أطفال غزة يذهلون العالم: ما السر في هؤلاء "الأطفال - الرجال"؟

في غزة فقط... يلقّن الطفل شقيقه الجريح الشهادتين ويلعب الأطفال لعبة "شهيد" بين الدمار، في غزة فقط يكتب اليافع وصيته، ويخط اسمه على جسده! فكيف تفسّر هذه الحالات التلقائية اللافتة في ظل الإجرام الإسرائيلي؟

  • أطفال غزة يذهلون العالم: ما السر في هؤلاء
    ما السر في هؤلاء"الأطفال- الرجال"؟ (غرافيك: إسماعيل آغا)

"بكرا محكمة التاريخ...  شو بتخبّر للأجيال... عن علم بيرمي صواريخ... حضارة بتقتل أطفال...يا طفل اللي ما بيعرف يركع صرّخ بلكي الحق بيسمع... بلكي شمس الماضي بترجع... طال الليل العربي طال"!

عبارات مدوّية يطلقها الفنان اللبناني معين شريف في أغنيته التي تعرض منها شاشة الميادين مقاطع لأطفال غزة، ضمن "كليب" مؤثّر.

الأغنية التي كتب كلماتها الشاعر اللبناني نزار فرنسيس، ولحّنها مواطنه الملحن سمير صفير، تضرب الزوايا الداوية في القلوب، و قد "تفتّت الصخر" بكلماتها المباشرة ومشاهدها المؤثرة الحزينة .

من منّا لا يذكر الطفل الفلسطيني محمد درة، الذي "اغتالته" قوات الاحتلال عام 2000 وهو يحتمي بوالده...

هم الأطفال الفلسطينيون- الأهداف المباشرة لآلة الحرب الإسرائيلية.

من منّا لم تدمع عيناه وينعقد لسانه، أمام هول  مشهديات أشلاء أطفال غزة وهي تنتشل من تحت الركام،  صور أطفال المستشفى المعمداني، الذين كانوا يلعبون ويغنون قبل أن تقصفهم طائرات العدو...

من منّا لا يذكر الطفل الشهيد يوسف... كانت أمه المفجوعة تصرخ بهذيان: "شعره كيرلي وأبيضاني وحلو "، وهي تبحث عنه في أحد مستشفيات غزّة. 

اقرأ أيضاً: القوة التدميرية للمتفجرات الملقاة على قطاع غزة تجاوزت قنبلة ناغازاكي

مقطع الفيديو  انتشر بشكلٍ واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي تتحرّق خوفاً بحثاً عن طفلها.. مشتتة، لعلّها تلتقي فلذة كبدها المفقود.

"بن غوريون" والتحريض على قتل الأطفال!

تستهدف "إسرائيل" الأطفال الفلسطينيين منذ عام 1948، في حين أيدّ ديفيد بن غوريون وحرّض في مذكّراته على قتل النساء والأطفال الفلسطينيين، مانحاً في الوقت ذاته مكافأة لكل امرأة يهودية تلد طفلها العاشر، وهذه الحوافز كانت بيد الحركة اليهودية وليست بيد حكومة الاحتلال، لضمان استثناء الفلسطينيين من ذلك.

اقرأ أيضاً: جريمة العالم في غزة

واستخدم الاحتلال الأطفال دروعاً بشرية خلال الانتفاضة الثانية وما تلاها من صعود للمقاومة، كإجبار الأطفال على السير أمام جنود الاحتلال خلال المواجهات والاشتباكات مع المقاومين وأثناء اقتحام المنازل بحثاً عن المقاومين.

واليوم الاثنين، أكدت منظمة "أنقذوا الأطفال" أن "إسرائيل" قتلت ما يزيد على 3200 طفل في غزة في 3 أسابيع، مشيرة إلى أن 1000 طفل آخر في عداد المفقودين.

وقالت المنظمة إن الأطفال يشكّلون نسبة 40% من الذين استشهدوا في غزة، داعية إلى وقف فوري لإطلاق النار لحماية أرواح الأطفال في القطاع.

