الجاز.. صوت الروح الثائرة ضدّ العبودية
قاوم الأميركيون الأفارقة عبوديتهم ثقافياً من خلال موسيقى الجاز.. تعالوا لنتعرف إلى خصائص هذا الفن وتاريخه وأعلامه.
أمس، احتفى العالم بـ"اليوم الدولي لموسيقى الجاز"، وهو تقليد تبنّته منظمة (اليونيسكو) منذ العام 2011، وصار احتفالاً عالمياً ليُشكّل مِعْبَراً بين الثقافات.
في هذا اليوم المُسجّى بالأنغام والدَنْدَنات والشَّدو والفرح وحبّ الحياة، يتكشّف الجاز باعتباره نقطة ربطٍ للقاءٍ ثقافي ذي امتيازٍ خاص. ذلك أنّه على مُلتقى تصوُّرَين للتعبير الموسيقي: البسيط منه والمُتطوّر الجدليّ.
كثيراً ما يُصيب الجاز شغاف القلب على تخوم الإطراب، ويُطفىء عطش الحيّز النابض للنفْس بجرعةٍ مُتّقدة وساطعة من الحماسة والتلهُّف. النُّخَب في العالم تستسيغ الجاز وتطلبه لأنها تعقد عليه اهتماماً بالمقدار عينه الذي تُبدي اهتمامها بالشعر والرقص والفنّ التشكيليّ والنحت.
بَيْدَ أنّ ما يُميّز الجاز أنّ ثمّة عامِلَ فتنةٍ فيه تولَّدَ من الحوار الارتجاليّ والتدجين والتطويع السَلِس للإيقاع الذي يكون بسخاءٍ مفيداً للناس والجماعات الإنسانية كافّة.
تمتزج في هذا الصنف من الموسيقى المقوِّمات التأسيسية للفن الأوروبي على وجه التقريب: المادّة النغمية الميلودية التي تُضاف إلى المادّتين الصوتية والهارمونية (عِلم تسلسُل التآلُفات التناغُمية).
غير أنّ الجاز صار ذا حياة ونماء وسرتْ فيه الروحُ على نحوٍ مُبتدَعٍ ومُتلاحقٍ ودافِقٍ إيقاعياً وتعبيرياً، وذلك تبعاً للتقليد الذي ابتكره الأفارقة الأميركيون، وقد انتهجه بعد ذلك أكثر الموسيقيين انعتاقاً في الكرة الأرضية. وفقاً لما يستخلصه المُتخصّص أندريه فرنسيس في كتابه المرجعيّ عن الجاز فإنّ تاريخ الجاز المهيب تبدّى في أجزاءٍ ثلاثة، عِلماً بأنّه يتمظهر أخيراً خارج الفلك والجنوح الشعبيَّين أيضاً في الـ pop والجاز الحر Free Jazz.
تجدر الإشارة وُجُوباً إلى أنّ الجاز قد صنعه الشعب في بداية الأمر، ما يحضّنا على الالتفات إلى الجاز الذي تجسّدَ في "الديكسيلاند" Dixieland والــ "نيو أورليانز" Orleans New، مع التذكير إيضاحاً أنّ "الديكسيلاند" يُحال أحياناً إلى الجاز التقليدي، وهو أسلوب جاز يتدثّر بموسيقى طُوّرتْ في مطلع القرن العشرين في نيو أورليانز.
كذلك فإنّ الجاز ينجلي في البلوز Blues والغوسبل Gospel، عِلماً بأنّ "الغوسبل" عبارة عن غناءٍ إنجيليّ، ونوع من الموسيقى الغنائية لدى الأفارِقة - الأميركيين التي تحوّلت من طوْرٍ إلى طوْرٍ في مساراتٍ ووجهاتٍ عدّة... والجاز ارتسمَ أيضاً من أجل الشعب على النحوِ هذا: Middle Jazz ، Rhythm-and-blues ، Soul Jazz.
بفعل مرور الزمن يتنبَّه المُتابع للجاز الذي بدَّلَ حُلَّتَهُ مُختلطاً بموسيقاتٍ غريبة وأجنبية كثيرة.
