للدراجة الهوائية يوم.. من المقود البسيط إلى الأمم المتحدة!

في حزيران/ يونيو من كل عام تستعيد الدراجة الهوائية معناها الأول: جسد يتحرّك بحرية، وعالم يتنفّس بلا عوادم. ليست مجرّد وسيلة نقل، بل هي إعلان هادئ ضد صخب المدن، ونداء لأنسنة الشارع، وتذكير بأن للبساطة مكاناً.

0:00
  • للدراجة الهوائية يوم.. من المقود إلى الأمم المتحدة!
    الدراجة مفتاح للتنمية المستدامة وجسر بين المدن والأرياف، وبين الجسد والطبيعة!

في عتمة المدن المكتظة، حيث تتشابك ضوضاء المحركات مع ضجيج الأعصاب، تُطلّ الدراجة الهوائية كفكرة نقية من الماضي… وكأنها عربة الزمن التي أُفلتت من صخب الحاضر، عائدة بنا إلى ما هو أكثر إنسانية، وأكثر صدقاً.

وفي الثالث من حزيران/ يونيو كل عام، نحتفل بـ "اليوم العالمي للدراجة الهوائية"، ليس تكريماً لعجلتين ومقود فحسب، بل لتلك الفلسفة المتواضعة التي تعيد الإنسان إلى حقيقته: جسد يتحرّك، ونفسٌ تتنفّس، ومسافة تُقطع من دون أن تُدفع الأرض ثمناً.

هذه الدراجة التي رافقت البشر منذ أكثر من قرنين، لم تخسر وهجها أمام آلات الاحتراق ولا أمام الأرقام الرقمية في شاشات السرعة. ظلّت تحافظ على إيقاعها الهادئ، كأنها تهمس للعالم: ليس بالسرعة وحدها يُقاس التقدّم، بل بالاستدامة، بالعدالة، بالصحة.

من المقود إلى الأمم المتحدة!

تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار الذي اقترحته تركمانستان عام 2018، واعتمدت الثالث من حزيران/ يونيو يوماً عالمياً للدراجة الهوائية، في رسالة مزدوجة إلى عالم تنخره الفروقات الطبقية والاحتباس الحراري، بأن هناك وسيلة نقل واحدة تملك القدرة على تقليص الفجوات من دون أن تزيد من الانبعاثات.

ويسلّط اليوم العالمي للدراجات الهوائية الضوء على منافع استخدام الدراجة الهوائية —بوصفها وسيلة نقل بسيطة تُستخدم منذ قرنين، فضلاً عن أنها زهيدة السعر ونظيفة وصائنة للبيئة. وتسهم الدراجة في تحسين جودة الهواء، وتقليل الازدحام المروري، وتيسير الحصول على خدمات التعليم والرعاية الصحية وغيرها من الخدمات الاجتماعية الأخرى أمام الفئات المستضعفة.

ويُعد نظام النقل المستدام، الذي يعزز النمو الاقتصادي ويحد من أوجه التفاوتات مع تعزيز مكافحة تغير المناخ، أمراً عظيم الأهمية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

وسيلة تفتح الطريق أمام الفقراء للوصول إلى التعليم والصحة والعمل، وتمنح الأطفال فرصة للعب في الطرقات من دون خوف من السيارات المسرعة.

الدراجة الهوائية، في نظر الأمم المتحدة، ليست فقط أداة تنقّل، بل هي مفتاح للتنمية المستدامة، وجسر بين المدن والأرياف، وبين الجسد والطبيعة.

وكم من "درّاج" حمل رسالة محبة وتعاضد وسلام عبر دراجة هوائية جابت الدول وعبرت الحدود وقرّبت الشعوب والأمم.

أزمة كورونا… حين أعادت الأزمة الاكتشاف!

مع تفشّي جائحة كوفيد-19، وجدت المدن الكبرى نفسها أمام لحظة مراجعة كبرى. تعطّلت وسائل النقل العامة، وأصبح القرب حاجة لا ترفاً. وفجأة، عادت الدراجة إلى المشهد، كأنها البطلة التي انتظرت طويلاً دورها في سيناريو التنمية.

مدنٌ مثل باريس وبرلين وميلانو أعادت رسم طرقاتها، خصّصت مسارات لراكبي الدراجات، وأطلقت حملات تشجيع ووعي، لم يكن ذلك فقط بدافع البيئة، بل بدافع النجاة. لأن الدراجة أثبتت أنها وسيلة نقل لا تحتاج إلى وقود، ولا تتسبّب بعدوى، وتُدخل الهواء النقي إلى الرئتين.

