الدراما والمجتمع: التربية والسلوك – الجزء السادس

لقد شاركت الدرامة التلفزيونية ثقافياً في هذا العُته والجنون الذي نراه اليوم يجتاح بلادنا، عبر مُحتواها الفكري-التربوي الخطير والسّام، ومن له باع وصبر على تحليل هذا المُحتوى بأدوات علمية سيلمس من دون عناء كبير ما الذي اقترفته هذه الدرامة "التوعوية " والتعبوية في آن معاً .

أي منتج درامي في العالم جُرعة ثقافية ما.
 

أعاقت التلفزة المُنتجات الثقافية الأخرى، تماماً كما تُعيق اليوم شبكات التواصل والإتصال التلفزة، وتحدّ من سيطرتها وسطوتها على المُستهلِك –المُشاهِد-المُتلقّي، وهذا عائد إلى " المُميّزات الإستثنائية! " للمجتمع كما يتم التعبيرعنها بكل فخر اليوم، فهذا " المجتمع" الذي يتباهى بمميّزاته الفريدة استطاع القضاء على السينما والمسرح، وكذلك على عادة القراءة واللجوء إلى الكتاب بالإستعانة بما تُقدّمه التلفزة له، التي حلّت برأيه محل كل هؤلاء.


مع العلم أنه قريباً ستكون التلفزة هي الضحية القادمة وقد بدأت بشائرها بالمثول أمام أعيننا، إن كان بواسطة الأون لاين دراما، أو كانت عن طريق شركات الكابل، التي تعرض مُنتجات مُتحرّرة من الرقابات، وهكذا تتحوّل خصوصية المُشاهَدَة ( أي الجلوس في المنزل) التي نشدها هذا " المجتمع" في التلفزيون المُراقب جيداً ( بدعوى خدش الحياء العام) من قِبَل الرقابات المُتعدّدة، تتحوّل إلى خصوصية فردية يمكن تلقّيها عبر أي نوع من الشاشات، وهو ما يُمثّل فداحة خسران المُنتجات الثقافية الأخرى (سينما مسرح كتاب) التي ستلتحق بها التلفزة قريباً، ليظهر فعل هذا التلفزيون ومُنتجاته الإعلامية والثقافية التي كان مصدراً تربوياً أساسياً، له توجّه ثقافي عام  ينتج منه سلوك إجتماعي عام  بغضّ النظر عن نوعية المُنتجات وقيمتها الفنية والإبداعية، وكذلك بغضّ النظرعن السيطرة الدكتاتورية للشاشة الجماعية التي تتميّز بصنع أنماط  من المستهلكين يعتمدون عليها في تبرير سلوكهم المُعادي للمُنتجات الثقافية الأخرى، وأمام تسمّرالملايين أمام الشاشات الفضية خوت دور السينما وقاعات المسارح ( أو أصبحت باهظة التكاليف) ، وصارت طباعة الكتاب إلى 1000 نسخة لكل قرّاء العربية. (بيروت ودمشق مثالان حيّان على هذه الحال ).

 

 وهنا لا بدّ من أن نتوقّف ملياً، أمام هذه النتائج ( التوعوية!) للتلفزة الناطقة باللغة العربية،خصوصاً المنتوج "الدرامي" ذو الشعبية والتأثير ألأكثر وضوحاً في الواقع .

 

تماماً مثل ردّة فعل غوبلز عندما يسمع كلمة ثقافة ، كانت ردود أفعال صُنّاع الدرامة التلفزيونية على أي يعمل يحوي على أي قَدرٍ أو جُرعة ثقافية مُختلفة ولو قليلاً عن  المعهود المطلوب، وهنا لا يمكننا إتهام هؤلاء الصنّاع أو المُتداخلين بالتصنيع "كالنّقاد"مثلاً، بعدائهم للثقافة بشكلها العام، ولا حتى بشكلها الخاص الذي يسمحون بتقديمه، ما يُتيح لهم ما يكفي من الذرائع لتسريب أنواع أخرى من الثقافة وكذلك السخرية منها، وهنا تنخلط الأشياء ببعضها لدرجة يتحوّل معها المسؤول إلى سائل،   وتتحوّل الأجوبة إلى أسئلة مُماحكة، فبالإضافة إلى الهُزء من "المستويات المتفذلكة" التي يقترحها أولئك المطالبون بمحتويات ثقافية، يسألك الصُنّاع (كجواب) وهل تعتبر أن مسلسلاُ مثل (صقر قُريش) أو (صلاح الدين ) أو (الأندلسيات) ليست مسلسلات ثقافية ؟ فيحارُ المرءُ جواباً، ليس بسبب الإفحام بهذا الجواب -السؤال الفهلوي، بل لإنه يفتح باباً على نقاش لا ينتهي حول ثقافة المعرفة وثقافة الجهالة، ففي المقام الأول والأخير كله ثقافة.