خلافاً لعشّاق الموسيقى الكلاسيكية الذين يركنون إلى التدوينات الموسيقية الخاصة بها بغية تأديتها، فإنّ المولَعين بالجاز يَكْتَنِهون أنّ زبدة العمل الفنّي وجوهره يتجلّيان ويتكثّفان في العزف في حدّ ذاته، وأنّ التدوين الموسيقي للجاز لا يُغني بتاتاً عن التسجيلات الأصلية والمُحتّمة للخلاّقين.
وفقاً لما يؤكّده العالِم الموسيقي الفرنسي كلود أبرومون في مُجلَّده "دليل لنظرية الموسيقى"، فإنّ الجاز يتمثّل في موسيقى تقليدٍ شفويّ مُرتجَل بشكلٍ كبير لكنّ التوزيعات للأوركسترات والفِرَق الكبيرة كما الصغيرة عديدةٌ والثيمات الشهيرة نادراً ما لم تُدوَّن. بعضها ألّفها موسيقيّو الجاز بأنفسهم مثل دْيوك ألنغتون (Satin Doll)، ومايلز ديفيس (Tune Up)، فيما يأتي بعضها الآخر من الأنواع الشعبية المنوَّعة مثل الكوميديا الموسيقية لِبْرودْواي والمروحة العالمية (Les Feuilles mortes) كما موسيقى الأفلام والرسوم المُتحرّكة (Some Day My Prince Will Come).
على اعتباره تعبيراً يَشِفُّ الجاز في جذوره عن السبب الموجِع حتى النخاع لإرهاصاته وولادته في التاريخ.
المُستعبَد الأفريقي في حقل القطن أو الزراعة عموماً أو المحكوم بالأشغال الشاقّة الذي سُمِّرَ آنذاك على الطريق التي كان يُعَبِّدُها مثلاً، والذي كانت مُعاناته الجسدية والنفسية بليغة وغائرة كجرحٍ نازف في الوجدان، لم يكن يمتلك إلاّ حرية صوته. مُقيَّداً ومُراقَباً ليلاً نهاراً من قِبَل الحرّاس والكلاب فإنّ المَهْرَب أو الملاذ الوحيد أمامه تَمثّلَ صوتياً من خلال الغناء والغَمْغَمة والدَنْدنة. غناؤه كان يحضّه على مواصلة العمل ويساعده على أن يتشجَّع ويتقوَّى ويشحن همَّته، وقد شكَّل مُتنفَّس الروح الملوَّعة والقلب المُثْقَل بالهموم واللواعِج. صحيحٌ أنّ المُستعبَد قد اقتُلِع ثقافياً لكن من خلال الغناء فإنّ جماعةً جديدة أخذت في الظهور: جماعة أفارقة أميركا. غناء "العبيد السود" شكّلَ "ريبِرتواراً" وذخيرةً جديدَيْن يربطان بين الحياة اليومية والروحية والدينية.
بعد ذلك آتياً من الخلاسيّين أيضاً حضَّ الجاز على ولادة أنماطٍ ومدارس مُتباينة وانتشر ليس بين ذوي البشرة السوداء والداكِنة فحسب، بل أيضاً بين "البيض"، ليس حصراً في كوبا والبرازيل بل في العالم القديم نفسه.
كذلك تجدر الإشارة إلى أنّ الجاز شكَّل نمطَ تعبيرٍ مفضَّلاً ومائِزاً لدى مجموعة الزنوج الأميركيين في إِثْر انتقال جزءٍ من اليد العاملة السوداء المُحرَّرة من العبودية، في العام 1865، نحو المراكز الحضرية الكبيرة في الشمال في عزّ النموّ الاقتصادي، عِلماً بأنّ العنصرية والتفرقة قد استمرّتا للأسف واستمرّت بذلك المُكابدة منعكسةً في الجاز أيضاً.
هكذا مثّلَ الجاز تعبيريّةَ تلك المجموعة وميولها العميقة التي ترجَمَها، وهي الهياكل والبُنى الموسيقية المُبتدَعة أو التي استُعين بها من خلاله واستعملها.
