أسئلة وجودية
هل كان تداعي الغرب إلى "إسرائيل" بعد 7 أكتوبر دليلاً على استشعار خطر وجودي عليه، أو على الكيان، أم كان الشعور بالذعر منطلقاً من الخوف على المركزية الغربية ومكانتها في جغرافيا وتاريخ الأمم؟
حين بدأت الحرب في أوكرانيا بين روسيا والغرب تنبّأ د. جيم مير شيمر أن الغلبة في هذه الحرب ستكون لروسيا، ذلك لأنها تعدّ هذه الحرب حرباً وجودية أمّا الغرب فلا يعتبرها وجودية وهي فعلاً ليست كذلك بالنسبة له.
تذكّرتُ هذا القول في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى، هذه العملية التي قام بها رازحون تحت الاحتلال ومحاصرون براً وبحراً وجواً، ومع ذلك كانت ردّة الفعل الغربية وكأنه حدث وجودي بالنسبة للغرب، إذ تداعى زعماء الغرب إلى "إسرائيل" يعبّرون عن دعمهم لها والتزامهم بأمنها، وقام المسؤولون الأميركيون بزيارات مكوكيّة لـ "إسرائيل" وأصدقائها في المنطقة، وتحرّكت البوارج الأميركية وفُتحت قنوات السلاح والمال لكيان كان الحديث أنه يمتلك أقوى "جيش" وأحدث الأسلحة في الشرق الأوسط، ومن المفترض أنه لا يحتاج كلّ هذا الدعم في معركة غير متكافئة أصلاً بين "جيش" مجهّز ومموّل ومدرّب، وبين بضعة مقاومين في الأنفاق لا حول لهم ولا قوة.
فهل كان هذا التداعي وهذا الرهاب الذي عبّر عنه الغرب بشكل آني وملحّ دليلاً على استشعار خطر وجودي عليه، أو على الكيان الذي مرد على دعمه واحتضانه وتبرير كلّ ما يقوم به من جرائم الإبادة، أم كان الشعور بالذعر منطلقاً من الخوف على المركزية الغربية ومكانتها في جغرافيا وتاريخ الأمم؟
إذا ما استعدنا في الذاكرة ما سبق طوفان الأقصى من تحالفات وتنظيمات ومؤتمرات لدول الشرق والجنوب من منظمة "البريكس" إلى "شنغهاي"، إلى مجموعة الـ 77 وكل السرديات التي رافقت هذه التحرّكات من ضرورة التوصّل إلى عالم متعدّد الأقطاب، إلى الطموح لتبادل البضائع بالعملات المحلية وكسر احتكار الدولار للتجارة العالمية، إلى التقدّم التقني الذي أحرزته الصين في العشرية الأخيرة وتمتين أواصر العلاقات بين الصين وروسيا وإيران وغيرها من المؤشرات، ندرك لماذا سارعت الولايات المتحدة إلى بناء تحالفات جديدة والعمل على حماية تحالفاتها القديمة حتى وإن تطلّب ذلك تقديم بعض التنازلات غير المسبوقة في تاريخ هذه العلاقات.
محمّلة بكل هذه الحقيبة السياسية التاريخية الثقيلة واحتمالات ارتداداتها عشتُ مأساة حرب الإبادة والتطهير العرقي في غزّة وفلسطين وكلّ ما تلا 7 أكتوبر على مستويين اثنين: المستوى الأول: الإنساني والأخلاقي فقد كانت الأشهر التسعة الماضية في غاية الصعوبة ونحن نراقب بعجز لامتناهٍ إبادة الآلاف من أطفال وأمهات وأطباء وإعلاميين ومنقذين ومتطوّعين لا ذنب لهم في هذه الحياة سوى أنهم فلسطينيون وُجدوا على أرض وطنهم فلسطين في هذا التاريخ، وأن آلة وحشية غربية صهيونية مستبدة مدعومة من الغرب الاستعماري برمّته قرّرت الفتك بهم لأنها اعتبرت وجودهم على هذه الأرض تهديداً لوجودها.
والمستوى الثاني هو المستوى السياسي حيث شعرتُ أن الغرب الإمبريالي وعلى رأسه الولايات المتحدة تدافع عن تزعّمها للعالم وهيمنتها عليه، وأنها اعتبرت هيبتها وسلطتها الدولية على المحك، وأن الرسالة التي ابتغت إيصالها إلى الدنيا هي التحذير من الوقوف في وجهها لأيّ سبب كان وأن من كان معها فهو حكماً في موقع الآمن والمنتصر، ومن تجرّأ على مخالفتها العقيدة والرؤى فمصيره الإبادة والدمار. ومن هذا المنظور الوحشي برأيي تمّ التعامل مع تحرّكات الطلبة والأساتذة والإداريين في الجامعات الأميركية والبريطانية والألمانية لنصرة فلسطين إذ لم يكن من المسموح لأحد، ولا حتى لمواطني "الديمقراطيات" إظهار أي تحدٍّ لهذا الأنموذج المقدّس وما يزعمون أنه "الديمقراطية وحقوق الإنسان"، أو حتى التشكيك بأنه الأفضل والأسمى للبشر جميعاً حيثما كانوا وبأي وقت وُجدوا على هذه البسيطة.
