2019.. عامُ التحدي الإيراني
تراجع إدارة ترامب عن خوض هذه الحرب أثبت أن خيار المواجهة المباشرة مع إيران ليس خياراً مطروحاً، وأن هذه الإدارة لا تزال تراهن على العقوبات الاقتصادية وعلى المواجهة غير المباشرة في الإقليم.
يختلف الإيرانيون في تصنيف عام 2019 بين اعتباره عاماً تخطت فيه بلدهم خطر ارتدادات الهزة التي أحدثها انسحاب أميركا من الاتفاق النووي في أيار/مايو عام 2018 وما تبعه من عقوبات اقتصادية عبر سلسلة إجراءات اتخذتها الحكومة الإيرانية وبين من يرى أن الخطر قائم في ظل مراوحة الحكومة في دائرة المراهنة على الأوروبيين للخلاص من العقوبات أو من تداعياتها على الأقل... لكن بلا أدنى شك فإن إيران قد ودعت عاماً حافلاً وصاخباً لم يشبه بما حمله من مفاجآت وتوترات وتحديات غيره من الأعوام التي عايشتها الجمهورية الإسلامية، على الأقل منذ انتهاء الحرب الإيرانية العراقية عام 1988.
لقد كانت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب واضحة في موقفها حيال الاتفاق النووي الذي تعتبره الأسوأ في التاريخ وكان متوقعاً أن تنسحب منه بهدف ممارسة ضغوط اقتصادية على إيران وإجبارها على التنازل أمام الشروط الأميركية لإبرام اتفاق جديد يشمل نقاطاً عدة تتجاوز حدود النووي تقنياً لتنسحب باتجاه ملفات تعد جوهر الخلاف بين واشنطن وطهران، وجلّها يدور حول محور واحد يمثل أمن الكيان الإسرائيلي ركيزته الأساسية.
وقد كان متوقعاً كذلك أن ترفض إيران بتجربتها الثورية الطويلة أيّ تفاوضٍ مباشرٍ فضلاً عن رفض أي شروط مسبقة للجلوس مع أميركا مجدداً في إطار مجموعة (5+1)، وهو موقف حاسم وقاطع في مقابل موقف بدا أكثر مرونةً عبّر عنه الرئيس روحاني باستعدادٍ للحوار مع ترامب مشروط بمفاوضات بناءة تصب في مصلحة الشعب الإيراني، وهو الأمر الذي عرّضه لانتقادات من خصومه السياسيين، ولا سيما من التيار الأصولي، فعاد ليؤكد أن المراد هو حوارٌ في إطار مجموعة العمل الدولية التي أفرزت الاتفاق النووي.
ولم يكن المرشد حاسماً في موقفه من المفاوضات مع أميركا فحسب، بل أبدى منذ انسحابها من الاتفاق النووي رفضاً للارتهان إلى المفاوضات مع الأوروبيين بعد تجارب سابقة في الملف النووي أدت إلى انعدام ثقة شريحة واسعة من الإيرانيين بالترويكا الأوروبية، لكنه في المقابل لم يغلق باب الحوار الذي لا يزال مستمراً في ظل أجواء ضبابية دفعت طهران إلى اتخاذ خطوات ضاغطة بتقليص التزاماتها في إطار الاتفاق النووي على مراحل، ستبدأ مرحلتها الخامسة في الأيام الأولى من العام الجديد، ما لم يحدث أيّ خرق غير متوقع يتعلق بتطبيق الالية المالية الأوروبية التي لا تزال تراها إيران غير كافية.
وفي ظل المراوحة في المفاوضات الإيرانية الأوروبية والعقوبات الأميركية التي بلغت حد التهديد بتصفير صادرات إيران النفطية أعلنت الإدارة الأميركية إرسال قطعٍ حربيةٍ بحريةٍ جديدةٍ إلى المياه الخليجية، ما رفع حرارة المواجهة إلى مستويات العد العكسي لحرب مباشرة، كادت أن تضبط ساعت صفرها على وقع إسقاط حرس الثورة لطائرة "غلوبال هوك" الأميركية المتطورة فوق المياه الإيرانية في الخليج.