بهذا نرى أن الجاز ابتُدع في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في جنوبيّ الولايات المتحدة الأميركية. لم يولَد الجاز في أفريقيا كما يُخيَّل إلى البعض. لقد وُلِدَ الجاز من انصهار الإيقاعات الأفريقية و"الهسبانية- الكريولية*"Hispano-créoles، ومن الغناء والترنيم الديني في كنائس البروتستانتيين السود، من الأغاني المُروِّحة للنفْس والصرخات المُنغَّمة بحناجر تحمل صوت الريح الدوّامية ضدّ الظلم وانتهاك الحق... من تأوّهات العمل المُضني والتحسّر، من البلوز و"مارْشْ" الآلات النحاسية، من رقصات نهايات القرن التاسع عشر و"الراغتايم" Ragtime (يشكّل التعبير الأوّل الآليّ البَحْت للموسيقى الأفريقية- الأميركية، ويُزاوج بين عناصر من الموسيقى الأوروبية العالِمة Savante وإيقاعات الغناء الأفريقي التقليدي)، ومن السود الأوائل الذين لم يتمكَّنوا من لفظ اللغة الإنكليزية كما ينبغي وقتذاك.
يُذكِّر المُتضلّعون بتاريخ الجاز بالدور الأساسي الذي أدّاهُ هذا الفن في مُكافحة التمييز العُنصري وكيفية مرافقة هذه الموسيقى لحركات الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، بما في ذلك حركة تحرير المرأة.
شكل الجاز بهذا المعنى أحد أشكال المقاومة الثقافية. يستمرّ الجاز في إلهام المُبدعين في القرن الحادي والعشرين ويُضفي دلالةً على أفعالِ مواطنةٍ أبعد وأوسع من دوائر الموسيقيين. لقد أصبح الجاز راهناً لغةً كونية جاذبة كالمغناطيس لعددٍ كبير من الموسيقيين حول العالم، من المفتونين والمسحورين بتطوّره الإيقاعيّ والهارمونيّ، وباختزانِهِ روح الحرّية والخيال اللذين يرشَح بهما.
نينا سيمون التي تُعَدُّ إحدى أكبر وأهمّ مُغنيات الجاز التاريخيات إلى جانب إيلاّ فيتزجيرالد وبيلي هوليداي على سبيل المثال، اعتبرت أنّ الجاز ليس مُجرَّد موسيقى بل يُشكِّل طريقة عَيْشٍ، وطريقة وجودٍ وتفكير.
كذلك "يوفّر الجاز فُرَصاً للتفاهُم والتسامُح ويحدّ من أوجه التوتّر بين الأفراد والجماعات والمجتمعات. تُتيح موسيقاه تمكين الشباب المُنتمين إلى الفئات الاجتماعية المُهمَّشة"، كما يوضح موقع "اليونيسكو" الإلكتروني، عِلماً بأنّ اليوم الدولي للجاز "يهدف إلى إذكاء الوَعي بمزايا الجاز على اعتباره أداةً تعلُّمية وقوَّةً للتعاطف وتقدّم التعاون بين الشعوب"، حيث أن "الجاز رمز للوحدة والسلام"، كما ورد في الموقع الإلكتروني للأمم المتّحدة.
من بين ألمع وجوه الجاز في التاريخ الممتدّ نذكر على سبيل المثال لويس أرمسترونغ (1901- 1971)، وديوك إلينغتون (1899- 1974)، وتشارلي باركر Parker (1920- 1955)، وجون كولتراين (1926- 1967)، وتشيك كوريا Chick Corea (1941- 2021)، وبات مثيني Pat Metheny، ووودي هرمان Woody Herman.
ويتجلّى الجاز زفرةً عميقةً ذات خصائص مُرغّبة. بمتعةٍ إبداعيةٍ ساميةٍ يتوشّحُ إنْ على صعيد التلقّي أو على مستوى التأدية والاستحداث، ويتبدَّى كأنثروبولوجيا مُطبَّقة في الموسيقى، لا سيما لدى دراسة تقليد الجاز على اعتباره فعلَ مَوْسَقَةٍ للعالم.
*كريول: شخص من أصل أوروبي مولود في المستعمرات الأوروبية القديمة للزرع والمناطق الاستوائية لأميركا والمحيط الهندي.