"كمشة ذكريات" في أربعين خالد أبو خالد
نمْ قرير العين، سنبقى نكتب بالدم لفلسطين وللوطن العربي، وسنتذكّر دائماً وأبداً وصيتك ونسقيها بماء العيون.
في الليلة الأخيرة من العام 2021، أغمضَ الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد جفونه، وطوى أشرعة الرحيل ماضياً في الدروب الوعرة إلى ذلك الحلم الذي كان يؤرّقه بأن يموت بعيداً من "سيلة الظهر" التي ولد فيها عام 1937 لأبٍ شهيد هو واحد من قادة ثورة المجاهد الشهيد عز الدين القسام.
40 يوماً مضت، وربما 50 وأكثر..، وما زال أبو خالد تلك القامة العالية الشامخة المديدة التي استظلّت في فيئها أجيالٌ وأجيالٌ من شعراء فلسطين وأدبائها وإعلامييها، واقفاً على حدود فلسطين التي سكنها وسكنته حتى النبض الأخير الذي كان يهتفُ ملء القلب والروح والعروق النابضة بالدم: "إما فلسطين.. أو فلسطين، وإما أن نكون أو نكون".
40 يوماً مضتْ، وكأنها رفة عين أو خفق جرح، أو حلم ثقيل لن يمرّ سريعاً، فما زالت الذكريات تتوالى وتترى، وتتواتر الصور في مخيلة كلّ من عرفه في السيلة وجنين ونابلس وطولكرم، فعمان والكويت وبيروت ودمشق.. وغيرها من القرى والمدن والبلدات التي زارها أو مرّ بها.
في بداية تسعينيات القرن الماضي، كنت أعدّ حلقة بحث في كلية الآداب - قسم اللغة العربية في "جامعة دمشق" عن الملحمة في الشعر العربي المعاصر. قصدتُ حينها الشاعر السوري الراحل محمد عمران الذي كان يترأس هيئة تحرير مجلة "الموقف الأدبي" الصادرة عن "اتحاد الكتّاب العرب" في سوريا، فأرشدني إلى تجربة خالد أبو خالد في هذا المضمار ودفع إليّ بكتابين له هما "تغريبة خالد أبو خالد"، و"أسميك بحراً.. أسمي يدي الرمل".
فوجئت أنهما مقصدي الذي أبحث عنه، وحين أنجزت حلقة البحث، زرتُ أبو خالد في مكتبه بالأمانة العامة لــ "اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين" في دمشق، والذي قابلني بكثير من البشاشة والودّ ودماثة الخلق والتواضع الجمّ، مثنياً على ما اخترت وما أنجزت، وزاد ترحيبه أكثر حين علم أنني من مخيم جرمانا، أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، وأخبرته أيضاً أني حضرت قبل سنوات أمسية له في مخيم اليرموك ألقى فيها قصيدته في رثاء ناجي العلي، لتتوثق عرى المعرفة والصداقة والمحبة والرعاية الأبوية منذ ذلك التاريخ، حتى اللحظة التي رأيته فيها مسجّى في مشفى يافا يوم وداعه الأخير.
ولعلّ أبقى تلك الذكريات وأشدّها رسوخاً حين اقتربت منه وعرفته أكثر فأكثر في سفرات عدة إلى ندوات وأمسيات ومهرجانات كانت تُقام في بعض المدن والبلدات والمحافظات السورية. إذ كان يدهشني بذاكرته المتقدة دوماً وحفظه لوقائع وأحداث عمرها من عمر القضية الفلسطينية، ولا سيما صحبته وحكاياته مع كبار الكتّاب والشعراء والإعلاميين والمثقفين الفلسطينيين والعرب كـ غسان كنفاني وناجي العلي وعبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي "أبو سلمى" وناجي علوش وماجد أبو شرار وعبد الرحمن منيف وبدر شاكر السياب وسواهم. وكان لا يملّ أبداً، رغم روحهِ المترعةِ بالأمل، من استحضار قساوة الحياة التي عاشها بدءاً بيتمه المبكّر في العام الأول من عمره، حين استُشهد أبوه في معركة دير غسانة عام 1938، مروراً برحلة اللجوء وآلام المنافي، وصولاً إلى عمله في "إذاعة وتلفزيون الكويت" أو "إذاعة دمشق" والبرامج الأدبية التي أعدّها وقدّمها، وما بينهما التحاقه بالعمل الفدائي وخوض المعارك ضد العصابات الصهيونية والدفاع عن عروبة وهوية فلسطين، ولقاءاته مع الأديب الفرنسي جان جينيه الذي كتب عنه في كتابه "أسير عاشق" وترك تأثيراً قوياً وإيجابياً بالرأي العام الغربي، ورحلاته إلى غير بلد (الاتحاد السوفييتي، الصين، لاوس، كمبوديا، فيتنام) مع ناجي العلي الذي أسرّ له يوماً بالقول: "إنهم يهدّدوني بحرق أصابعي بالأسيد"، فضلاً عن الأساطير والسير الشعبية والتراث الإنساني والأغاني والأهازيج التي كانت سائدة في قرى فلسطين وبلداتها ومدنها، ورغبته المحمومة في زيارة قبور الشهداء، وحكاية كلّ قصيدة كتبها أو لوحة رسمها أو أغنية كتب كلماتها.
