حركتا فتح وحماس: صراعٌ على سلطة تحت الاحتلال

اتّخذ صراع حركة فتح مع حماس أشكالاً مختلفة، وتراوح ما بين حرب إعلامية مُتبادلة بين الطرفين، ومناكفات على المستوى الإداري الحكومي، حتى وصل إلى المواجهات واستخدام القوة والعُنف. قيادات التنظيمات الفلسطينية في السجون الإسرائيلية قامت ببلورة وثيقة الأسرى، والتي جاءت كخطوة لتوحيد الرؤية السياسية للقوى الفلسطينية.

لقد شهدت الساحة الفلسطينية مرحلة اقتتال وصِدام دام
انتقلت حركة حماس من المعارضة للحكم عبر مشاركتها في الانتخابات التشريعية الثانية عام 2006، حيث كلّف الرئيس عباس إسماعيل هنيّة بتشكيل الحكومة العاشرة (27/3/2006-17/3/2007) عبر المرسوم الرئاسي رقم (9) لعام 2006، وذلك بناء على فوز حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي الذي أهّلها لتشكيل الحكومة. فقامت حماس بتشكيل الحكومة العاشرة منفردة من لون سياسي واحد، بسبب رفض باقي الفصائل المشاركة فيها، حيث لم تستطع التوصّل إلى حل يُرضي جميع الأطراف بتشكيل حكومة من كافة الأطياف السياسية، ما أدّى إلى نشوب خلافات حادّة بين حركة حماس وحركة فتح.

فحركة فتح لم تستوعب خسارتها الفادحة في الانتخابات، فهي لم تتعوّد على أن يشاركها أحد في الحكم، وعليه لم يكن بمقدورها العمل تحت مظلّة حركة حماس في الحكومة، فقرّرت عدم المشاركة في الحكومة والاكتفاء في انتظار فشل حماس في الحكم، والمراهنة على أن حماس لن تستطيع تحقيق برنامجها الحكومي في ظل المواقف والضغوط الإسرائيلية، والإقليمية، والدولية.

فأصبح النظام السياسي يحتوي برنامجين مختلفين لحزبين مختلفين، الأول لرئاسة السلطة وهو برنامج حركة فتح، والثاني لرئاسة الحكومة والمجلس التشريعي وهو برنامج حركة حماس. إن فشل حماس في تشكيل حكومة وحدة وطنية أثّر بشكل سلبي على المجتمع بكل مكوّناته، فبرزت مظاهر الصراع والاستقطاب والتوتّر والاحتقان. فمنذ تسلّم حماس الحكم برز العديد من مظاهر الصراع الذي بدأ يظهر في الأسابيع الأولى بين الوزراء والموظفين الذين غالبيتهم من حركة فتح ،ما أدّى إلى حدوث نزاعات وصِدامات في بعض الوزارات.

واتّخذ صراع حركة فتح مع حماس أشكالاً مختلفة، وتراوح ما بين حرب إعلامية مُتبادَلة بين الطرفين، ومناكفات على المستوى الإداري الحكومي، حتى وصل إلى المواجهات واستخدام القوة والعُنف. وفي ظلّ هذا التوتّر السياسي، قامت قيادات التنظيمات الفلسطينية في السجون الإسرائيلية ببلورة وثيقة الأسرى والتي عُرِفت لاحقاً بوثيقة الوفاق الوطني، والتي جاءت كخطوة لتوحيد الرؤية السياسية للقوى الفلسطينية. ونتج منها تشكيل حكومة الوحدة الوطنية مُحاصصة بين الحركتين، إلا أنها لم تدم لأكثر من ثلاثة شهور.

أدّى التنازُع على الصلاحيات بين مؤسّستي الرئاسة والحكومة لتكوّن قناعة لدى الطرفين باستحالة الشراكة بينهما. فعدم تمكّن حماس من ممارسة حقّها الشرعي في الحُكم دفعها لمحاولة ممارسته بالقوة عبر الخطوة العسكرية التي قامت بها في القطاع، والتي أدّت إلى انقسام النظام السياسي الفلسطيني بكافة مؤسساته.

وبعد سيطرة حماس على القطاع سنة 2007 قام الرئيس عباس بإقالة حكومة الوحدة الوطنية وإعلان حال الطوارئ، وتعيين حكومة جديدة برئاسة سلام فياض وطالب الرئيس حركة حماس بالتراجع عن انقلابها.


لقد شهدت الساحة الفلسطينية مرحلة اقتتال وصِدام دامٍ لم تشهده القضية الفلسطينية من قبل، وتدهور على إثره الوضع الإنساني، وقُمِعت الحريات، واستُخدِمت القوة المُفرطة التي راح ضحيّتها المئات من أبناء الشعب الفلسطيني بين قتيل وجريح، ووصل الحد في الطرفين إلى المبارزة والمسابقة، وردّ الصاع صاعين للاعتداءات المُتبادلة، والاعتقال، ومنع كل مظاهر الحياة السياسية لكل منهما في منطقته، فحكومة رام الله قمعت واعتقلت كوادر وأعضاء ومؤيّدي حركة حماس، بالإضافة لإغلاق مؤسّساتها، وفصل موظفيها، وهو نفسه ما قامت به الحكومة المُقالة تجاه أعضاء أجهزة السلطة في القطاع وكوادرها ومؤسّساتها الذي مازال مستمراً وبل يتصاعد الصراع.

