الكذب والد الشيطان وأكثر ذريته شبهاً به
هو تلك الجريمة التي لا تمحى. أم كل الشرور. مصنع الآفات والانحرافات. هو مفاعل تخصيب الشر وتعميمه. وهو أيضاً بيت الشيطان الأكثر أمناً. والدته ووالده وذريته. فالشيطان يكمن في تفاصيل الكذب، ومنها يخلق عالمه المراد. يحجب فيه النور عن الناس، ويذرّ في أعينهم بهرجاً يسميه الحقيقة. فيتناقل هؤلاء الزيف على أنه نواة النواة الصلبة للحقيقة. فيقتُلون ويُقتلون باسمه ولأجله. ويرزح العالم تحت نير هذا الضلال.
الأول من نيسان يحتفل به كيوم للكذب الأبيض
إذا أنت كذبت، فإنك تصنع
عالماً زائفاً من التفاصيل التي تأخذ الناس في مسارات غير صحيحة. وتفضي إلى مآلات
لا منطلق لها. وتخترع محطات وصول لطرقٍ لم توجد أصلاً.
وأنت حين تُحرّف واقعاً أو
تاريخاً، تفتح فرعاً من الطريق ليأخذ السائر إلى غير محطة الوصول التي يتطلع إلها.
هو يقصد شيئاً، وأنت تجني عليه وعلى الحقيقة وتأخذه إلى حيث لا يريد.
وإذا ما ربطنا ذلك كله
بندرة الوقت، فإنك ترتكب بالكذب جريمة إضاعة أعز ممتلكات الإنسان، وقته الذي به
يصنع إما خيراً وإما شراً. وهو إذا بنى على ما تصوره له كذباً، لن ينتج غير الشر.
لكن الكارثة ليست في
الكاذبين الواضحين. بل إنها في ألباب المضلِّلين. الذين يلبسون لبوس المخدوعين، ثم
يخدعونهم. فالمسألة في الذئب الذي يلبس لبوس الخراف. ما تعرف حقيقته لا يخيفك،
وقدرته على الأذى تبقى محدودة. أما الأذى الفتّاك فيكمن في الخروف المستذئب الذي
لن تعرفه إلا حين يغرز أنيابه في عنقك.
كلنا نكذب
ليت أبواب الأول من
نيسان-أبريل تقفل على الكذب، فلا يتعدى هذا النهار إلى الأيام الأُخر. ولكن الكذب
يعيش بيننا وفينا، يمارسه أسوؤنا كنظام حياة اتكالاً على العبث، ويمارسه أفضلنا من
دون دراية، على أن نقيضه يمنع من الحياة الطبيعية.
هل لك أن تقول لمن يجامل
كاذباً: أنت تكذب؟
هل لك أن تصدّ من يضيف إليك
صفةً إيجابية ليست منك: أنت تكذب فأنا لست كذلك؟
هل لك أن تفضح ضحكة صديقٍ
لصديقه الذي لا يطيقه؟
هل بمقدورك أن تقول لمن
بيده مصيرك: أنت مخطىء؟
هل تستطيع أن تقول
للمتناقض: أنت إما خفيفٌ تميل الريح، أو أنك كاذب ترمي غباراً في أعين الآخرين؟
أتقول لمن يستفسر غيابك عنه؟
بكل بساطة واعتيادية، لم أطق رؤيتك اليوم.
هل بإمكانك ألا تكذب على من
يسألك ببساطة: كيف الحال؟
في الحب
أن تكذب في الحب، يعني أن
تخترع عالماً من التفاصيل الوهمية. عالم يعيش فيه الطرف الآخر على أنه حقيقة.
بشواهقه وانحداراته. جباله وأشجاره. وروده وأشواكه. قيظه وثلجه. اختناقاته ونسماته
الخفيفة المشبعة بدقائق بلورات الثلج. ثم فجأة تفقأ عين هذا العالم بإبرة الواقع.
فينفجر متلاشياً كفقاعة صابون ملونة. اختفت صورةً، وبقي ألق ذكراها. كيف راحت؟
تبخرت. لم تكن حقيقة؟ كانت. كانت حقيقةً مفتعلة. أي كانت كذباً.
بعد الكذب لا يعود العالم
كما كان قبله. مهما كان طفيفاً. فأثر الفراشة يقول فيما يقوله إن ذرة الكذب عند
نقطة X، يمكن أن تصنع عالماً كاملاً منه في X+الزمن. فهل
يتحمل الكاذب مسؤولية العوالم التي أنتجها بكذبته بكل مضامينها؟ شرورها وتقواها؟
في العائلة
وفي العائلة. أن تقول لأبيك إنك تنجح في
الجامعة. معناه أن تخلق له عالماً من الخيالات الفرحة. كأن يراك ترمي إلى الأعلى
قبعةً سوداء تطير معها همومه. وأن تكذب في ذلك، معناه أن ترمي إلى الهاوية كل
أحلامه وتضع على رأسه قبعةً من الهموم السوداء.
