خمسون عاماً على النكسة

قبل أكثر من خمسين عاماً أقلعت طائرات إسرائيلية من قاعدة القوات الجوية الإسرائيلية، لتُباغت الطائرات المصرية التي لا تزال رابضة في مطاراتها، نفّذ سلاح الجو الإسرائيلي واحدة من أشهر الخطط التي كان يتدرّب عليها منذ سنوات، والتي كانت تهدف إلى ضرب جميع القواعد الجوية المصرية في آن واحد معاً.

قبل أكثر من خمسين عاماً أقلعت طائرات إسرائيلية من قاعدة القوات الجوية الإسرائيلية
" في الوقت الذي بدأت فيه الحرب، لم يكن هناك أي قائد في موقعه، حتى أن المشير عبد الحكيم عامر كان في الجو مستقلاً طائرته، وهذا يفتح سيلاً من الاستفسارات هل أن إسرائيل كانت على علم باجتماع القادة؟ وهذا يؤكّد ضرورة فتح بحث وتحقيق شامل في ماذا حصل في حرب 1967؟" شهادة رئيس أركان حرب القوات المسلّحة المصرية سعد الدين الشاذلي إبان حرب أكتوبر والذي شغل رتبة لواء في حرب 67 لم تختلف كثيراً عن شهادة اللواء صلاح الدين سليم الذي قال "رأيت الطائرات الإسرائيلية فوقي من دون صفّارة إنذار واحدة تُطلق قبل وصول هذه الطائرات"، تفتح هذه الشهادات سيلاً من الاستفسارات عن أحداث ما سُمّي آنذاك بنكسة 1967 التي بقيت غامضة، غموض توراثته مؤسسات الحكم في الدول العربية، فيما تظل حرب الأيام الستة تسكن ملفوفة بالدم في صدور كثيرين ممن عاشوا تفاصيلها في ذلك الوقت ومن ورثوا تداعياتها حتى اليوم.

 قبل أكثر من خمسين عاماً أقلعت طائرات إسرائيلية من قاعدة القوات الجوية الإسرائيلية، لتُباغت الطائرات المصرية التي لا تزال رابضة في مطاراتها، نفّذ سلاح الجو الإسرائيلي واحدة من أشهر الخطط التي كان يتدرّب عليها منذ سنوات، والتي كانت تهدف إلى ضرب جميع القواعد الجوية المصرية في آن واحد معاً. في غضون ثلاث ساعات دمّر سلاح الجو المصري تماماً وضاعت أكثر من 280 طائرة نفّاثة وأخرى قاذفة للقنابل، فيما استلزم تدمير سلاح الجو السوري ساعتين فحسب وإبادة الأردنيين تسع دقائق أخرى. نتج من هذه الضربات المتلاحقة احتلال سيناء بالكامل والجولان السوري ومناطق الضفة والتي كانت تحت سيطرة الجيش الأردني، وقطاع غزّة والذي كان تحت سيطرة الجيش المصري. اعتبر الجانب العربي ما حدث نكسة تاريخية فيما تحوّل وجه العالم العربي تحوّلاً راديكالياً بعد هذه النكسة.

هذا المقال يُلخّص في جانب من جوانبه مدى انقلاب المشهد السياسي في العالم العربي، فيما تظلّ نكسة على عظمتها فصلاً صغيراً من فصول الصراع العربي الإسرائيلي.

نكسة 1967: عودة إلى الوراء

تسبّبت نكسة 1967 أو حرب الأيام الستة في انهيار أكثرمن 80 % من القدرات العسكرية العربية بشكل مباشر
تسبّبت نكسة 1967 أو حرب الأيام الستة في انهيار أكثرمن 80 % من القدرات العسكرية العربية بشكل مباشر، فيما لم يفقد الكيان الصهيوني سوى جزء بسيط من قدراته العسكرية يتراوح بين 2 و5% بالمائة، كما أستشهد في هذه الحرب ما بين 15 و25 ألف جندي عربي، فيما لم تتجاوز خسائر الأرواح في إسرائيل 800 قتيل. إضافة إلى ذلك تمكّن الصهاينة من أسر ما يُقارب من 5 آلاف أسير وتهجير أكثر من 300 ألف عربي من المناطق التي سيطروا عليها، والتي تصل إلى ما يُقارب 69347 كلمتراً مربعاً وهي شبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان السوري والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزّة ونهب ثرواتها. كل هذه النتائج العسكرية التي أسفرت عنها هزيمة يونيو/ حزيران 1967 من غير المؤكّد على الأقل في المستقبل المنظور أن تتوقّف تفاعلاتها، لأن اختلال موازين القوى الناجم عن تلك الحرب لا يزال متحكّماً في الكثير من معادلات المشهد السياسي العربي حتى الآن، لكن رغم ذلك ولِدت من رحم هذه النكسة نتائج يمكن أن يقال إنها إيجابية ساهمت في إحداث بعض التغيير. 