فبعد مرور عقد على الانقسام، وتعطّل المصالحة ووصولها إلى طريق مسدود، وتفاقُم حدّة الصراع الدائر بين الحركتين، قام الرئيس عباس في العديد من الخطوات العقابية القاسية ضدّ القطاع. حيث أعلنت السلطة سلسلة من الإجراءات لتقليص النفقات على قطاع غزّة، بهدف تجفيف مصادر تمويل حُكم حركة حماس. وبدأت هذه الخطوات باقتطاع 30% من رواتب موظّفي القطاع، وعددهم زهاء 60 ألفاً. تبعته بمطالبة إسرائيل بوقف اقتطاع ثمن استهلاك القطاع للكهرباء من إيراداتها. وقامت السلطة بقطع رواتب 37 نائباً في المجلس التشريعي من نواب حماس في الضفة، ووقف التحويلات المالية من قِبَل سلطة النقد الفلسطينية من البنوك في غزّة لمصر لتعيق دفع ثمن توريد السولار المصري للقطاع، وطبّقت ما يُسمّى بقانون التقاعد المُبكِر على جميع موظّفي القطاع العسكريين والمدنيين على دفعات. بالإضافة إلى قطع رواتب ما يُقارب من 277 أسيراً مُحرّراً، منهم مازال في السجون الإسرائيلية، وبعضهم أمضى أكثر من عقدين في السجن.

وفي هذا الصدد، أكّد أحمد مجدلاني عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية إن السلطة مصمّمة على تجفيف كل مصادر تمويل حماس، وإن المزيد من الخطوات قيد الدراسة وسيجري تطبيقها في المرحلة المقبلة.

وتواصلت سلسلة الإجراءات العقابية لتصل إلى القطاع الصحي، حيث أوقفت صحة رام الله توريد الدواء وحليب الأطفال للقطاع، وأوقفت التحويلات الطبية ما تسبّب بوفاة العديد من الأطفال ومرضى السرطان.

وندّدت الفصائل الفلسطينية بإصرار الرئيس عباس والحكومة على إجراءاتهم تجاه قطاع غزّة والتي كان آخرها منع إرسال الأدوية إلى وزارة الصحة وطلب السلطة من منظمة التعاون الإسلامي تعليق عملها داخل القطاع وبالتالي حرمان آلاف الأُسَر من مساعداتها الخيرية.

كل العقوبات السابقة واللاحقة ستُساعد بطريقة مباشرة وغير مباشرة على زيادة حدّة الخلافات ما بين حماس والسلطة الفلسطينية، وتعطي حماس دافعاً قوياً للتّحدي ولاستغلال هذه العقوبات في تحريض أهل غزّة على السلطة، والقول إن الرئيس عباس غير معني في القطاع ويتعامل معه على أنه حمولة زائدة لابدّ من التخلّص منها.

وخطوات السلطة بحق أبناء فتح والقطاع تُسهّل على حماس نظرية المؤامرة على القطاع وليس على حماس لوحدها، ولعلّ الخصم من رواتب موظّفي السلطة والتقاعد المُبكِر والعديد من القرارات التي شملت أبناء حركة فتح في القطاع أكبر دليل على ذلك. ويمكنني الحُكم من خلال تجربتي مع حركة حماس في السجون الإسرائيلية والجامعات بأنه لايمكن إخضاعهم بهذه الطريقة، فعندهم قدرة عالية على الصبر والتحمّل والجَلَد والعِناد، ولايهمّهم غير مصالحهم وما دامت السلطة تعاقب أبناء فتح والشعب وحماس معاً فهذا يدفع حماس بطريقة غير مباشرة للصمود بوجه كل القرارات، وإذا حُشِرَت ولامناص من الاستسلام فحماس بيدها العديد من الخيارات وقد تلجأ للقبول بصفقة تبادل أسرى، والتي من خلالها سينقلب ميزان الفُرَص السياسية والتأييد الشعبي لصالح حماس. وإذا لم يتحقّق ذلك يمكن لحماس أن تتنازل لمصر أكثر في العديد من الملفات، وأهمها ملف الإرهابيين في سيناء وعندها سوف تلتقي مصالح مصر مع مصالح حماس وستتوطّد العلاقة بينهما. ويمكن أن تستخدم آخر ورقة في حال وصلت إلى طريق مسدود، حيث ستقوم باختطاف جنود إسرائيليين جُدُد، وعندها ستكون حماس قادرة على تغيير ميزان الفُرَص السياسية لصالحها.