وتعزّز هذا المنظور بقرار جديد للجمعية العامة في عام 2022 دعا إلى دمج ركوب الدراجات في أنظمة النقل الوطنية، كجزء من خطط التعافي "الأخضر" بعد الجائحة. إنها المرة الأولى التي تتحوّل فيها الدراجة إلى سياسة دولة.

بين الصحة والعدالة: رسالة ذات بعد إنساني

تقول منظمة الصحة العالمية إن ركوب الدراجة الهوائية يقلل خطر الإصابة بأمراض القلب والسكتات الدماغية والسكري وبعض أنواع السرطان. ولكنه أيضاً يفعل ما هو أبعد من ذلك: يمنح الناس فرصة للنشاط اليومي من دون تكلفة، يُشجّع الأحياء الفقيرة على التحرك بحرية، ويمنح كبار السن وسيلة للبقاء نشيطين، من دون حاجة إلى اشتراكات في النوادي.

وفي بلد مثل الهند، أظهرت دراسة أن الفتيات اللواتي حصلن على دراجات هوائية ارتفعت نسب التحاقهن بالمدارس بنسبة تفوق 30%. لأن الطريق أصبح ممكناً، والتعليم لم يعد حكراً على من يملك وسائل النقل.

إنه البعد الإنساني العميق في الدراجة: عدالة في الحركة، وفي الوصول، وفي الحلم.

الدراجة الهوائية كفلسفة حياة

في الثقافة الغربية الحديثة، أضحت الدراجة رمزاً لفلسفة "الحياة البطيئة" (Slow Life). وهي دعوة إلى التمهّل، إلى العودة إلى التفاصيل الصغيرة: نسمات الهواء، وجوه الناس، رائحة الأشجار. الدراجة هي آلة تُجبرك على أن ترى ما يفوتك في السيارة. أن تتوقّف عندما تمرّ بجانب طفل يلعب، أو قطة تنام على الرصيف.

لكن في المدن العربية، لا تزال هذه الفلسفة تعاني. فالشوارع  بمعظمها غير مهيّأة، والمجتمع أحياناً لا يتقبّل الدراجة كوسيلة تنقّل للكبار، خصوصاً النساء. ومع ذلك، هناك نشاطات ومبادرات تنمو في بيروت والقاهرة وعمّان وتونس والجزائر والرباط وغيرها، لتكسر هذه القيود، وتعيد رسم صورة مختلفة للدراجة.

أكثر من مجرد مركبة

ربما ليست الدراجة سوى استعارة لما يجب أن يكون عليه العالم: بسيطاً، عادلاً، متوازناً، وقادراً على التنفس. إنها دعوة لنجعل مدننا قابلة للعيش، وأجسادنا قابلة للحركة، وعلاقتنا بالبيئة أقل أنانية.

اقرأ أيضاً: الحكومة الفرنسية تمضي في تشجيع استخدام الدراجات الهوائية

في اليوم العالمي للدراجة الهوائية، لا نحتفل فقط بما يُشبه لعبة الطفولة، بل بمشروع حياة. بالدراجة كأداة للسلام الداخلي والاجتماعي. كجسر بين الإنسان وأرضه، بين المواطن وحقّه في تنقّل عادل، بين العجلة والكون.

إنه اليوم الذي نستعيد فيه فكرة أن التقدّم لا يعني فقط البناء العالي، ولا الطرق السريعة، ولا السيارات الفاخرة، بل يعني أن نصل، من دون أن ندفع الطبيعة ثمناً.

  • صورة أرشيفية لإحياء اليوم العالمي للدراجات الهوائية في حدائق جامعة بغداد (2024)
    صورة أرشيفية لإحياء اليوم العالمي للدراجات الهوائية في حدائق جامعة بغداد (2024)

الدراجة لم تشخ!

ليست الدراجة الهوائية اختراعاً حديثاً، لكنها فكرة لم تَشِخ. ومثل كل الأفكار العظيمة، تعود بقوة حين تشتد الأزمات. وربما علينا أن نعيد اكتشافها، لا كوسيلة نقل فقط، بل كموقف وجودي، في زمن فقد الكثيرون فيه الاتجاه.

اقرأ أيضاً: الدراجة الهوائية نمط مألوف وصحي وصديق للبيئة لدى الشعب الصيني

في عالم يلهث نحو السرعة، تبقى الدراجة الهوائية درساً في الإيقاع، في التوازن، وفي البساطة… وربما، في النجاة والحياة.

 

 

 

اخترنا لك