من الضاحية الجنوبية لبيروت: "الأرض لأهلها"

 في زمنٍ يشتدّ فيه الحصار الاقتصادي وتتصاعد الاعتداءات على الجنوب اللبناني، يولد من قلب الصمود معرض "سوق أرضي" ليحوّل الألم إلى إنتاج، والخراب إلى أمل، مؤكّداً أنّ الأرض ما زالت تنبت خبزاً وكرامة رغم الحرب.

  • "سوق أرضي" يعيد الحياة إلى القرى اللبنانية (موقع العهد)

تنبض الضاحية الجنوبية لبيروت بالحياة من جديد. فبعد عامين من العدوان الإسرائيلي، عاد معرض "سوق أرضي" ليملأ مجمع سيّد الشهداء برائحة الأرض وعبق الزعتر والعسل ودبس العنب، وبأصوات المزارعين والحرفيين الذين حملوا معهم أكفّاً أنهكتها الأرض لكنها لم تتركها.

لم يكن هذا المعرض مجرّد فعّالية اقتصادية، بل فعل إيمانٍ بالحياة. في بلدٍ أنهكته الأزمات، يقف اللبناني — وخصوصاً الجنوبي والبقاعي — ليقول من خلال منتجاته، إنّ الخبز  يولد من الأمل والتمسّك بالأرض، وإنّ الزراعة نفسها يمكن أن تكون مقاومة.

الأرض التي تصمد رغم النار!

على خطوط الزيتون الممتدة من الخيام إلى بنت جبيل، كان الاحتلال الإسرائيلي يضيّق الخناق هذا العام أكثر من أيّ وقت مضى.

الاعتداءات على الحقول الجنوبية، ومنع المزارعين من جني محاصيلهم، وحرمانهم من الوصول إلى أراضيهم، لم تكن مجرّد انتهاكات ميدانية، بل جزءاً من سياسة تجويع ممنهجة تستهدف صمود الناس في أرضهم.

في بيروت، وُلد مشهدٌ معاكس: "سوق أرضي" يعود، ليحوّل الحصار إلى مساحة إنتاج، والعدوان إلى موسم حياة، بمشاركة 1000 منتج من كلّ المناطق اللبنانية.

الدكتور علي زعيتر، مدير المعرض، وصف الحدث بأنه "تحدٍّ اقتصادي واجتماعي في وجه العدوان"، مؤكّداً  أنّ إقامة المعرض في هذه الظروف "إنجاز بحدّ ذاته، ورسالة للعدوّ بأنّ من حاول تدمير الأرض، يراها اليوم تُثمر بجهود أبنائها".

وأشار زعيتر إلى أنّ نحو 50% من العارضين هم من مناطق الجنوب، ولا سيما من الحافة الأمامية وجنوب الليطاني، موضحاً أنّ المشاركة "هي فعل مقاومة بقدر ما هي فعل إنتاج"، وأنّ "الإنتاج والبيع والتسويق والمشاركة في المعرض نوع من الجهاد المكمّل للجهاد العسكري والأمني الذي خاضه المقاومون في معركة أولي البأس".

 ويبدو حقاً،  أنّ المعرض ليس حدثاً اقتصادياً فحسب، بل هو جزءٌ من الشبكة الاجتماعية التي تشكّل العمود الفقري للجنوب وللبنان بعد كلّ عدوان. إنها مقاومة تزرع وتخبز وتحوّل الألم إلى عمل.

إرادة الحياة في وجه الحرب الاقتصادية

المعرض الذي نظّم للمرة الأولى عام 2007،  افتتحه الأمين العامّ لحزب الله الشيخ نعيم قاسم  منذ أيام، وسط حضور جماهيري وشعبي لافت.

في ممرات الأجنحة، تحدّث النائب حسين الحاج حسن بعد قصّه للشريط عن "إرادة الحياة في وجه الحرب الاقتصادية"، مؤكّداً أنّ إقامة هذا المعرض "تعبّر عن صمود اللبنانيين، وخصوصاً أبناء المناطق التي واجهت العدوان".

ويضيف: "هذا المعرض لا يقتصر على عرض منتجات غذائية أو حرفية، بل هو فرصة عمل لمئات العائلات التي تصنع بيديها قوتها. العمل المنتج هو أحد أشكال المقاومة في وجه الحرب الاقتصادية التي تُشنّ على بلدنا".

كلمات الحاج حسن تختصر مدرسة "سوق أرضي": أنّ العمل ذاته، في ظلّ الحصار، يتحوّل إلى شكلٍ من أشكال المقاومة.

  • شعار المعرض 2025
    شعار المعرض 2025

حين يُحرم الجنوب من زيتونه وقمحِه، يصبح كلّ مرطبان مربى يُباع في بيروت انتصاراً صغيراً على العدوان، وكلّ عائلة تزرع أو تخبز، جبهة بحدّ ذاتها.

التنمية كجهادٍ من نوع آخر

الدكتور محمد الخنسا، مدير عامّ مؤسسة جهاد البناء، قال للميادين إنّ تنظيم المعرض هذا العام "تأكيدٌ على أنّ مسيرة التنمية والإنتاج في لبنان لا تتوقّف مهما اشتدّت الحروب".

الخنسا، الذي يقود واحدة من أبرز المؤسسات التنموية في بيئة المقاومة، قال: "من خلال رعايتنا ودعمنا لهذا المعرض، نسعى إلى تعزيز الاقتصاد المقاوم القائم على الإنتاج المحلي، وإتاحة الفرصة أمام العائلات المنتجة والحرفيين والمزارعين لتسويق منتجاتهم وتثبيتهم في أرضهم".

حين تزرع امرأة من الجنوب الزعتر وتبيعه في بيروت، فهي لا تساهم في الناتج المحلي فحسب، بل تكتب فصلاً جديداً من تاريخ المقاومة الاجتماعية.

السوق كفضاء للذاكرة والهوية

على مساحة المعرض، تتوزّع الأجنحة كما تتوزّع جغرافيا لبنان نفسه: الجنوب والبقاع والشمال وجبل لبنان.

من هنا رائحة الصعتر والزيت، ومن هناك حلاوة دبس العنب وكشك البقاع. في الأجنحة المقابلة مشغولات من الخشب والنحاس والفخار والنسيج، تشبه بيتاً لبنانياً مفتوحاً على ذاته..

هذه المشاهد ليست مجرّد عرضٍ لسلع، بل عرضٌ لهويةٍ كاملة، لهوية الريف الذي قاوم بالحجر والقمح والمونة.

في الأرقام، يشير الدكتور زعيتر إلى أنّ المشاركة هذا العام زادت بين 15% و20% مقارنة بالأعوام السابقة، سواء من حيث عدد العارضين أو حجم السلع أو نوعيّتها.

نحو 80% من المشاركين قدموا من الجنوب والبقاع، في وقتٍ ما زالت القرى الجنوبية تحت وطأة القصف أو الخطر.

إنها مفارقة لافتة: في حين يزرع العدو الدمار، يزرع الجنوبي البقاء.

النساء… وجه الصمود الهادئ

لم تكن النساء في "سوق أرضي" مجرّد مشاركات، كنّ عموده الفقري. نسبة كبيرة من التعاونيات الزراعية كانت تديرها نساء من القرى الجنوبية والبقاعية، كثيرات منهن خضن تجربة التصنيع المنزلي والتسويق للمرة الأولى.

تقطف النساء الزعتر والمريميّة، يحضّرن الكشك والمربى، يعرضنه في أجنحة السوق، ويبعنه بأيدٍ تعرف قيمة ما صنعت.

هكذا يتحوّل الإنتاج إلى فعلٍ تحرّري، والمونة — تلك التي كانت يوماً مخزون الشتاء — تصبح اليوم رمزاً للبقاء والسيادة الغذائية.

الزراعة المقاومة والاقتصاد المحلي

في بلدٍ يعاني من انهيار العملة، يصبح إنتاج الغذاء محلياً نوعاً من التحرّر الاقتصادي والسيادي، وهنا نتذكّر أنّ سيد شهداء الأمة السيد حسن نصر الله دعا عام 2020  وخلال كلمته في افتتاح المعرض إلى "الجهادَين الزراعي والصناعي".

ما يميّز "سوق أرضي" هو أنّ كلّ جناح فيه يحكي قصة. كلّ منتج هو حكاية عن بيتٍ أو قريةٍ أو أمٍ علّمت أبناءها كيف يحافظون على نكهة الأرض.

حتى التعبئة والتغليف باتت جزءاً من الإبداع: تصميمات حديثة تعبّر عن التزاوج بين الأصالة والتجديد، وعن إصرار اللبناني على جعل منتوجه قابلاً للتصدير لا للزوال.

في هذا المشهد، يصبح سوق أرضي ليس مجرّد سوق، بل مساحة ذاكرة جمعية — مكاناً يلتقي فيه الاقتصاد بالثقافة، والمنتج بالهوية.

اقرأ أيضاً: معرض "أرضي" من كل لبنان: عطاء يواكب المقاومة

وهكذا، يصبح "سوق أرضي" أكثر من معرضٍ سنوي، إنه بيانٌ جماعيّ بأنّ الحياة أقوى من الحرب، وأنّ لبنان أقوى رغم كلّ الضغوطات.

 

 

 

اخترنا لك