وخصوصاً بعد إقدام محكمة العدل الدولية على إصدار أوامر تؤكد عدم استبعاد ارتكاب "إسرائيل" أعمال إبادة جماعية وتطهيراً عرقياً في حق الفلسطينيين، وبعد إقدام النائب العام للمحكمة الجنائية الدولية على تقديم طلب لإصدار أمر بإلقاء القبض على كل من نتنياهو ووزير دفاعه.
ومن الطبيعي، في سياق كهذا، أن يثير الدعم غير المشروط الذي قدمته إدارة بايدن لأكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ إسرائيل ردود أفعال غاضبة لدى شرائح واسعة من الناخبين الأميركيين، وخصوصاً الشرائح التي تنتمي إلى الجناحين اليساري والليبرالي في الحزب الديمقراطي، وأيضاً لدى الجاليات العربية والإسلامية في عموم الولايات المتحدة الأميركية.
ولأن معظم هذه الجاليات، بما في ذلك الجاليات التي عرفت تقليدياً بتأييدها لمرشح الحزب الديمقراطي، أعلنت أنها ليست ملتزمة بالتصويت لمصلحته هذه المرة، فقد شعرت إدارة بايدن بأنها بدأت تدخل في مأزق صعب قد يؤدي إلى خسارة الانتخابات الرئاسية القادمة، وهو ما يفسر حرص بايدن طوال الأشهر الأخيرة على إبرام صفقة تساعد على التوصل إلى وقف الحرب المشتعلة في غزة.
حين كان بايدن المرشح المعلن للحزب الديمقراطي في انتخابات الرئاسة الأميركية القادمة، بدت فرص ترامب أفضل للفوز في هذه الانتخابات، وخصوصاً بعد أداء بايدن السيئ في المناظرة الوحيدة التي أجراها مع ترامب، غير أن الوضع تغير كلياً بعد انسحاب بايدن من السباق واختيار نائبته لخوض السباق ممثلة للحزب الديمقراطي بدلاً منه، فقد نجحت كمالا هاريس تدريجياً في تقليص الفجوة، وأصبحت الآن في وضع يسمح لها بمنافسة جدية مع ترامب، وربما تتمكن من تحقيق الفوز عليه، وخصوصاً بعدما ظهر تفوقها واضحاً في المناظرة التي جرت بينهما بالأمس، غير أنها لا تزال في وضع حرج، فمن ناحية، لا تستطيع اتخاذ موقف يختلف كثيراً عن موقف بايدن من الصراع في الشرق الأوسط، خوفاً من فقدان أصوات الجالية اليهودية التي يصوت أغلبها تقليدياً لمرشح الحزب الديمقراطي، وهي تسعى في الوقت نفسه، من ناحية أخرى، لكسب أصوات الجاليات العربية والإسلامية، وخصوصاً في الولايات المتأرجحة التي يمكن أن تكون أصوات الجاليات العربية والإسلامية فيها حاسمة لترجيح كفة مرشح على آخر.
ولا شك في أن نتنياهو سيحاول استغلال هذا الوضع لمصلحته، فخشية كمالا هاريس من فقدان أصوات الجالية اليهودية سيكون عاملاً رادعاً يحول دون إقدام إدارة بايدن على ممارسة ضغوط كافية لحمله على قبول وقف إطلاق النار، ما سيساعده على الهروب دوماً إلى الأمام ومواصلة الحرب، وربما يدفعه إلى العمل بشكل مفتوح ومفضوح لتحريض الجالية اليهودية علناً على التصويت لترامب، وخصوصاً أنه يدرك أنه لن يخسر شيئاً في جميع الأحوال، فإذا فاز ترامب فسيكون قد ضمن حليفاً أفضل له من كمالا هاريس، وإذا فازت الأخيرة فلن تستطيع أن تذهب بعيداً في الضغط عليه، وهو يعتقد أن بوسعه دائماً التملص من هذه الضغوط، مثلما نجح في التملص من كل الضغوط التي حاول بايدن ممارستها عليها خلال الشهور الأخيرة.
في سياق كهذا، يبدو موقف الجاليات العربية والإسلامية أكثر صعوبة وحساسية، فمعظمها يبدو كأنه قد حسم أمره بعدم التصويت لمصلحة ترامب، من منطلق أن الأوضاع في الشرق الأوسط سوف تزداد سوءاً إذا نجح في الوصول إلى البيت الأبيض، لكن بعضها لا يزال متردداً في التصويت لمصلحة كامالا هاريس، من منطلق أنها لا تختلف كثيراً عن بايدن، الشريك الرئيسي في حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني منذ ما يقارب عاماً كاملاً، وذلك رغم إدراكه أن عدم التصويت لمصلحة هاريس، وخصوصاً في الولايات المتأرجحة، قد يساعد ترامب على الفوز.
هل كتب على العرب والمسلمين أن يفاضلوا بين السيئ والأكثر سوءاً حين يتعلق الأمر باختيار رئيس الدولة التي لا تزال تتمتع بالقدرة الأكبر على التأثير في أوضاع الكون؟ الواقع أن المشكلة لا تكمن في الجاليات العربية والإسلامية داخل الولايات المتحدة، ولكن في الأنظمة العربية التي تخاذلت وتراجعت عن مناصرة الشعب الفلسطيني بعدما سلمت قرارها واستسلمت للإرادة الأميركية، أياً كان الانتماء الحزبي لشخص الرئيس الأميركي، ومن ثم بات عليها أن تدرك أنها لن تستطيع أن تدافع عن مصالحها القومية، بما في ذلك مصلحة الشعب الفلسطيني التي هي جزء لا يتجزأ من هذه المصالح، إلا إذا استعادت إرادتها وقرارها وسيطرت على مقدراتها وتمكنت من توظيف هذه المقدرات لخدمة مصالحها القومية وحدها.