"بغداد مبنيّة بتمر".. لماذا قدّس العراقيون النخيل؟
قدّسوه قديماً، وعاقبوا مهمله، وما زالوا يغنون له.. لماذا يحظى النخيل بمكانة لا تضاهى عند العراقيين؟
يسمي العراقيون صغار النخيل "النشو"، ومفردها النشوة التي تعني النخلة الناشئة، غير أننا يمكنُ أن نتلاعبَ بالكلمة لتعني النشوة بدلالة المتعة التي توفرها هذه الشجرة المقدسة بالنسبة إلى العراقيين، وهي متعة الغذاء والسمر والشفاء والدفء، كما سنرى. وما زال الكثير من العراقيين، حتى في المدن، يغرسون نخلة أو اثنتين في بيوتهم للتبرك بها، حتى إن الشاعر العراقي الشعبي الراحل عبود الكرخي يقول في قصيدة له ذائعة الصيت:
بغداد مبنيّة بتمر
فلش واكلْ خستاوي
ويصف كثرة وجود التمر في بغداد وكساد سوقه أيضاً، وهو المشهد الذي يصنعه فيلسوف المعرة قائلاً:
وردنا ماء دجلة خير ماء
وزرنا أشرف الشجر النخيلا
عُرف العراق مقروناً بالنخيل منذ الأزل، حتى سمي ببلاد السواد لكثافة نخيله. وقد سئل أحد العراقيين عن أهم الثمار في بلاده، فقال: التمر. فقيل: وماذا بعد؟ قال: التمر. ولما استغرب السائل، أوضح العراقي قائلاً : إننا نستظل بالنخل من وهج الشمس، ونأكل ثمرته، ونعلف ماشيتنا بنواته، ونتخذ من عصارته خمراً ومن سعفه حصراناً وأواني، ومن جذوعه سقوفاً لبيوتنا ووقوداً للطبخ.
إقرأ أيضاً: فوائد التمر يُحكى عنها منذ آلاف السنين.. فما هي أبرزها؟
لهذه الأسباب وأسباب أخرى، احتلتْ هذه الشجرة المعمرة الباسقة مكاناً فريداً في حياة العراقيين وأساطيرهم، واستفادوا منها في صنع الجسور والأواني والقناطر والأثاث، وأكلوا تمورها، واستخدموها في صناعة الخمور، وكعلف حيواني وعلاج لبعض الأمراض أيضاً.
من خلال الرسوم والحفريات واللقى الأثرية، يتبين أن النخلة هي شجرة الحكمة وواهبة الحياة عند العراقيين القدامى، حتى إن دموزي الذي عُرف لاحقاً بالاسم البديل تمّوز، وهو إله قديم مرتبط بالرعاة في بلاد ما بين النهرين، كان يقوم بتلقيح النخيل لما لتلك العملية من قداسة وخصوصية، وكذلك الإله إنكي، إله المياه والحكمة، كان يتشرف أيضاً بهذه المهمة في مناسبات عدة، وخصوصاً عند غياب دموزي، إذ كان الإله إنكي، وفق ما ترويه الأساطير، يقوم بحمل دلو مليء بغبار الطلع المستخدم لتلقيح النخيل، وكذلك الإله لنجش زيدا الذي كان مسؤولاً عن نمو شجرة النخيل. ولأن الجذور تنمو بشكل أفعواني، فقد اتخذ هذا الإله من الأفعى رمزاً له.
احتلتْ شجرة النخيل المعمرة والباسقة مكاناً فريداً في حياه العراقيين وأساطيرهم، فاستفادوا منها في صنع الجسور والأواني والقناطر والأثاث، وتغذوا من تمورها، وصنعوا الخمور من نواتها، كما استخدموها علاجاً لبعض الأمراض.
لن تقف مكانة النخلة عند العراقيين القدامى عند هذا الحد، بل إنها تدخل في أغنياتهم وقصائدهم وصلواتهم وأدعيتهم أيضاً، إذ نقرأ في أحد الأدعية السومرية الموجهة إلى الإله ننّار حامي مدينة أور:
من ألياف النخيل
أوراق النخيل
النخيل وأضلاعه
أنت وحدك الرائع، الحمد للإله ننّار
وها هي مدينة نيبور - نفّر - ناحية عراقية حالياً، تقع في منطقة الفرات الأوسط في محافظة القادسية، وتتبع إدارياً لقضاء عفك، وهي مدينة مليئة بالنخيل. ولذلك، كانت مقدسة لدى السومريين، إذ كانوا يقومون بزيارتها والتبرك بها.