إلا أن تراجع إدارة ترامب عن خوض هذه الحرب أثبت أن خيار المواجهة المباشرة مع إيران ليس خياراً مطروحاً، وأن هذه الإدارة لا تزال تراهن على العقوبات الاقتصادية وعلى المواجهة غير المباشرة في الإقليم.
بينما استطاعت طهران من خلال عرض حطام الطائرة الأميركية وما سبقه من مشاهد قريبة التقطتها طائرات استطلاع إيرانية لحاملة الطائرات الأميركية، إرساء قواعد اشتباك جديدة في المنطقة في مشهد تزامن مع استهدافات مجهولة بمصدرها، واضحة برسائلها، لناقلات نفط في الفجيرة ومضيق هرمز، الذي احتجزت فيه إيران ناقلة نفط بريطانية، رداً على احتجاز ناقلتها في مضيق جبل طارق، أظهر تفوقاً إيرانياً في مقابل ضعف وتراجع أميركي، وقد يكون أحد الأسباب التي دفعت القوات الأميركية إلى الاعتداء على مقار الحشد الشعبي على الحدود العراقية السورية محاولة لاستعادة الهيبة التي خسرتها أميركا في المياه الخليجية ولتوجيه رسائل طمأنة إلى حلفائها في المنطقة.
لكن مياه الخليج كانت مسرحاً لأكثر من رسالة على خط طهران واشنطن في سباق نحو إظهار التفوق والسيطرة، ما دفع بالإدراة الأميركية إلى الدعوة لتشكيل تحالف عسكري بحري بذريعة حماية الممرات المائية، وهو الأمر الذي تعثر حتى اللحظة، عقب تحفظ دول عدة عن المشاركة بعدما بات واضحاً أن المنطقة تعوم على برميل بارود قد يشتعل في أية لحظة، ما دفع إلى تدخل دول عدة على خط الوساطة لتخفيف حدة التوتر، برز بينها دور اليابان وباكستان والعراق وسلطنة عمان، لكن طهران لم تتجاوز هذه المحاولة الأميركية التي اعتبرتها تهديداً مباشراً لأمنها، فحاولت الالتفاف عليها عبر مبادرة هرمز للسلام، التي أعلن عنها الرئيس روحاني خلال مشاركته في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، فوجهت دعوة إلى جوارها الخليجي للتعاون حفاظاً على أمن المنطقة، بعيداً من التدخل الأميركي.
واختتمت إيران عام 2019 برسائلها الأبرز في الزمان والمكان للولايات المتحدة من خلال إجرائها مناورات مشتركة مع الصين وروسيا في شمال المحيط الهندي وبحر عمان، حيث وسّعت مروحة خياراتها في نطاق المواجهة والتحدي عبر شريكيها الدوليين الذين يعانيان من عقوبات اقتصادية وتهديدات أميركية مستمرة.
وفي خضم هذه الأحداث المتسارعة برزت استقالة وزير الخارجية محمد جواد ظريف التي كانت محاولة لاستعادة دور الخارجية في القضايا الهامة والاستراتيجية، أو لعب دور أكبر فيها، فكان للرجل ما أراد في لحظة لم يكن من السهل فيها التفريط بشخصية دبلوماسية من الطراز الرفيع عالمياً في خضم مواجهة دولية سياسية بامتياز.
وقد حملت الصورة التي جمعت ظريف بعيد تراجعه عن الاستقالة بقائد فيلق القدس في حرس الثورة اللواء قاسم سليماني دلالات لافتة تؤشر إلى مرحلة جديدة من التفاهم بين رجل الدبلوماسية ورجل العسكر في إيران، ستعكس تنسيقاً في مختلف ملفات أزمات المنطقة في العام المقبل.