حالات صدمة مستمرة

يقف المرء مذهولاً وقد ينعقد اللسان، أمام مشهد الأطفال الناجين من مجازر العدو، نتسمّر مشدوهين أمام نظراتهم، رجفاتهم، وحتى طريقة تعبيرهم وكلامهم الواعي للمنقذين، للممرضين وعبر وسائل الإعلام.

في غزة يا ناس.... وصل الأمر بالطفل إلى تلقين "الشهادتين" لشقيقه وهو على حمّالة المشفى!

في غزة يا مجتمع دولي يتحدى الطفل العدو من بين الدمار ويقول له "لن نقهر"!

في غزة يا أيها العالم... يكتب الطفل وصيته، ويخط اسمه على جسده كي يُعرف بعد استشهاده!

في غزة فقط يا عالم يلعب الأطفال في ظل ضحكاتهم الجميلة لعبة "شهيد" بين الأنقاض!  

يقول خبراء الصحة النفسية في غزة إنه "لا يوجد هناك شيء اسمه اضطراب ما بعد الصدمة، لأن الصدمة هنا مستمرة".

ومع ذلك، الطفل الفلسطيني محاصر بين قطعة صغيرة من الأرض وليس أمامه سوى البحر، وليس لديه كهرباء  وماء، وسبل الاكتشاف لديه قليلة، ومع ذلك يحب التعلّم وهو على درجةٍ عالية من الوعي.

وأطفال غزة ينتظرون قصة قبل النوم ولا يحصلون إلا على صفحات الرعب، أطفال غزة ليسوا أرقاماً إحصائية في التقارير الإخبارية، هم أرواح نقية وأحلام تنعرج في السماء....

طراف للميادين نت: هناك آثار آنية وبعيدة

ولمحاولة الإحاطة بهذه الظواهر التي يعبّر عنها الأطفال تقول الاختصاصية والمعالجة النفسية إيمان طرّاف للميادين نت إن "حالات الذهول والغياب عن الوعي رغم عدم إغلاق العيون والرجفة لدى الأطفال الناجين يمكن أن تكون نتيجة لصدمة شديدة وتجربة مؤلمة  تكون مرتبطة بحدث عنف أو كارثة فوق قدرة الجهاز العصبي على تحمّلها".

هذه الحالات تشير إلى وجود استجابة نفسية طارئة تسمّى "الصدمة النفسية"، حيث يعاني الطفل من عدم القدرة على تجهيز  واستيعاب ومعالجة الأحداث المؤلمة الطارئة والمفاجئة.

وتضيف أن "الآثار النفسية الآنية على هؤلاء الأطفال تشمل اضطرابات النوم، الكوابيس، والقلق المستمر، والرهاب، والانفصال عن الآخرين، عدم القدرة على ضبط التبوّل في كثير من الأحيان ، البكاء والصراخ والفزع والعصبية الشديدة.

إضافة إلى ذلك، يمكن أن تظهر آثار بعيدة المدى مثل اضطرابات القلق، الاكتئاب، واضطرابات النوم المزمنة، والأمراض الجسدية المرتبطة بالضغط النفسي. أما الآثار البعيدة المدى فقد تتطور  إلى إضطرابات كرب (حزن شديد) ما بعد الصدمة  PTSD ".

الأطفال الأصغر عمراً أكثر عرضة للصدمات

و لعمر الطفل تأثير، تقول طرّاف التي تعالج في مركز Maamoura Physiotherapy Center

لجهة كيفية تجربته للأحداث الصادمة والمؤلمة،"فالأطفال الأصغر سنّاً غالباً يكونون أكثر عرضة للصدمة، ولا يمكنهم تفسير الأحداث بالطريقة نفسها التي يفعلها البالغون. الاختلاف بين عوارض الأطفال والبالغين يمكن أن يكون في درجة الفهم والتعبير عن الصدمة.
وتستدرك لتقول "لكن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن لا شيء يذهب ويختفي فكل ما نعيشه ونختبره في الحياة يخزّن في لاوعينا وينتظر الحدث المفجّر ليصعد إلى السطح ويعبّر عن نفسه بالأعراض النفسية والجسدية والعقلية".