ما تزال التعابير المستعملة في زراعة النخيل عند العراقيين تحتفظ إلى الآن بأصلها البابلي، مثل كلمة "تالة" وتعني فسيلة، وكلمة "تبلية"، وهي آلة الصعود إلى النخل من أجل تلقيحه وتنظيفه، وكلمة "شيص" التي تعني التمر الرديء غير الناضج.
وفي معبد الإله إنلين، نقرأ في أحد النصوص:
هناك المدينة حيث يسكنون
نيبور هي المدينة التي يسكنون
يسكنون مدينة النخيل
وثمة مثل يرد على لسان الملك شولجي في قصيدة يمدح فيها نفسه:
أنت مدللٌ من قبل لن جال
مثل نخلة في أرض دلمون المقدسة
يستدلّ من ذلك على أن النخلة شجرة مقدسة لدى السومريين، فهي أصل الحياة، إذ تهبهم الحكمة واللغة. وإذا عدنا إلى الرواية التوراتية عن جنة عدن، وهي رواية مقتبسة من مصادر رافدية، وسلّمنا بأن جنة عدن تقع في الجزء الأسفل من وادي الرافدين، فإنَّ الشجرة المقدسة هنا هي النخلة، لا التفاح، لأن النخلة هي الشجرة الوحيدة التي يمكن لها أن تنمو وتثمر في ظروف كهذه، ولأن شجرة التفاح لم يرد ذكرها في المدونات السومرية من خلال النصوص الاقتصادية ومعاجم النباتات والأشجار.
كان لدى البابليين أيضاً اهتمام بالنخلة قلّ نظيره، فقد طوروا زراعة النخيل على ضفاف الفرات منذ 5 آلاف سنة قبل الميلاد، واستخدموا تمورها لعلاج الرضوض والأورام. وورد في نص بابلي متأخر ما يقارب 365 فائدة للنخلة. وما تزال التعابير المستعملة في زراعة النخيل عند العراقيين تحتفظ إلى الآن بالأصل البابلي، مثل كلمة "تالة" وتعني فسيلة، وكلمة "تبلية" وهي آلة الصعود إلى النخل من أجل تلقيحه وتنظيفه، وكلمة "شيص" التي تعني التمر الرديء غير الناضج بسبب عدم تلقيحه كفاية.
في رسالة من العصر البابلي، يشبه المرسل أمه بالنخلة، لأنها طيبة الرائحة، وهو تعبير بليغ عن مدى أهمية النخلة وأمومتها الراسخة في وجدان سكان بلاد ما بين النهرين.
في شريعة حمورابي: ماذا لو قطع رجل نخلة!
تعد شريعة حمورابي من أقدم الشرائع في العالم وأكثرها شمولاً لحياة الناس قياساً بسياقها التاريخي، ويعد حمورابي سادس ملوك السلالة البابلية الأولى. وقد وضع أول وأعرق شريعة في التاريخ، تضمنت 7 مواد عن النخيل ضمن القسم الرابع الذي يتعلق بشؤون النخيل والبساتين من مجمل 282 مادة.
هكذا نقرأ في المادة رقم (59) ما يلي:
إذا قطع رجل نخلة في بستان رجل آخر من دون إذن، فعليه أن يدفع غرامة قدرها 225 غراماً من الفضة.
وفي المادة (65)، فرض على الفلاح أن يدفع إيجار البستان كاملاً، إذا أهمل رعاية النخل، ما يسبب قلة في إنتاج التمر.
أما المادة (64)، ففيها يخصص ثلث حاصل البستان من التمر للفلاح الذي يقوم بعملية تلقيح النخل والاعتناء به.
