المثقف المشتبك والعودة إلى زمن الاشتباك

لدى توقيع اتفاقيات أوسلو ودخول السلطة الفلسطينية إلى مواطئ القدم الأولى التي نص عليها الاتفاق في كل من غزة وأريحا, جرت فصول واقعة غريبة بدت هامشية للغالبية أمام جلالة الحدث, تتعلق بضياع أو فقدان قسم كبير من أرشيف مركز التوثيق و الدراسات التابع لمنظمة التحرير والذي احتوى على غالبية التراث الثقافي الذي أنتجه مثقفي منظمة التحرير الفلسطينية.

حاولت النخب الثقافية الفلسطينية في زمن أوسلو بشتى الطرق اجتراح معادلات تتيح لها خلق مساحة خاصة بها
محمد جميل

الحادثة المذكورة تصلح كمدخل يرمز للاستحقاق الذي رتبته اتفاقيات أوسلو كمحطة للقطع مع السيرورة الثقافية التي سارت جنبا إلى جنب مع المشروع التحرري الذي مثلته منظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها سنة 1964 وحتى لحظ الانتقال إلى مشروع سياسي سمته الأساسية الانقلاب على الروح الثقافية التي شكلت عماد البنيان السياسي والتنظيمي للمؤسسة الوطنية الفلسطينية حتى توقيع اتفاقيات أوسلو, وما تلاها من تبعات مادية أساسها قيام سلطة حكم ذاتي منقوصة السيادة على جزء صغير من أرض فلسطين التاريخية, شكلت الحلقة المركزية لمشروع أوسلو السياسي الذي دار في فلكها أذرع أريدَ لها أن تكون حوامل إسناد تنظيمية و مجتمعية و ثقافية واقتصادية لهذا المشروع.

وحيث أن تجليات أوسلو المادية ممثلة بالسلطة وملحقاتها في الحيز الذي أتاحته الاتفاقيات داخل الأراضي الفلسطينية, بنيت على المحاكاة الرثة لما حولها من دول الجوار, فإنها وفي منتجها الثقافي لم تبتعد كثيرا عن النموذج المُقتبس البائس أصلا, وزادت عليه بأن خلّقت مشهدا ثقافيا وُلد ميتا, كونه بلا مشروع وليس لديه ما يقوله أو يبشر به, و حتى الاستعارات النمطية من الجوار, تبدد جدواها بفعل غياب المعنى والمضمون , فلا دولة يقدسها أو رئيس حقيقي ينافقه, وحتى الشعب الذي هو مادة أي ثقافة والعنوان الذي يوجه إليه خطابها, فإن غالبيته الساحقة جرى إقصاءها خارج الحيز الذي أتاحته أوسلو ككيان سياسي للفلسطينيين.
 

ولأن الاحتواء والتدجين هما لب العقيدة الأساسية لمشروع أوسلو السياسي, فإن المعارضة الأليفة بدورها جرت عملية استيعاب تدريجي لها في تشكيلات ما بعد أوسلو الغير رسمية, في أطر وأجسام شكلت عماد ما اصطلح على تسميته "مجتمع مدني" و " منظمات غير حكومية", وفيها تمت عملية إعادة ترتيب الأولويات السياسية لهذه المعارضة, ليليها في مرحلة لاحقة وتحت وطأة ضغط اشتراطات التمويل الغربي لها صياغة خطابها من جديد بشكل يزيل التعارضات الجوهرية بين هذا الخطاب والمشروع السياسي الذي  ينشط في ظلاله, وبما يضع الجسمين الرسمي و الغير رسمي تحت سقف سياسي واحد, وصولا إلى المرحلة الأخيرة التي وبمقتضاها لم يجد هذا المجتمع المدني ومنظماته مكانا له في الحيز السياسي لمشروع أوسلو سوى على يمينه كذراع تنفيذية مباشرة لتنفيذ سياسات الراعي الدولي له.
 

حاولت النخب الثقافية الفلسطينية في زمن أوسلو بشتى الطرق اجتراح معادلات تتيح لها خلق مساحة خاصة بها تفصلها عن التماس المباشر مع الاستحقاقات التي فرضها المشروع السياسي الجديد, وعن الوقوع في فخ ما اعتبروها لاواقعية وراديكالية تتنكر للحقائق المستجدة. غير أن كل محاولات هذه النخبة سرعان ما كانت تصطدم بضيق الأفق الذي يوفره المجال السياسي لأوسلو, والذي كان يزداد ضيقا باضطراد كلما مضت مفاعيل مشروع أوسلو السياسي قدما, لتجري عملية إعادة توليف النخبة لذاتها ولخطابها من جديد وفقا لنفس المحاذير التي تسعى لتلافي التماس مع المشروع السياسي وما تخيلوها راديكالية غير واقعية.

حوادث مشبعة بالرمزية على ندرتها كاستشهاد باسل الأعرج , تأتي كخدش عميق للمنظومة الثقافية التي هيمنت على الفلسطينيين في العقدين الماضيين. فاستشهاد باسل شكل لحظة كاشفة للصدام الحتمي بين أوسلو وبين المثقف الذي يختط لنفسه مسارا يتنصل فيه من محددات الإخضاع الجبري للحالة الثقافية لها, صدام يبدأ بالنبذ وبالتعالي عن النماذج المتمردة على السياق الثقافي المهيمن, وينتهي بالسجن أو بالرصاص.

 هي إذا قواعد اشتباك تبادر إليها منظومة أوسلو وملحقاتها مع من يختصم معها , قبل أن يختار المثقف المتمرد الاشتباك وسما تعريفيا لنفسه, وتحاول المنظومة الدفع إلى الواجهة باعتقاد يفيد بان كل خروج عنها هو بمثابة طارئ لا أم له ولا أب, ومنقطع عن أي مسارات أخرى يمكن أن تشكل بديلا لها. ولكن توصيف "الاشتباك" بحد ذاته مستدعى من سياق أصيل سابق على أوسلو, يعيد وصل "زمن الاشتباك" باللحظة الراهنة ليحمل في طياته تجريدا للمسار الراهن من شرعيته وإسباغا للشرعية على فعل التمرد, فيصبح أمثال باسل هم القاعدة وكل ما عداهم شواذ واستثناء.