في حمأة هذه الإشكاليات المحيّرة إنسانياً ووطنياً ومستقبلياً التي عايشتها بعمق وصدق وصلني كتاب الدكتور ناصر الرباط: "تقي الدين المقريزي: وجدان التاريخ المصري"، فشكّل لي ومن صفحاته الأولى فسحة أمل للمراجعة والتفكّر والتبصّر بما يجري، وأسبابه العميقة وبصائر الأمل بصناعة مستقبل مختلف إذا ما توفّرت الإرادة والعزيمة لفعل ذلك. أوّل ما لفتني في هذا الكتاب ومن الصفحات الأولى للمقدّمة أنه خُطّ بقلم باحث عربي متجذّر في أرضه وتاريخه، ومتمكّن من أهم وآخر المناهج وأساليب البحث والاستقراء التي توصّل إليها الباحثون في الغرب. وكم شكّل هذا علامة فارقة في ذهني ووجداني عن كل ما عهدته من تلامذة المستشرقين الذين مهما دأبوا لفرز الغثّ من السمين بقي الاستشراق سمة لا شعورية من سمات منتجاتهم، بل بقي أحياناً التماهي مع الاستشراق ومضاهاة منتجاته علامة بارزة في المنتجات الفكرية العربية.
لقد أحيا د. ناصر المؤرخ العربي تقي الدين المقريزي من منطلق فكري ووجداني مستخدماً أرقى وأدق أساليب البحث الغربية، ولكن بلغة عربية جزلة تردّد في سردياتها جمالية بلاغة القرآن الكريم، وتعيد إحياء التاريخ السياسي والاجتماعي والفكري الذي نهل منه المقريزي أو عاصره أو استند إليه أو أعاد إحياءه، بحيث شعرتُ أنه نفخ الحياة في المقريزي بعد قرون من وفاته من خلال مقاربته الموسوعية البحثية الشاملة والمعمّقة، وإشغال ذهنه المتّقد ونفسه الصافية وحكمه بالقسطاس المستقيم على كل نص واقتباس ورأي أو فكرة. لقد بعث د. ناصر المؤرخ المقريزي حياً بيننا وأشركه بما نشعر به حول ملابسات وتعقيدات وصعوبات زمننا الراهن فأصبح كلاهما: د. ناصر والمقريزي ملهمَيْن لتفكيري بعصرنا المعقّد وأحداثه الشرسة، ومحاولة التبصّر لاستخلاص المخارج المحتملة وسط حملات تضليلية مركّبة لا تعرف للحقيقة سبيلاً ولا للإنصاف دليلاً أو مرشداً.
وخالط امتناني لهذه الاستزادة المعرفية القيّمة شعور بالأسى لندرة أمثال هذا الكتاب الذي يعرّف الأجيال بجوهر محطات تاريخية مفصلية، نستلهم منها الجرأة على مقاومة الارتكابات المسيئة بحق البلاد والعباد ونعمل على أن نكون، كما كان المقريزي ود. ناصر، منارات على طريق الحق مهما جارت الأزمان. أليس من اللافت أن تصبح هذه السيرة الشاملة والعميقة والموسوعية والمنصفة لمؤرخ جليل عمل على تخليد الوطن الذي عشق، وقاوم الخطأ والظلم بأسلوبه الحكيم وصبره ورقّته ومثابرته رغم حلكة الأيام أن تصبح عوناً لي ولأمثالي لمواجهة ومعايشة أوقات صعبة بعد ستة قرون من وفاة صاحبها؟ أو ليس هذا هو الإبداع بذاته في البحث والتأليف المتوازن الراقي الذي جمع بين عمق وشمولية المضمون وبين أدق مناهج وطرائق البحث الوجداني المعمّق؟
ولكنّ هذه التجربة أيضاً أثارت أسئلة مقلقة لديّ: هل تتمثّل مشكلتنا نحن العرب في تغلغل المركزية الغربية بين ثنايا تاريخنا بما فيه ذاك النهضوي منه، وتشبّع تلامذة الاستشراق بفكر أساتذتهم بحيث لم نعد قادرين على صياغة تاريخنا الفكري بشكل مستقل تماماً كما فعل د. ناصر الرباط في هذا الكتاب؟ وهل المركزية السياسية والعسكرية الغربية التي تغذي حرب الإبادة ضد العرب على مرأى ومسمع من العالم برمّته تشكّل وجهاً فقط من أوجه المركزية الغربية التي شكّلت وعينا ووجداننا من خلال الكتّاب العرب الذين تقمّصوا الاستشراق وانبهروا به فأصبح مكوّناً لا شعورياً من مكوّنات فكرهم أعادوا إنتاجه بطرائق مختلفة في الأدب الذي أسميناه تنويرياً ونهضوياً؟
هل ما زلنا نحن في القرن الواحد والعشرين ندفع أثمان عصر الاستبداد الذي أحرق كتب ابن رشد وابن سينا وابن خلدون بحيث أخذ الغرب السبق في دراسة مؤلفاتهم أحياناً من دون إتقان لغتهم العربية، وعادوا إلينا بمنتجات ذات نظرة دونية لتاريخنا وديننا ومعتقداتنا ما زال البعض يحتضنها ويتصرّف على أساسها ويتحكّم بمصائر البلدان من منظور موتور مرتجف لا يمتلك الجذور الضاربة في الأعماق التي تؤهّله لاكتشاف سبيل الرشد للبلاد والعباد؟
لقد كنت أتساءل عن موقع العرب في التاريخ الحديث، أما الآن فأتساءل عن ماهية التاريخ والفكر العربيّين اللذين ندرّسهما للأجيال، وما إذا كنا بحاجة إلى إعادة النظر بهما بعيداً عن الاستشراق وإعادة تأهيل الفكر والهوية العربيّين على الأسس التي وضعها الأقدمون قبل أن يتناولها المستشرقون ويردّون بضاعتنا إلينا محمّلة بنظرتهم المنقوصة والدونية لنا.