الارتددات السلبية للنكسة

كانت هزيمة 67 سبباً في حدوث شرخ كبير في المشروع القومي العربي
·1967 التاريخ الحقيقي لنشوء إسرائيل:

 عندما نقارن بين حربي 1948 و1967 وبين خسائر إسرائيل في الحربين نقتنع تمام الاقتناع أن تاريخ نشؤء إسرائيل الحقيقي كان بعد هزيمة 67 وليس قبلها. بالرغم من انتصارها في حرب 48 لم تكن إسرائيل في نظر ما يُعرف آنذاك بـ "يهود الشتات" سوى مشروع غير مستقر يطوّقه الأعداء من كل جانب نظراً للخسائر الكبيرة التي تكبّدتها في تلك الحرب والتي تتجاوز خسائرها في جميع الحروب الأخرى. النكسة التي كانت انتصاراً كبيراً بالنسبة للإسرائيليين في الداخل، أقنعت اليهود في الخارج بأن الكيان المحتل تحوّل من مغامرة إلى مشروع مضمون، وتدفّقت الاستثمارات من الخارج وتكثّفت الهجرة وانتقلت إسرائيل في تلك المرحلة من اقتصاد القطاع العام التعبوي الاستيطاني إلى الليبرالية الاقتصادية، ما دفع الولايات المتحدة إلى إمضاء تحالف استراتيجي معها نتج منه تدفّق المعونات والاستثمارات والأسلحة.

·تصدّع المشروع القومي وبروز التيّارات الإيديولوجية

كانت هزيمة 67 سبباً في حدوث شرخ كبير في المشروع القومي العربي الذي كان يتصدّر واجهة الصراع العربي الإسرائيلي حسب أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد فواز جرجس الذي أكد أن "هزيمة العرب في حرب حزيران/يونيو 1967 التي تلتها وفاة جمال عبد الناصر عام 1970، شكّلت الضربة القاضية التي أنهت القومية العربية".  ويقول الكاتب والصحافي التونسي أحمد نظيف " يمكن القول إن نكسة 67 قد أضرّت بالمشروع القومي ودعمت الملكيات التي أصبحت أكثر تماسكاً، إضافة إلى أنها زادت من قوة التيار الذي كان ينادي بالموافقة على قرار التقسيم الذي أقرّته الأمم المتحدة، والذي كان يتزعمه الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة".

 تراجع المشروع القومي العربي أفسح المجال لبروز الإسلام السياسي، وبدأ الخطاب الطائفي يجد موطئ قدم شيئاً فشيئاً في الجامعات إلى أن وصلت في العام 1974 إلى جميع أنحاء العالم العربي بعد أن برزت بعض المفردات الطائفية المعروفة وقتها، وهي "أن الله عاقبنا بالهزيمة لأن القومية كفر"، والتي كان مصدرها بعض الجماعات المتطرّفة الإسلامية في مصر وسوريا، حتى أن بعض المفكّرين الذي كانوا قوميين قبل الحرب أصبحوا إسلاميين بعد الحرب، مثل المفكّر منير شفيق. لكن أحمد نظيف الكاتب التونسي يشير إلى عنصر آخر كان مهماً ومساعداً لخروج مصر من المشروع القومي، وهو التكوين النفسي والشخصي لأنور السادات الذي كان انعزالياً ورافضا لكل مشاريع الوحدة.

