غزة أرض الصفر

متعب ومؤلم فقدان الاستقرار والاستمرارية؛ أن تعود في كل مرة إلى نقطة الصفر، إلى البداية، لكن من دون أمل ببلوغ النهاية التي تحلم بها. في غزة، تعيش كأنك في "أرض الصفر".

  • غزَّة أرض الصفر ( Iyad Sabbah)
    غزَّة أرض الصفر (Iyad Sabbah)

توقّف العدوان واشتعلت نيران أخرى داخل كل إنسان في غزة، أصغرها استعادة الروتين اليومي كمُلاحقة الماء والكهرباء التي تقلّصت من ثماني إلى أربع ساعات. روتين في مدينة عادية بسيطة تعيش يومها ولا تأبه كثيراً باليوم الذي يليه، وذلك لانعدام الاستقرار فيها. لكن أكبر هذه النيران التعايش مع ألم الفقد الذي ينخر قلوب مَن فقدوا أهلهم ومُحبيهم.

عائلات بأكملها رحلت ولم ينجُ منها سوى فرد واحد أو إثنان؛ هذا إن صحَّ اعتبارها "نجاة". إذ ما معنى أن تنظر حولك لتجد نفسك وحيداً بلا أب وأمّ وأخوة، أو لا تجد زوجتك وأطفالك؛ كما حدث مع عائلة الحديدي والكولك وأبو العوف والقائمة تطول بأسماء العائلات التي قُصفِت منازلها فوق رؤوسها من دون أيّ "تحذير" مُسبق كما يدّعي الاحتلال، وعائلات أخرى تشرَّدت بعد فُقدانها للمأوى.

"المال مُعادل الروح" هذا مثل نستخدمه في غزَّة. يتلفظ به مَن خسر مسكنه وأمواله وباب رزقه، لأنه الوحيد الذي يعلم كم أنفق من العُمر والجهد في جمع هذا المال. كما أن الوضع الحالي لأهل المدينة لا يُمكّنهم من تعويض ما فقدوه، والوعود بالإعمار لا تصدُق دوماً، أو لا تُعيد الشيء لما كان عليه. 

لقد أُعلِن عن انتهاء العام الدراسي، فلم يكن من المنطقي متابعة التعليم الكترونياً أو وجاهياً. لن يكون هذا مُنصفًا لجميع الطلاب. وبحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) فإن 326 ألف طفل في غزَّة مُسّجلون لديها. قبل هذا التصعيد كان طفل من بين كل ثلاثة أطفال بحاجةٍ إلى الدعم النفسي؛ لمساعدته في التعامل مع العنف والضغط والخوف الذي يتعرّض له الأطفال في حياتهم اليومية بسبب الحصار الإسرائيلي للقطاع، ولا شكّ بأن هذه الأعداد زادت بسبب العدوان الأخير وما صاحبه من فُقدان الأطفال لذويهم ومنازلهم وتعرّضهم للصدمة والخوف خاصة مع القصف الذي كان يشتدّ ليلاً.

يستولي الاحتلال بشكلٍ شبه كامل على حياتنا وبالقوّة. يمعن في قهرنا بكل الوسائل الممكنة. هكذا يختبر المرضى المزيد من الآلام والعذاب بعد منعم من العبور إلى الضفة الغربية أو السفر إلى خارج القطاع لمتابعة العلاج. حتى فيروس "كورونا" ضاعفت الحرب على غزة من شدة تفشيه، حيث أضعفت جهود وزارة الصحّة التي بذلت منذ بداية شهر رمضان الماضي لتطويق الوباء. فقد طال القصف المختبر المركزي لفحوصات الكشف عن الفيروس، وكذا اندفاع الناس إلى المدارس بالآلاف، فضلاً عن حشود أخرى لجأت إلى المستشفيات هرباً من القصف، فاختلط الحابل بالنابل حتى نسينا "كورونا" وقال البعض متهكماً إن الفيروس "مات خلال العدوان".

تردّي الأحوال وفشل المُخطّطات قصيرة المدى في هذه المدينة ليس جديداً. يحدث هذا كل سنتين على الأقل. بين كل عدوان وآخر أو تصعيد يشنّه الاحتلال لأيام نلتزم خلاله منازلنا في انتظار الموت أو حياة تشبه الموت. نخرج بعد إعلان التهدئة ونسير في شوارع مدينة لا نعرفها، أو كنا نعرفها لكننا الآن لا نتذكّر منها شيئاً.

