لوحة في زاوية منسية
شعرت بشيء من الفخر، كأني صرت في موضع الناقد والمحلّل في توالي الأفكار، أحاول أن أزيح الستارة عما أخفاه الفنان، أو قد يبدو واضحاً في النفسية المعقدة لهذه اللوحة.
أن تجذبك لوحة، يعني أنك وقعت في الحب. هكذا أخذتني عيني إلى اكتشاف لوحة زيتية صغيرة معلّقة في صالة قاعة "كولبنكيان". كانت موضوعة تحت ضوء خافت على عكس اللوحات الأخرى التي تمّت العناية جيداً بها من أجل العرض. فاللوحة كانت بعيدة من الأنظار، كما لو كان من المفترض أن يتم نسيانها، لكنها وبطريقة ما وبحسّ غريب كانت مبعثاً للضوء من داخل إطار هلامي، إنه منحى مختلف في الفنّ التشكيلي العراقي.
وما أدهشني أنك تتصوّر الأحمر أسود، والأصفر أخضر، تتداخل الألوان بشكل متناقض، كأنها انعكاس لذات الفنان في مرآة مظلمة، وتساءلت كيف يمكن تقدير هذا الإنجاز الرائع؟
على سبيل المثال، كانت هناك فروق واضحة بين الظل والضوء، برزت في جسد تكوّر على نفسه، ويده ممتدة تحتضن ساقيه، فيما بدا الوجه مخفياً يتلاشى نحو المجهول، وكأن الفنان أراد أن يخفي وجهه هو، في عزلة عميقة. إنها سمة واضحة في ذلك الإطار الهلامي.
لم يكن الجسد وحده، لأنه احتضن جسد امرأة مخفية الملامح كطبقات الروح، لم يبرز منها سوى ضوء أنثويتها ويدها الصغيرة، والتي تبدو سبباً في حكاية سردية وتفصيلية عن الغربة والهجر والموت.
كلما أمعنت النظر تعيد اللوحة قراءة نفسها في لحظات تعبيرية انفعالية، تعيد تشكيل نفسها في قراءة تحليلية أخرى يتلاشى فيها الواقع، لتبدأ الريشة في صناعة الجسد، جسد مبتور، ناقص، غامض، جسد داخل جسد آخر . الفنان هنا كسر القواعد والنظم الأكاديمية، وخلق رؤية منسجمة مع طبيعة الأشياء، في فكرة تسمح بإمكانية ظهور الموضوعات الإنسانية. ألم الإنسان ذاته كما تشكّل في حقل إدراكي، وأنا مستمر في النظر.
"هل أعجبتك اللوحة؟"، قالت بصوت أليف وهي تقف إلى جانبي تمعن النظر. التفت إليها وأنا أنظر إلى ابتسامتها العريضة وشعرها الأسود وقلادتها المكرّرة من الخرز، وقلت: "إنها بديعة ومثيرة للاهتمام. قصة رائعة، هي اللوحة الوحيدة التي لم يرسمها أي من الفنانين المشاركين في المعرض، كما ترى هناك الكثير من اللوحات بأحجام مختلفة، وأشكال متباينة، مثل بانوراما عراقية، هناك لوحة لفائق حسن، وأخرى لحافظ الدروبي".
صمتت قليلاً ثم أردفت القول: "أحببت الكثير من اللوحات هنا لكن ..".
- "لكن ماذا؟"
- "رُسمت هذه اللوحة بشكل محيّر، بين الحياة والموت".
أحسست أنها هربت من السؤال، ابتسمت بشكل جميل، فيما شعرت أنا بشيء من الخجل عن فضولي في الاستفسار منها من دون أن أعرف من هي!
- "لا أعرف، شعرت أن تعديلات كثيرة طرأت على هذه اللوحة، أو أن الفنان تعمّد إخفاء أطراف الجسد تحت الظلال، كنت أسمع بكاء ذلك الجسد كأن العالم لم يكن موجوداً من حوله، وأشعر بالدهشة من صمته في ذات الوقت، حاولت أن أضع يدي على كتفه، كان يبدو مثل كائن حيّ."
- "هل ترى هذا العالم في بقاياه الغريبة؟" قالت وهي تؤشر على جسد المرأة المنهار على صدر الرجل في اللوحة. وأضافت "هل ترى تلك اليد الصغيرة قبل أن تغرق في مستنقعات لا حدود لها؟".
- "حسناً، كنت أتساءل أيضاً من منهما هو الميت؟"
- "يبدو أنك تحاول الدخول للعثور على حياة هناك!"
- "ربما!"
شعرت بشيء من الفخر، كأني صرت في موضع الناقد والمحلّل في توالي الأفكار، أحاول أن أزيح الستارة عما أخفاه الفنان، أو قد يبدو واضحاً في النفسية المعقدة لهذه اللوحة.
وبينما كنت أخترق ذلك الليل اللا متناهي، وأشعر بالطين يغمر جسدي، والمياه الزرقاء تدور من حولي، بتّ لا أعرف ما إذا كان الوقت نهاراً أم ليلاً.
كنت أشمّ رائحة الطحالب الخضراء على شفتي وأنا ما زلت أغرق حتى نظرت إلى تلك القلادة المكرّرة ذات الخرز وهي تلف عنق المرأة المنهارة في اللوحة. التفتُ بسرعة فإذا بي أراني وحدي، وفي الضوء البعيد من القاعة حشد ينظر إلى لوحة كبيرة مضمونها: جسد عار مستلق بين عناقيد الكرمة بإطار خشبي مذهّب.
يبدو أن الجثث كثيرة!