طبعاً ومن المؤكّد أن مسلسل مثل ( صلاح الدين ) وأمثاله من المسلسلات ليس عملاً ثقافياً ( بالمعنى المعرفي ) ،إذا شئنا التدقيق في الحوادث التاريخية بطريقة علمية أو معرفية، أو شئنا التدقيق بالرؤية الفنية الإبداعية وكذلك قراءته من زاوية من دون أخرى ، وأيضاً المحتوى التعبوي التكتيكي الذي لا يحسب حساباً لخطورة تعميم ثقافة قد تودي بنفسها وبأهلها إلى التهلكة أولاً، فالمُنتجات الثقافية هي سلع استراتيجية لا تحتمل هكذا خفّة في الرؤية، وإلا أصبحت تخريباً تربوياً مقصوداً .

 

لربما كان المُسلسل التركي يعبّر كخير مثالٍ عن (واهية) الدراما التلفزيونية التي ننتجها، فما أن ابتدأت المحطّات ببثها مُدبلجة حتى اجتاحت أرقام المُتابعين وأخذت وفورياً حصة من سوق البث، على الرغم من تهافتها إلى مستويات مُضحِكة، وهنا بالإمكان السؤال عما حقّقته الدرامة السورية وتوابعها، ما هو الوعي المُضاف الذي تسبّبت به؟ حتى لا تدع لدراما مثل الدراما التركية لتدخل كما السكّين باللبن بينها وبين مستهلكها، على الرغم من كمية الإنتاج الضخمة التي تحاول تغطية حاجة المحطّات المُلتهمة، وهو الفارق الذي لم يرافق دبلجة المسلسل المكسيكي وقتذاك، عملياً لا شيء سوى استثناء وحيد وهام هو إحترام هذه الدراما للمرأة بقدر أكبرقليلاً مما تحترمها الدرامات العربية، ففي الأساس لم تترك الدراما التي ننتجها معرفة أو علماً أو ثقافة للمُقارنة بين الدرامتين. وفي الأساس لم تتعامل هذه الدراما مع المُشاهد ككائن تربوي كي يقوم بفعل الإختيار  بل عاملته كمُستهلك بدائي مُحاصر بكل أنواع الحياء العام وهو مضطر لمشاهدتها كي لا يقع بالإثم.

 

بالتأكيد سنلحظ في أي مُنتج درامي في العالم جُرعة ثقافية ما، فهذه الأعمال مهما تهافتت  لا يكتبها الحكواتيون ، أو وليست نقلاً عن أفواه الجدّات وما يحمل هذا النقل من أقوال شعبوية مأثورة، حيث يمكننا الإطّلاع على وجود فرويد ، ومايكل أنجلو، وبيكاسو وغيرهم الخ، وكذلك مناقشة المشاكل الثقافية خصوصاً ما يتعلّق بالثقافة الحقوقية أو الطبية وغيرها إلخ، ولم تخرب الدنيا ولم ينخدش حياؤها العام، هذا البعبع الوهمي الذي نخاف منه. ولا يشفع لصنّاع الدرامة أن مُشاهدهم لا يفقه بهكذا أمور، ومن التعالي عليه استخدامها، بينما نفس المُشاهد يتلقّاها من هذا المنتوج الأجنبي أو ذاك من دون ( أن تأكل الناس بعضها ).

من الظلم طرح معيار النقص في مدارك صنّاع الدرامة التلفزيونية، فهم نجحوا في تصنيع مسلسلات حتى لو كانت على سبيل إرضاء الزبون الذي هو المحطّة الباثّة ومَن وراءها، وعلى الرغم من وجود الكثير من مظاهر هذا النقص ودلالاته، وأهم هذه الدلالات أن الدراما التلفزيونية تُصنع للتصدير كسلعة ثقافية تنويرية مُتقدّمة ، ولكن الذي يحصل هو عكس ذلك تماماُ فنحن مَن يستورد هذه السلعة على الرغم من كوننا صنّاعها، وفي هذا مفارقة مُحيّرة، وذات مؤشّرات أخرى، حيث لم نستطع تبيّن استراتيجياً ما، لأية شركة إنتاج أو مشروع واضح لمخرج من مخرجي هذه الأعمال وهذا على سبيل المثال لا الحصر أو التعميم، مكتفين من هذه المهنة الخطيرة التي قد تُسمّم ثقافة شعوب بأكملها، بقول محترفي تغسيل الموتى بأنهم لا يضمنون الجنّة لأحد. وعلى هذه العتبة بالذات تم بيع أبو خليل القباني وعبد اللطيف فتحي وتيسير السعدي ومحمّد الماغوط وعادل أبو شنب وعبد العزيز هلال ونهاد قلعي وغيرهم كرواد مؤسّسين للدرامة التلفزيونية ذوي رؤيا وتطلّع لتأثير تنويري على الشعوب الناطقة باللغة العربية.

 

لقد شاركت الدرامة التلفزيونية ثقافياً في هذا العُته والجنون الذي نراه اليوم يجتاح بلادنا، عبر مُحتواها الفكري-التربوي الخطير والسّام، ومن له باع وصبر على تحليل هذا المُحتوى بأدوات علمية سيلمس من دون عناء كبير ما الذي اقترفته هذه الدرامة "التوعوية " والتعبوية في آن معاً .