ومن تلك الذكريات أيضاً مشاركات خالد أبو خالد بــ "مهرجان المحبة والسلام" الذي كان يُقام بدءاً من عام 1988 في مدينة اللاذقية سنوياً في الفترة من 2 وحتى 12 آب/أغسطس، متضمناً معارض للفنون التشكيلية ومعارض أثرية وندوات ثقافية وأمسيات شعرية، وقف أبو خالد في إحداها إلى جانب الشعراء: جوزيف حرب وشوقي بغدادي ونزيه أبو عفش.. وغيرهم، وكان صوته يهدرُ ممزوجاً بحسرة وحشرجة من لوعة الشوق وهو يرنو إلى بحر اللاذقية، ويصغي إلى أمواجه الممتدة إلى شواطئ عكا وحيفا ويافا، منشداً:
هل ينادي البحرُ أحزاني... فأمضي
ربما يقذفني الموج إلى الموج.. فأزهر
أيها البحر أغثني
فأنا الآن إليك
وأنا يا بحر أدعوك صديقي... ورفيقي
حيثما تمضي اتخذني.
***
يا ميجانا.. للبحر أنتِ حبيبتي.. وأنا
وللبحر النذورْ
للبحرِ حُبُّ حبيبتي الحبلى بطفلٍ ظلَّ يُقتلُ قبلَ أن يأتي إلينا
ثمَّ جاءَ مسربلاً بدمٍ.. ومصطلحٍ هجينْ
مُذْ جاءَ مقتولاً على كفَّينِ من شوكٍ
ونافلةٍ..
وطينْ
فترنَّحت كتفي.. ولكن لم أفاجأْ..
يا ميجانا.. هذا سقوطُ القتلِ..
هذي وقفةُ العشّاقِ في نعشِ القتيلْ
وأنا المسافرُ مُذْ ولدتْ
وأنا المحاربُ مذ ولدتُ.. ومُذْ كبرتْ
وأنا المحاربُ إذ أعود إليكِ في البحرِ الشريدْ
يا بحرُ.. تشبُهني وأنتْ..
يا بحرُ.. من صخبٍ وصمتْ
يا بحرُ.. غنَّ الموتْ
يا بحرُ.. أنتَ الصوتْ
وأنا مشرّدكَ القديمُ.. أنا الذي لا بحرَ لي مُذْ كنتْ
وأنا الذي آتي إليكَ.. فخذ يدي للبيتْ
يا ميجانا.. يا ميجانا
والبحر مرآةٌ.. ومرحلةٌ.. ومن رملٍ.. وقارْ
يا ميجانا يا دارْ
كلُّ الدروبِ إلى المنافي صعبةٌ.. كلُّ الدروبْ
البحرُ.. والطرقُ القديمةْ
البحرُ.. والطرقُ الجديدةُ.. والمدنْ
البحرُ.. والحزنُ المثابرُ.. والسجونْ
البحرُ.. والجزرُ الجميلةُ.. والسنونْ.
وفي "مهرجان السنديان" الذي كان يُقام في الملاجة قرية صديقه الشاعر الراحل محمد عمران بمنطقة دريكيش التابعة لمحافظة طرطوس، كم كانت تشدّه الذكريات إلى أزمنة مضت وأمكنة راسخة في الروح والوجدان، ونحن نمرّ بقرى حمين وبيت الجهني والمصطبة وتيشور وحبابة، إذ كان يرى فيها جبال الخليل والقدس ووديان نابلس وبيت لحم وسهول الجليل وصفد، فتنسابُ دمعة حرّى على ذلك الفردوس المفقود.
على أن المحطّة الأهم كانت يوم تقدّمنا إليه بوجلٍ ورهبةٍ، الأديبة عبير القتال وأنا بمخطوط الرواية المشتركة "سنلتقي ذات مساء في يافا" التي كتبناها سويةً، وصدرت في ما بعد عن "الهيئة العامة السورية للكتاب" عام 2016، كيف تلقف هذا العمل السردي بشغف وقرأه في أيام قليلة، وحين فرغ منه قال لنا: "هذه الرواية أشبه بحبل الوريد الذي يربط سوريا بفلسطين.. إنها نشيدُ حبّ كبير في زمن يابس". وكانت فرصة كبيرة لنا ليحدثنا عن التشابه الكبير بين المدن الفلسطينية والسورية في عمرانها وعاداتها وتقاليدها وعلاقاتها الاجتماعية.
لقد عشقَ الشاعر الراحل خالد أبو خالد الشام العتيقة، أو دمشق القديمة، وهام كثيراً بأزقتها وحاراتها وشرفاتها المزيّنة بأصص الحبق وعرائش الياسمين وحمامات "الجامع الأموي" ونواقيس "كنيسة الزيتون" و"الكنيسة المريمية"، ولا سيما أن دمشق كانت تذكّره دائماً بمدينة نابلس المسمّاة "دمشق الصغرى"، وليست مصادفة أن يقول في أحد حواراته الصحفية قبيل رحيله بثلاث سنوات، إبان الوعكة الصحية الأولى: "العوامل التي تشدّني إلى الحياة هي الناس ومحبتهم التي غمروني بها، فأنا لا أغالي إذا قلت إنني كنت أستقبل كل يوم حوالي 50 زائراً.. وهذا بصدق جعلني أنهض، وقلت: إذا متُّ في غمرة هذه المحبة فأنا سعيد". مضيفاً: "لم أشعر أنني أخاف الموت، لكنني وضعت عنواناً: إذا متّ ادفنوني في دمشق لأن دمشق هي القلعة والحاضن وهي التي سترفع رايات النصر، وأنا يشرفني كثيراً كمناضل وشاعر أن أدفن فيها وتحت سمائها كي أنقل في غدٍ إلى فلسطين".
ولئن نسيتُ بعض المحطات في "كمشة" الذكريات هذه المتناثرة هنا وهناك، لن أنسى أبداً ما حييت الأشهر الستة بين عامي 2012- 2013 من سنوات الحرب الأخيرة، والتي قضاها الأديب والروائي الفلسطيني حسن حميد لاجئاً لائذاً ببيت خالد أبو خالد بعد أن هُجّر من بيته بمخيم سبينة، والحوارات المسائية الممتدة التي كانت تجمعنا، نتقاسم فيها الرغيف وكأس الماء، حيث بدأ حميد كتابة روايته المشهودة عن الحرب في سوريا "لا تبكِ يا بلدي الحبيب"، في حين كان أبو خالد يكملُ ما بدأه في قصيدته/ الملحمة "من كتاب الشآم" التي ختم بها مسيرته الشعرية، وفيها يقول:
يا حمام الشآم الذي لا ينام..
يا حمام البيوت التي لا تموت..
شفقٌ.. أو غسَقْ..
سوف تأتي الغيوم بأمطارها
حين تأتي مواعيدها.. سوسناً.. أو حبقْ
أحبُّ الشآم التي أيقظتني مآذنها..
أرجحتني أجراسها..
شكّلتني في ضوئها..
من غفوتُ على حضنها كالقطا..
فاشترتني بأحلامها.. وصحوت على
موطني.. موطني.. موطني..
يا نشيد فلسطين تحت قباب الشآم
حماة الديار.. عليكم سلام.
فيا صديقي الذي قبّلت جبينه القبلة الأخيرة، قبل أن يلتحفَ كفنه الأبيض ويمضي إلى مستقره الأخير في تربة مخيم اليرموك: السلام عليك يوم ولدت ويوم متّ ويوم تُبعث شهيداً، نمْ قرير العين، سنبقى نكتب بالدم لفلسطين وللوطن العربي، وسنتذكّر دائماً وأبداً وصيتك ونسقيها بماء العيون: (وهذه فلسطين شاسعة.. وواسعة.. وهي هي بلادنا التي نعطيها.. فتحملنا إلى الكون.. مذكّرةً أنها الاسم الحركي له وللوطن العربي.. بالدم نكتب.. وإليه نعود.. اللهم فاشهد.. إني قد بلّغت وأسلّم الراية للجدير.. يصعد.. إنه الآن إلى فلسطين الأقرب).