ويمكن أن تقوم حماس بخطوة غير مسبوقة وهي التفاوض المباشر مع إسرائيل، حيث ستلتقي مصالحها مع مصالح إسرائيل في إدامة الهدوء على حدود القطاع، مع تعهّد حماس بعدم القيام بعمليات في الضفة الغربية، والتوقيع على هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل. وهذا ما يؤكّده تصريح أبو مرزوق بأن التفاوض مع إسرائيل ليس محرّماً.


من خلال تجربتي في السجون الإسرائيلية، يمكن أن تقبل إسرائيل بذلك، وأكبر دليل على ذلك عندما تم التوقيع على اتفاق أوسلو وتحوّل تمثيل الأسرى الفلسطينيين من فتح إلى حماس تأهّبت إدارة السجون وحسبت ألف حساب لكيفية التعامل مع حماس، ولكن تفاجأت إدارة السجون بأن التعامل مع حماس أسهل بكثير من التعامل مع فتح، وهذا ماعبّر عنه مدير سجن مجدو عام 1998 حيث قال بأننا وجدنا التعامل مع حماس أسهل بكثير من التعامل السابق مع فتح، فكلمة حماس نابعة من الأمير وهي مُلزِمة للجميع بينما فتح قرارها غير موحّد وغير مُلزِم للكل. وأنا تناولت هذه الحادثة لكي أوضّح بأن حماس والاحتلال يمكن أن يتفاوضا، فالاحتلال لايهمّه السلطة الفلسطينية، بل ما يهمّه مَن يحقّق له الأمن، وحماس قادرة على ضبط الحدود أكثر بكثير من السلطة.

كان الرئيس عباس يُدشّن طريقاً سريعاً معبداً بجملة قرارات ومراسيم لمعاقبة حركة حماس ومحاصرتها ظناً منه أن حماس سترفع الراية البيضاء وتستسلم وتسير على الطريق الذي رسمه لها، لكن في الوقت نفسه كانت حماس تُدشّن كبري معلقاً فوق طريق عباس بمساعدة مهندسين مصريين متفّوقين في بناء الجسور والربط ما بين الطرقات المتعارضة. فربطت طريق حماس مع طريق محمّد دحلان – التقاء مصالح مصر ودحلان وحماس- من فوق شارع الرئيس عباس واستطاعت حماس ودحلان ومصر إخراج الرئيس عباس من أضلاع المثلث ليحل محله دحلان، فكل السياسات التي اتخذها الرئيس عباس بحق أعضاء فتح وغزّة صبّت في صالح تيّار دحلان.

فالرئيس عباس لم يدرك بأن القائد الجديد لغزّة تتلمذ في السجون الإسرائيلية وتعامل مع إدارة السجون لأكثر من عقدين، فالقائد يحيي السنوار يختلف عن القيادة الحمساوية التقليدية التي تعوّد عليها الرئيس عباس التي لم تجازف ولم تجرؤ على القيام بخطوة التحالف مع أشدّ الأعداء لهم. فجاء القائد القادر على فرض رؤيته وموقفه وهذا ما شجّع المخابرات المصرية على التعامل معه وشقّ طريق سريع له للتحالف مع دحلان. إذا كان قانون الفيزياء يقول: إن الضغط يولّد الانفجار، فقانون السنوار يقول: إن الضغط يولّد التحالف مع عدو عدوّي، أي ابتكار الحلول على الرغم من صعوبة تجرّعها - كما يقول المثل الشعبي: "ما رماك على المر إلا الأمر منه"-. فهذه سياسة السنوار وسياسة حماس الجديدة التي يمكن لها أن تمضي قدماً إلى التفاوض مباشرة مع إسرائيل.

فكل الإجراءات والسياسات المُغامِرة تجاه غزّة من قِبَل السلطة ستدفع حركة فتح ثمنها في صناديق الاقتراع، وقد تدفع حماس للقيام بخطوة خطيرة وهي الانفصال وقبول بدولة في القطاع وكل ما يترتّب عليها من تبعات. لذلك على الكل الوطني تدارك الأمور والقيام بتحقيق المصالحة وعقد الانتخابات التشريعية والرئاسية وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وتشكيل حكومة وحدة وطنية من الفصائل.

فالانقلاب المستمر والمُتجذّر أضاع القضية الفلسطينية، وأعاق الممارسة الديمقراطية، فلم تعقد انتخابات تشريعية ثالثة منذ سبع سنوات، ولم تعقد انتخابات رئاسية ثالثة منذ ثماني سنوات، فتحوّل الصراع على إثر الانقلاب إلى تناحُر داخلي بحت على سلطة حكم ذاتي بدلاً من الصراع مع الاحتلال. فالسلطة في الضفة الغربية تحت الاحتلال وجندي إسرائيلي يستطيع أن يوقف موكب الرئيس ورئيس الوزراء. والسلطة في غزّة تحت الحصار والضربات الإسرائيلية المتواصلة، فالشعب هو الخاسر الوحيد، والرابح الوحيد هو إسرائيل.