· بداية انحسار النفوذ السوفياتي وبروز فكرة "الجيش الذي لا يُهزم"

مثّلت هزيمة 67 صدمة للشعب العربي عموماً وللمصري والسوري خصوصاً، هذه الصدمة ساهمت في تطوّر حركة هجرة الشباب نحو أوروبا بسبب التجنيد القصري الذي فرضته كل من مصر وسوريا وقتها. قبل الحرب كانت هناك دعاية سياسية تكوّنت في كل من مصر وسوريا أحد أكبر أطراف الصراع تقول بأن "الجيوش العربية ستُلقي إسرائيل في البحر". كما كانت الأنظار العربية متّجهة صوب تل أبيب بانتظار اول جيش عربي سيدخلها، لكن ما حدث بعد ذلك خلق نوعاً من الصدمة النفسية لكل سكان الوطن العربي  ما ساعد في تفشي فكرة أسطورة الجيش الإسرائيلي، والذي احتل في أقل من 5 أيام ثلاثة أضعاف الأرض التي يسيطر عليها/ وهو ما أثّر على كل فصول الصراع العربي الإسرائيلي، لكن صورة الجيش الإسرائيلي "الأسطورة" قد تم تدميرها مراراً بداية بانتصار أكتوبر 73 وصولاً إلى انتصار مايو أيار 2000 على يد المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان وحرب تموز 2006. 


 إضافة إلى ذلك انحسر نفوذ الاتحاد السوفياتي (الذي كان حليفاً لمصر وسوريا، وكان له دور كبير في تعديل ميزان القوى) في المنطقة على الأقل في مصر بعد ما طرد السادات أكثرمن 20 ألف خبير روسي أتوا لتدريب الجيش المصري على أسلحته السوفياتية الجديدة التي طلبها جمال عبد الناصر، استعداداً لخوض معركة تحرير الأرض فى 6 أكتوبر 1973، وذلك فى سياق عمق العلاقات بين البلدين في خمسينات وستينات القرن الماضي، وتتجلّى أهمية الحليف السوفياتي في بناء السد العالى ومئات المصانع، أبرزها مصنع الحديد والصلب في حلوان.لكن بعد التغيير الذي أحدثه السادات في مشهد التحالفات والسياسات الخارجية المصرية تغيّرت طبيعة الاقتصاد المصري الذي توجّه نحو إقتصاد السوق، بدأت علامات حول توجّه مصر نحو الديون والمساعدات، ما خلق وضعية إقتصادية صعبة كانت من الأسباب العميقة وراء إمضاء اتفاقية كامب دايفيد للسلام.

الارتدادات الإيجابية للنكسة

ظهر تنسيق أكبر على مستوى العمل العربي لمواجهة العدوان وإعادة بناء جبهة المواجهة
· ظهور الحركة الوطنية الفلسطينية

ظهرت النواة الأولى للحركة الوطنية لتحرير فلسطين قبل النكسة بعد إطلاق الكفاح المسلّح عام 1965 ولكنها تعزّزت وتطوّرت بعد الهزيمة. بدأ الفلسطينيون رويداً رويداً التخلّص من وصاية الأنظمة العربية، ليقوموا في عام 1969 بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي أنشأتها في الأصل جامعة الدول العربية.

ودخل الفدائيون الفلسطينيون في صراع مع المملكة الأردنية واضطروا لمغادرتها بعد معارك أيلول/سبتمبر 1970. جعلوا بعدها من لبنان قاعدتهم الرئيسية قبل أن تطردهم إسرائيل منه في عام 1982. نكسة 67 كانت سبباً لتعاظم شوكة المقاومة الفلسطينية بعد أن فشلت في جعل الأراضي الفلسطينية أرضية للكفاح المسلّح، ففي 21 آذار مارس 1968 خاضت الفصائل الفلسطينية معركة الكرامة في غور الأردن والتي شاركت فيها تشكيلات من الجيش الأردني، أسفرت المعركة عن تكبيد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة نسبياً على الرغم من نجاحه في تدمير قاعدة المقاتلين الفلسطينيين في البلدة.

هذه المعركة خلقت رؤية جديدة في الصراع العربي الإسرائيلي وهي أن مواجهة إسرائيل بالفصائل والحركات أجدى من مواجهتها بالجيوش النظامية طالما تتلقّى دعما من القوى العالمية.