حين خرجتُ لأستقبل مدينتي العائدة من المعركة، قلت في نفسي إن "الاحتلال في كل مرة يُعيدنا إلى نقطة الصفر!". شاهدت الجرّافات والعربات الكبيرة وهي تجمع الرُكام. رأيت الأبنية المائلة التي تنتظر إزالتها. تحسست الغبار الكثيف والتعب البادي على وجوه المارّة قبل العمّال الذين يشتغلون منذ ساعات الصباح. حينها قفزت إلى رأسي الأسئلة ذاتها الذي أكررها على نفسي بعد كل عدوان: "كم مرة علينا أو كم يلزمنا من الوقت لنعيد بناء ما دمّره الاحتلال في طرفة عين؟"، "إلى متى سنبقى نرى المشهد ذاته؟". منذ العام 2008 يتكرر سيناريو الهدم ثم الإزالة. ما يذهب لا يأتي غيره، فنحن حتى الآن لم نتمكَّن من إعادة بناء الأبراج التي دمَّرها الاحتلال في عدوان 2014، باستنثاء "برج الظافر"، بينما صار "برج الباشا" مسرحاً خاوياً للرياح، حتى "البرج الإيطالي" الضخم لم نتمكَّن من إزالته بشكل كامل.

لم نتمكّن أيضاً من استعادة "مسرح الهلال الأحمر" و"مؤسّسة المسحال الثقافية" التي دُمّرت في العام 2018، علماً أن الجانب الثقافي لا يعدّ ترفاً في غزَّة،لأنه بمثابة المُتنفَّس الأول للشباب والمُثقّفين المُحاصرين منذ 15 عاماً.

"الشروق"، "الجوهرة"، "هنادي"، "الجلاء"؛ هي أسماء الأبراج التي دمرت خلال العدوان الأخير وشرّد سكانها، عدا عن الأعمال والمشاريع والعيادات التي كُسِر ظهر أصحابها. فقد كان مُستقرّها داخل هذه الأبراج باعتبارها تقع في مناطق مركزية ويقصدها الجميع. جميعهم عادوا إلى نقطة الصفر، كأنه كُتِب على أيّ مشروع في غزة ألا يصل إلى مرحلته الأخيرة. إلى القطاف. نحن نعود دائماً إلى المرحلة الأولى. إلى البداية. يتعمد الاحتلال إفشال من يبادرون إلى استعادة الحياة لعلهم يتوقّفون ثم يرحلون بعيداً. هذا ما اختبره شباب فقدوا أرزاقهم عام 2014  فهاجروا عبر البحر ليبدأوا من جديد، لكن الموت كان أقرب إليهم من المستقبل المجهول.  

زملاء وأصدقاء فقدوا مكاتبهم الإعلامية وأماكن عملهم. عشرات الوكالات والمواقع الإخبارية دُمّرت خلال قصف الأبراج وفقدت أرشيفها. انتشر فيديو من داخل "برج الجلاء" بعد أن تمّ تهديده بالقصف ولم يكن أمام مَن بداخله سوى 45 دقيقة لإخلائه. يظهر الفيديو أحد الصحافيين يَدور في مكتبه ولا يعلم ماذا يحمل بيده. يتنقّل مُرتبكاً من زاويةٍ إلى أخرى. هل يحمل صوَره وأغراضه الشخصية؟ أم دروع التكريم التي حظيَ بها خلال مسيرته؟ أم يلتقط الأوراق والوثائق المهمّة؟ لكن زميله استحثّه على الخروج بسرعةٍ، قائلاً: "يلا إنزل وإن شاء الله ما رح ينقصف"، لكن البرج سوّي بالأرض تماماً.

لم يمضِ على زواج صديقتي جيهان أكثر من 5 أشهر،. لم تكن انتهت بعد من استقبال المُهنّئين حتى سبقت الصواريخ الإسرائيلية ما بقي من الأصدقاء والأقارب إلى بيتها. دمَّرت وأحرقت كل ما وجدته أمامها، تقول: "أنفقت وعامر الكثير من الوقت والتفكير في اختيار ديكورات وأثاث بيتنا. كان هادئًا ومجنوناً. يشبهني ويشبهه". صديقتي تهتمّ بالتفاصيل، بالزرع والشجر، تحب المشغولات اليدوية. أذكر أنها سبق وحدّثتني عن "البساط" وهو فرش ملوَّن للأرضيّة مشغول على النول بجمالٍ وحِرَفية، كانت اقتنته من أجل بيتها.