النخلة في الأغنية العراقية: من "فوق العرش" إلى "فوق إلنا خل"
لكلّ شعب تراثه الغنائي الخاص الذي يجسد من خلاله جزءاً من هويته الإنسانية والتاريخية والجغرافية التي تميزه عن بقية شعوب الأرض. وقد تميزت الأغنية العراقية بمواويلها الطويلة وشجنها الصلب، الأمر الذي يتناسب مع النخلة، رفيقة العراقيين في السمر والسفر، كما في الحكايات والأغاني.
ولعل أشهر الأغاني العراقية هي أغنية " فوق إلنا خل فوق"، والتي تستند إلى حكاية فتاة من الطبقة الراقية كانت تطل من شرفتها، فلمحها عامل بسيط وأحبها من النظرة الأولى. وعلى الرغم من أن كلمات الأغنية مقترنة بالحبيب الذي يطل من الأعلى، إلا أن عبارة "فوق إلنا خل" تحولت إلى "فوق النخل"، واستعذبت الأذهان ذلك.
ما تزال النخلة ملهمة للشعراء والفنانين لنسج الصور الشعرية والألحان من ثمرها وسعفها، وكذلك من كبريائها ونفعها الدائم.
الأغنية كانت بالأصل أغنية دينية تحمل عنوان "فوق العرش"، وتُغَنى في مقام الحجاز الذي يؤثر في نفسية العراقي. ولفترة، ظلت تردد في أعياد الميلاد والمناسبات الدينية، حتى غناها لأول مرة الفنان العراقي الشهير ناظم الغزالي في بيروت، لينقلها إلى مدى واسع حتى بدت أنشودة عراقية أصيلة بالنسبة إلى المستمع العربي، فغناها الكثيرون، من بينهم المطرب الراحل صباح فخري وكاظم الساهر ومطرب المقام حسين الأعظمي.
أما الأغنية الأخرى، فهي أشد خصوصية، وموضوعها نخل السماوة للفنان حسين نعمة، إذ يقول في مستهلها:
نخل السماوة يكول طرتني سمرة
سعف وكرب ظليت مابية تمرة
لا شك في أن هذه الأغنية تصف لوعة المحب وأثر الشوق والألم المشابهة للنخلة التي لم يبق منها سوى سعفها الهزيل. نالت الأغنية شهرة واسعة لدى الجمهور العربي أيضاً.
ما تزال النخلة ملهمة للشعراء والفنانين لنسج الصور الشعرية والألحان من ثمرها وسعفها، وكذلك من كبريائها ونفعها الدائم.
فرضت شريعة حمورابي على الفلاح أن يدفع إيجار البستان كاملاً إذا أهمل رعاية النخيل.
وفي هذه السياق، استطلعت "الميادين الثقافية" رأي المؤرخ والباحث الموسيقي العراقي هيثم شعوبي، إذ أكد أن "النخلة العراقية هي رمزٌ للعراق، باعتبارها أكثر شجرة يمكنك رؤيتها في أرياف العراق وفي مدنه على حد سواء. هذه النخلة لم تعد شجرة فحسب، إنما صارت أيضاً روحاً عراقية شامخة لذلك".
ويضيف: "لكون النخلة العراقية تشكل رمزاً للروح العراقية المقاومة للجفاف، فقد كانت الأكثر حضوراً في الأغنية. لذلك دائماً ما يتناولها الشاعر كعلامة شموخ وقوة. من هذا المنطلق، وإضافة إلى الاهتمام بالنخيل ورعايته، ولا سيما بعد تعرضه لأضرار وكوارث بسبب الحرب والإهمال، أدعو أيضاً إلى استعادة النخلة في الأغنية العراقية كثيمة حكمة وحب وسلام"، إذ لم تحضر الأغنية منذ نصف قرن سوى في أغنية صدرت مؤخراً لأحمد المصلاوي.
"وهزي إليك بجذع النخلة"
أخذت النخلة حيزاً مهماً في الديانات التوحيدية، فقدماء العبرانيين كانوا يحبون النخل ويعجبون باستقامة جذوعه وجمال مظهره وفوائده، وكان بعضهم يهب ابنته اسم النخلة، فيسميها تامار كناية عن الجمال واعتدال القوام.