"لعبة شهيد" وسيلة للتكيّف مع الواقع الصعب

أمّا عن مشهد "رؤية الأطفال وهم يحملون أو يقبّلون الشهداء من الأطفال وغيرهم "فيمكن تفسيرها من منظور نفسي مختلف. قد يكون هذا التصرّف نتيجة لتأثّرهم بالأحداث المؤلمة والعنف الذي يشهدونه في حياتهم اليومية. يمكن أن يكون القبول والحمل للشهداء من الأطفال وسيلة لهم للتعبير عن الحزن والاحتجاج على الواقع الذي يعيشونه، ولكن هذا يدل على انتهاك الطفولة وحرمانها من أبسط مقومات الأمن النفسي والمجتمعي".

وتعقّب طرّاف بقولها، تعكس لعبة "شهيد" التي يلعبها الأطفال في غزة واقعاً مؤلمًا يعيشه الأطفال، وقد يكون هذا التصرّف نتيجة تأثّرهم بالأحداث العنيفة والمأساوية التي يشهدونها يومياً في بيئتهم.

كما يمكن أن تكون اللعبة وسيلة لهم للتعامل مع الأحداث والتعبير عن مشاعرهم والتكيّف مع الواقع الصعب. لا يعني ذلك أنهم لم يعرفوا معنى الطفولة الطبيعية، ولكنهم يعيشون في ظروف قاسية تتطلب تكيّفاً نفسياً وعاطفياً مختلفاً".

وتردف قائلةً "هؤلاء الأطفال قد يكونون أجبروا على النضج بشكلٍ أسرع من أمثالهم في ظروف طبيعية. إنهم ليسوا "رجالاً صغاراً" بالمعنى الحرفي، ولكنهم قد تأثروا بظروفهم بشكل كبير.

ويبقى أن نتطرق إلى تصرّفات الأطفال الذين تعرّضوا للقصف واستشهد أهاليهم وما زالوا يعبّرون للمسعفين ويشاركون في وسائل الإعلام والمقابلات الصحافية فقد تكون مرتبطة بعدة عوامل نفسية واجتماعية".

ومن بين التفسيرات الممكنة تعدد طرّاف: 

-قوة الروح: بعض الأطفال يمتلكون روحاً قوية وقدرة على التحمّل تساعدهم في التعبير عن تجاربهم بواقعية وإيجابية.

-آلية التحلي بالقوة العقلية: قد تكون لديهم قدرة استثنائية على التكيّف والتحلي بالقوة العقلية لمواجهة الصدمة النفسية الهائلة التي تعرّضوا لها. قد يحاولون الاستمرار في حياتهم والتعبير عن تجربتهم.

-آلية التكيّف: يمكن أن يكون هذا السلوك طريقة للأطفال في التكيّف مع الوضع الصعب الذي عاشوه. البحث عن منافذ للتعبير عن مشاعرهم والتحدث مع وسائل الإعلام قد يكون لديهم أثر إيجابي على مشاعرهم.

-دعم اجتماعي: قد يتلقّون دعماً اجتماعياً قوياً من المجتمع والأهل المتبقين أو من منظمات غير حكومية تساعدهم على التعبير عن أنفسهم.

-الحاجة للتوعية: من خلال مشاركتهم في وسائل الإعلام والمقابلات الصحافية، يمكن أن يساهموا في زيادة الوعي بمشاكلهم ومعاناة الأطفال في المناطق المتضررة.

- الرغبة في القصصية والتواصل: قد يكون لديهم رغبة في مشاركة قصتهم وتوعية العالم بما يحدث في منطقتهم. قد يأملون في نشر الوعي والتأثير على الرأي العام.

-الحاجة إلى الانتماء والتعبير: قد تكون لديهم حاجة قوية للانتماء والتواصل مع الآخرين، خاصة في حالة فقدان أفراد الأسرة. يمكن أن يشعروا بالراحة والدعم عندما يشاركون قصتهم مع العالم الخارجي.

وأخيراً تختم الاختصاصية بالقول " قد يكون هذا التصرّف ناتجاً عن عدم وعي لما يدور حولهم وعدم استيعاب للواقع عبر إنكاره وتخطّيه، وتعتبر هذه الحالة استمراراً للصدمة النفسية التي ما زال الطفل يعيش فيها".

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.