أن تكذب كذبة بيضاء في
الأول من نيسان، يعني أن تعترف فقط في هذا اليوم أنك تكذب. وهذا بحد ذاته كذبة
أخرى. نحن نكذب كل يوم. نكذب إن أخفينا حبنا لمن نحبهم. ونكذب إذا أظهرنا حبنا لمن
لا نحبهم. ونكذب إذا سمحنا لواقع غير حقيقي أن يبدو حقيقياً لشخصٍ ما.
في العمل
وفي العمل، فإن الكذب هو أن
لا يؤدى العمل وفق أصوله. أي لا تؤدى مسؤولية الفرد تجاه المستفيدين من عمله، وأولهم
نفسه. أن يقوم النجار في صنع بضاعةٍ زائفة على أنها خلاصة النجارة. وأن ينصاع
الحدّاد لصلابة الحديد، فلا يؤدي مراد الكفاءة، وأن لا يخرج الجماد من تحت يديه
تحفةً للناظرين. ثم أن يقول إنه فعل. فالكذب في الفعل هو عين الكذب، أما القول
الكاذب فهو آخر مطاف الكذب هنا، ومحطته الأخيرة. إعلانه وحفل تنصيبه.
في الإعلام
في الإعلام. هنا يصير للكذب مهنة. فتتحول
المهنة المقدسة عند من لا يقدسها إلى صنعة الكاذبين (إلا من صدقوا وآمنوا بالرسالة
وهم بحمد الله موجودون). يعني أن يتحول الإعلام إلى اختلاق الحدث، أو فبركة
السياق، أو خلط هذا بذاك، ثم أخطر مراحله تكون بأن يستغل الإعلامي عدم إلمام
الجمهور بالوسيلة، فيبين ما هو غير واقعٍ على أنه وقع فعلاً.
غير أن الدارج الآن أخطر من
الاختلاق. بل أن يتحول الإعلام إلى ما يشبه هندسة الضوء. فيصبح الإعلامي مهندس
إضاءة يحجب عيون الناس عن الذي يريد تغييبه عن وعيهم، ويبالغ في حشد الضوء أمام
المشهد الذي يريد ترسيخه.
في السياسة
أما في السياسة فإن الكذب
يدخل في لغتها حتى لا تستطيع فصله عن مفرداتها الأخرى. هو يدخل في تراكيبها
كضرورة، ويُعطى مبرراته المنزهة. المصلحة الوطنية. المصلحة الحزبية. مواجهة العدو،
وغيرها...
كيف يمكن تخيل السياسة
خالية من الكذب. كأن تحكي إسرائيل الأشياء على حقيقتها مثلاً: أتينا إلى هذه
البلاد كمشروع تعويض عن أخطاء الغرب معنا، لنؤدي خدمات لهذا الغرب. نبني منطقنا
على الكذب، وهدفنا أن لا تقوم لشعوب المنطقة قائمة.
ماذا إذا لم تكذب إسرائيل
بشأن أطماعها؟ ماذا إذا قالت أميركا إنها لا تريد ديموقراطية في العالم؟ بل إن
المسألة هي فقط مسألة سرقة ثرواتٍ وسيطرة، ومنع الدول من الإمساك بمصائرها
الاقتصادية والسياسية؟
ماذا إذا سقطت عندنا كذبة أنه
لا يمكن الجمع بين الديموقراطية ومواجهة إسرائيل؟
ماذا إذا سقطت كذبة أن 280
مليون عربي غير قادرين على تشكيل مجتمع حرب بوجه 7 ملايين إسرائيلي؟
ماذا إذا سقطت كذبة أن
السنة والشيعة أعداء؟ وأن المواجهة دينية؟
ماذا إذا قال مدير الغرفة
السوداء: حسناً لنقل الحقيقة. نحن لا نريد لكم أن تتحدوا. لأن بين أيديكم مساحة ما
بين المغرب وإندونيسيا، وعددكم يصل إلى مليار و700 مليون نسمة، وبلادكم تختزن خيرة
ثروات الأرض، ولديكم أفكار عقائدية حركية تلهب المجتمع نشاطاً إذا ما تركتم لإدارة
شؤونكم، وتاريخكم زخرٌ لكم، فيه ما يضيء الطريق أمامكم لتصبحوا قوةً عظمى. ونحن لا
نريد لكم ذلك. ليس كرهاً بكم بالضرورة، بل إن مصلحتنا تقتضي ذلك.
ماذا إذا خلت الخطابات مما
يقال للاستهلاك اللحظي؟ ماذا إذا قال الخطيب ما يدور في خلده فعلاً؟ هل لك أن
تتخيل الأفكار التي تدور في رأسك منقولةً على لسانك؟ بكل غرابتها وجموحها وجنوحها
إلى الأقاصي المتقابلة. بل هل يمكن أن تستمر الحياة من دون كذب؟