  • غزَّة أرض الصفر
    غزَّة أرض الصفر

أنصتُ لصديقتي وأتذكَّر كل مرة تخيّلتُ فيها تعرّض بيتنا للقصف. ترى ماذا يمكنني أن أنقذ من أشيائي؟ وما هو الشيء الذي سيكون فَقْده الأصعب من بين مُقتنياتنا؟ أحاول استبعاد الفكرة من رأسي تماماً ولا أخبرُ زوجي عنها. إنه سريع الغضب تجاه هذه الأفكار والأسئلة التي لا توصل إلى جواب، ثم وجدتني أكتفي بجمع الأوراق الثبوتية وصورنا العائلية وعلبة الحليب لطفلي المذعور الذي صار يسبقنا في سدّ أذنيه بيديه كلما شعر بتجدد القصف.

في غزة، في ظل الحصار والعدوان، لا يمكنك أن تُقيم علاقة صداقة وتحتفظ بذكرياتك مع أي مكان. في القطاع أنت مجبر على الترحال. أن تبدأ من جديد في مكان آخر غير الذي نشأت فيه. في كل مرة عليك أن تدخل في ماراثون الهدم والبناء وما يصاحبه من تغيَّر في ملامح المدينة وتشوَّهها.

يشعر الكثيرون من أهل غزة كأنهم يحيون فيها كالسُيّاح. يشاهدونها بعد كل عدوان كأنها يرونها للمرة الأولى. أما المُغتربين فليس من المؤكد ما إذا كان بإمكانهم بعد التعرّف على مدينتهم والاجتماع بذكرياتهم فيها. 

أشعر بغضب عارِم وحزن كبير وأعلم أن مشاعري لن تغيّر شيئاً. أحزن وأغضب على كل ما فقدناه ونفقده وسنفقده لاحقاً. أنا التي فقدت مكان عملها. دُمّرت مكتبة سمير منصور التي كانت شاهدة على أحلامي وجنوني وبين جدرانها شعرت بأولى ركلات ولدي.

لقد شكلت هذه المكتبة آخر معالم غزة وكانت وجهة لمُثقّّفيها وطلابها. ترى إن أعيد إعمارها، كيف يمكننا أن نتقبّل مكتبة أخرى بكُتب جديدة ورفوف حديثة الطلاء؟ أي بناء جديد يمكنه أن يعيد لنا رائحة المكان والصفحات العتيقة وأغلفة الكتب قديمة الطباعة كــ "طوق الحمام" و"كليلة ودمنة"؟ كتب تمنّيت قراءة المئات منها وكانت ترنو إليّ كل يوم، لكنها غابت الآن!

أشعر بغضب ممزوج بالعجز تجاه "الزنانة"* التي تُحلّق فوق رؤوسنا طوال الوقت. كأنها تنام وتأكل معنا. صوتها مزعج جداً. خطيرة وفتاكة. تتلصّص علينا لتقتلنا. أسأل نفسي: متى سترحل عن سمائنا؟ ألا نستحق حياة طبيعية حتى أثناء الفاصل بين موت وآخر؟

طرح الأسئلة مُتعب جداً، لكن الأكثر تعباً وألماً هو فقدان الاستقرار والاستمرارية، والعودة في كل مرة إلى نقطة الصفر. إلى البداية لكن من دون أيّ أمل ببلوغ النهاية التي تحلم بها. في غزة تعيش كأنك في "أرض الصفر".

*الزنانة: طائرة استطلاع إسرائيلية صوتها مُزعج، يستخدمها الاحتلال للتجسّس على أهل غزَّة واغتيال مقاوميها.

 

تغطية شاملة وموسَّعة من عدة بلدان وعواصم تعتبر نفسها في صلب محور المقاومة، تحت عنوان "نحن هنا.. حلف القدس"، بالتزامن مع الذكرى الـ 15 لحرب تموز/يوليو 2006 على لبنان، وانتصار المقاومة الفلسطينية في "سيف القدس" في أيار/مايو 2021.