ويُعتقد أنّ فلسطين كانت في تلك العصور كثيرة النخل، حتى إنَّ بعض القبائل الفلسطينية القديمة كانت تعبد صنماً على شكل نخلة يدعى "بعل تامار". وفي التوراة، يعتبر التمر وعصارته "الدبس" من الثمار السبع الأهم. واكتشف علماء آثار نقوداً يهودية قديمة تحمل صورة نخلة.
إقرأ أيضاً: كيكة التمر الهشة: طرق متعددة للاحتفال بخطوات بسيطة
أمّا في الطقوس الدينية اليهودية، فنجد طقس "عيد المظال"، وهو العيد الذي يسميه العراقيون "عيد العرازيل"، إذ يقوم اليهودي بأخذ سعف لين من قلب النخل، ثم يحمله بيده عند تلاوته صلاة العيد رمزاً للفرح والسرور، وهو ما يسمى عندهم "لولاب".
وحتى ظهور السيد المسيح، كان اليهود يحملون سعف النخيل في احتفالاتهم. وورد في "الإنجيل" أن أنصار المسيح فرشوا سعف النخيل في طريقه عندما دخل أورشليم لأول مرة، إذ كان سعف النخل يعتبر من علامات النصر، فيحمل أمام المنتصرين في مواكبهم، وهو المشهد الذي رأيناه عند قدوم النبي إلى مكة بعد فتحها، بل إن المسيح ذاته حمل فسيلة بين ذراعيه عند دخوله القدس.
ورد في "الإنجيل" أنّ أنصار المسيح فرشوا سعف النخيل في طريقه عندما دخل إلى أورشليم لأول مرة.
أما في الإسلام، فقد نالت النخلة قداسة فريدة، وتم ذكرها كشجرة أساسية في الجنة: "أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات" (الآية 266 من سورة البقرة).
وفي سورة مريم، نقرأ: {فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا. فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا}.
وكان النبي محمد يقول: "ليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم ابنة عمران".
وتتعزّز مكانة النخلة في الحديث النبوي، إضافة إلى ذكرها في القرآن الكريم، فقد سماها النبي بالعمة، كما ورد في حديثه: "أكرموا عماتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم"، ولا أدل على قيمتها في وجدان النبي أكثر من قوله: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها"، إذ اعتبر غرس نخلة صدقة جارية، مثل بناء جامع أو تربية ولد صالح أو تأليف كتاب ينفع الناس بالعلم.
يسامح العراقيون الصيف على حرّه اللاهب من أجل أن ينضج التمر فقط.
يقال إن العراقيين يسامحون الصيف على حرّه اللاهب من أجل أن ينضج التمر فقط، فيسمون الأيام الأشد حرارة في الصيف بــ "طبّاخات التمر"، لكن النخيل لم يكن بمنأى عن الظروف التي عاشها البلد منذ سبعينيات القرن الماضي، مروراً بالاحتلال الأميركي، وصولاً إلى اليوم.
في السبعينيات ومطلع الثمانينيات، كانت أشجار النخيل في العراق تقارب 30 مليون شجرة، وكان العراق ينتج أكثر من 500 ألف طن من التمور سنوياً، تتوزع على أكثر من 624 صنفاً، بعضها من الأجود عالمياً.
انخفض إنتاج العراق إلى النصف نتيجة الحروب المتواصلة وضعف اهتمام الجهات المختصة. وتسببت حرب الخليج بانخفاض صادرات العراق من التمور إلى 20 ألف طن في العام 1991، بعدما كانت تقدر بــ248 ألف طن في العام 1989، وواصل الإنتاج انخفاضه حتى بات العراق لا يساهم بأكثر من 5% إنتاج التمور عالمياً.
***
المصادر
1 - النخيل و التمور في العراق / عبد الوهاب الدباغ.
2 - أدب النخل/ إبراهيم السامرائي.
3 - صورة النخلة في المعتقدات الرافيدينية/ عبد الأمير الحمداني.
4 - النخلة في الفن العربي والإسلامي/طلعت رشاد الياور.
5 - جروح في شجر النخيل/ إعداد ندى دوماني،تقديم أمين معلوف.
6 - كتاب النخل لابن وحشية النبطي تحقيق إبراهيم السامرائي.
7 - النخيل/ فريد غراي.
8 - النخل في تاريخ العراق/ عباس العزاوي.