· انتصار 73 نتيجة لنكسة 67

يقول سعد الدين الشاذلي في كتابه "مذكرات حرب أكتوبر" "لم يكن انتصار أكتوبر سوى محاولة لتفادي أخطاء حرب 67»، عقب النكسة شرعت الجيوش العربية مباشرة بإعادة البناء فيما برز بموازاة ذلك نوع من التنسيق السوري المصري الذي نجح في إعداد خطة مشتركة تسمّى المآذن العالية، هزيمة 67 كانت سبباً في أن يكون لقائد أركان القوات المسلحة المصرية رؤية صحيحة للجيش الإسرائيلي، نتجت عن وضع  خطة مشتركة تقضي بالدخول إلى سيناء مسافة 12 كلمتراً تحت مظلّة الدفاع الجوي الذي هو بدوره تسبّب بإسقاط عدة طائرات لإسرائيل في تلك الحرب، وأسترجاع الجولان السوري المحتل. قبل ذلك كان لتنسيق عربي محكم أن يتسبّب بـ "صدمة نفطية" للغرب والتي كانت نتائجها جيّدة في ممارسة ضغط كبير على إسرائيل والولايات المتحدة، ويجعل العرب في موقف قوة للتفاوض . لكن تدخّل السياسة في القرارات العسكرية جعل السادات يقرّر تطوير الهجوم ما نتج منه تدمير اللواء المصري بالكامل وإحداث ثغرة جعت انتصار أكتوبر منقوصاً حسب العديد من الخبراء لأنه لم يستكمل أهدافه كاملة وأهمها تحرير الجولان السوري المحتل.

· تطوّر التنسيق العربي

بعد الهزيمة، ظهر هناك تنسيق أكبر على مستوى العمل العربي لمواجهة العدوان وإعادة بناء جبهة المواجهة، فتم بعث مجلس وزراء الدفاع العرب إضافة إلى إنشاء القيادة العربية الموحّدة، كما ظهر مصطلح جديد بعد النكسة وهو "قومية المعركة" بمعنى أن الصراع العربي الإسرائيلي لم يعد معركة وجود بقدر ماهو معركة ردّ الاعتبار للشعوب العربية. التنسيق العربي لم يقف عند هذا الحد بل تمكّنت الدول العربية من إنشاء صندوق يقع تمويله من جميع الدول العربية وتتحدّد المساهمات فيه حسب قوة كل دولة، ويُسمّى "صندوق المعركة"، وتخصّص عائدات هذا الصندوق لتمويل دول الطوق والمواجهة مثل مصر وسوريا والأردن. ويقول الصحافي والباحث في الصراع العربي الاسرائيلي وجدي بن مسعود "كانت الجزائر تشتري القمح من الولايات المتحدة وترسله إلى مصر وسوريا في إطار مساعدة دول الطوق، وعندما علمت الولايات المتحدة بالموضوع ألغت اتفاق القمح مع الجزائر ما دفع الاتحاد السوفياتي إلى تصدير جزء من احتياطاته من القمح إلى مصر وسوريا، ما يؤكّد على أهمية دور الاتحاد السوفياتي في هذه المعركة".

لا تزال نكسة 67 بكل ما تحمله من سيّئات طحنت قلوبنا وإيجابيات لم تدم طويلاً تسكن ملفوفة بالدم والحزن في صدور من عايشوها، ولا يزال الصراع العربي الإسرائيلي قائماً على الأقل مع ما تبقّى من الشق الأول من الصراع الذي أنهكته الفتن والحروب الداخلية، ومندثراً مع شق آخر ضائع وسط سحابات ما يوصف بالسلام وراء ضهور أجيال متعاقبة، ولاتزال كلمات أمل دنقل أكثر شرفاً من مفاوضات السلام المزعوم الذي رمى بنا في متاهة اللا سلم واللا حرب.

"هؤلاء الذين تربّوا على فلسفات الغرب لا يحترمون عدواً ضعيفاً، والضعيف هو من له حق ولا يصرّ على حقه، ونحن لنا عندهم ألف حق وحق، وما كنا بأمّة ضعيفة بل كنا أحسن أمّة أخرجت للناس، سيقولون ها نحن أبناء عم، سيقولون جئناك كي تحقن الدم، كن يا أمير الحكم، كيف تخطو على جثة إبن أبيك وكيف تكون المليك على من حكموك، كيف تنظر في عيني إمراءة أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها".