"حكايات أثيرة".. شهداء سوريا وجرحاها ما عادوا أرقاماً وذكريات منسية
"حكايات أثيرة"، كتاب بمثابة مدوّنة توثيقية تستدعي أن تقرأها الأجيال وتستلهم عِبَرِها، وشهادة على عصر انقلبت فيه بعض الوجوه الآدمية وحوشاً كاسرة لترتكب أبشع الجرائم، وتذكير دائم وأبديّ بقصص آلاف السوريين الذين افتدوا تراب بلادهم.
بعد اليوم لن يكون شهداء الحرب وجرحاها في سوريا مجرّد أرقام وذكريات منسيّة، وما عادت حكاياتهم آلاماً ودموعاً وحسرات مطوية في قلوب الأبناء والآباء والأمّهات، مع إطلاق "اتحاد الكتاب العرب" المشروع الوطني الإبداعي لتوثيق بطولات الجيش والشعب السوري، والذي بدأه بإصدار الجزء الأول من كتاب "حكايات أثيرة" الذي يسعى إلى إعادة صوغ قصص وأحداث أولئك الشهداء والجرحى، مدنيين وعسكريين، في عمل أدبي يكون شاهداً تاريخياً على هذه الحرب، اعتماداً على حكايات حقيقية وواقعية في شخصيّاتها وتفاصيلها ودلالاتها، بل وفي أمكنتها وأزمنة وقوعها.
يقول رئيس "اتحاد الكتّاب العرب" في سوريا محمّد الحوراني في مقدّمة الكتاب التي جاءت تحت عنوان "ويعودون": لقد دخلنا بيوتاً على امتداد الرقعة السورية، واستمعنا إلى ما روته دموع الأمّهات، وانتظار الأطفال، وصبر زوجات أرضعن صغارهن حليب النضال والمقاومة، كما أصغينا إلى ما تقوله فتحة في جدار بيت خلّفتها قذيفة حقد أو طلقة إرهاب.. لقد كان من هذه المشاهد الكثيرة التي كرّرتها الحرب ما يهيج الأسى، ويجري الدموع الغزيرة، ومنها ما يدعو إلى الفخر، ومنها ما يعلّم الصبر والإرادة.. إنها سفر الخلود في زمن الخنوع، وإرادة المقاومة في عصر التطبيع".
أما الأديب والروائي نصر محسن، المشرف العام على الكتاب، فقد أكّد في تصديره لهذه المدوّنة التوثيقية وطبيعة حكاياتها: "حكايات تشبه الأساطير في تراجيديتها، وإن كانت الأساطير كحروب تتدخّل فيها الآلهة، فإن الحروب التي شُنّتْ على سوريا تدلّ على تفرّد الأبطال في تحمّلهم وعنفوانهم وافتدائهم لوطنهم الغالي، يدخل المقاتل الحرب وهو على يقين من أنه لن يخرج كما دخل، لكن عقيدته وقناعته بأن سوريا تستحق أن تُفتدى تجعله يعشق الاقتحام، فيقتحم وقلبه راية ترفرف خفّاقة وصارخة: المجد.. كل المجد لسوريا".
ويضيف: "حكايات ننشرها بين دفتي هذا الكتاب كواجب وطني، ونرسم الصورة الحقيقية للمقاتل السوري بكل شجاعته وعنفوانه ونبله، وقد أفادنا بعض الجرحى الأبطال بما تحتفظ به ذاكرتهم من أحداث عظيمة، وحكى لنا أهالي الشهداء بعضاً من الدرر التي كانت تتناثر من أحاديث أبنائهم الأجلاّء قبل أن يرتقوا إلى السموات أبراراً، حاملين كتبهم بيمناهم، داخلين أوسع الفراديس، وحكايات أخرى عن بطش الغزاة المجرمين بالناس المدنيين الآمنين، الناس العزّل إلا من أفتك السلاح على وجه الأرض، سلاح الإرادة والصمود والتضحية، ومن كان هذا سلاحه لا بدّ منتصر".
وعلى هذا فإننا سنتوقّف ملياً، في صفحات الكتاب، بكثير من الإجلال والمهابة أمام أكثر من 50 حكاية، تتناسل منها حكايات أكثر وأشدّ وجعاً وألماً لعشرات الشهداء والجرحى والمهجّرين والمخطوفين، والحزن الذي عشّش في عيون وقلوب وأرواح ذويهم وأبنائهم، صغاراً وكباراً، وهم يستعيدون وقائع وأحداث وفصول تلك الحكايات التي تصلح كل منها لتكون فيلماً سينمائياً أو ملحمةً دراميةً تلفزيونيةً أو متناً سردياً لروايات تذكّرنا بالآداب والفنون التي أنتجتها الحروب والمحن، ولاسيما الحرب العالمية الثانية، والصراعات والمعارك التي غيّرت في حقب معيّنة وجه التاريخ وذهبت به إلى مسارات غير متوقّعة مازال العالم يكتوي بآثارها ونيرانها حتى اليوم.
حكايات تستنفرُ وجداننا وتذهبُ بعيداً لتحفر في ذاكرتنا العميقة وتستقرّ فيها، إنها حكاية الشرطي علي أحمد جاسر إبن مدينة طرطوس الذي استُشهد في الريف الغربي من حلب عام 2019 بعد أن رأى رأس زميله مقطوعاً ومعلّقاً في سقف المحرس، وبات منزلُ الزوجية الموعودة قبل رحيله روضةً للأطفال، وحكاية آل فضيل من أبناء جبل الزاوية، تلك الأسرة التي قدّمت الشهيد مصطفى قدور فضيل في معرّة النعمان عام 2012، والشهيد الطيّار عبد الله مصطفى فضيل في مطار كويرس عام 2013، والشهيد محمد عبد الكريم فضيل على أرض قرية قميناس في إدلب، والشهيد حسين حسن فضيل في كلية المدفعية في حلب عام 2016، والشهيد ممدوح عبد اللطيف فضيل في جبال اللاذقية عام 2019، ومثلها حكاية آل التلاوي التي استُشهد منها عبدو خضر التلاوي مع ولديه علي وأحمد وإبن شقيقه خضر فوزي التلاوي في عملية اغتيال جبانة في ريف حمص الغربي عام 2011 مع بداية الحرب.
حكاية الشهيد شعبان رضوان العوجا إبن مدينة حمص الذي استُشهد والده عام 1981 في حادثة تفجير الأزبكية الذي نفّذته جماعة "الإخوان المسلمين"، وجدّد هو قتال العصابات الإرهابية في بابا عمرو والخالدية والوعر، ومنها انتقل إلى مهين والزارة وصدد وجبورين وقلعة الحصن وصولاً إلى أرياف إدلب وحماة واللاذقية، قبل أن يستشهد قنصاً عام 2016 بعد أن احتفل مع رفاقه برفع العلم السوري على قلعة تدمر.
حكاية الشهيد يونس مرداش إبن مدينة حماة الذي التقط قبل أيام من استشهاده في داريا عام 2012 عشرات الصوَر مع أخواته وإخوته وأبنائهم وأمّه التي أوصاها ألا تندبه إذا عاد إليهم محمولاً بالتابوت. حكاية الشهيد الشاب أنزور أباظة إبن مدينة القنيطرة الذي دفنته والدته في حديقة البيت، بعد استشهاده في كمين غادر في جديدة الشيباني وخوضه أشرس المعارك في الزبداني وسواها من بلدات ريف دمشق. وحكاية الشهيد محمد محسن أحمد إبن محافظة طرطوس الذي التحق بخدمة الاحتياط بمهمّة سائق دبابة، طالما رسمها على جدران خيمته وحفر صوَرها على الخشب، قبل أن يطالها صاروخ في عمليات اقتحام الجيش لأوكار الإرهابيين في بلدة مورك عام 2014.
وحكاية الشهيد سالم العلي إبن محافظة الرقة الذي قاتل إلى جانب القوات الرديفة من رجال المقاومة كقائد مجموعة واستُشهد عام 2017 في وادي النضارة وأوصى بأن يدفن في مدينة السيّدة زينب، تلك المنطقة التي شهدت أيضاً حكاية الفتى الدمشقي الجريح سامر الشيخ عيسى الذي أصيب في معارك الدفاع عنها عام 2013وأجرى بعد إصابته وبتر ساقه اليمنى 24 عملية جراحية كانت وستبقى وسام فخر على صدره.
ثم حكاية الجريح رياض عبد الرحمن الدليمي "العجوز" إبن مدينة دير الزور الذي استُشهد إبنه بشار في المدينة نفسها عام 2014 أثناء معركة التصدّي لإرهابيي "داعش" الذين اختطفوا أخاه أيضاً وقطعوا رأسه ونكّلوا بجثته أمام أحد مساجد المدينة، قبل أن يستشهد إبنه الثاني محمود عام 2016..
وحكاية الشهيدة مريم عباس ديب التي استُشهدت وأصيبت إبنتاها الصغيرتان سارة وأمل إصابات بليغة بانفجار سيارة مفخّخة عام 2013 في حيّ عشّ الورور على أطراف دمشق. وحكاية الشهيدة سهى الأوس وإبنتها الشابة مرح نادر الصباغ اللتين استُشهدتا عام 2014 بسقوط قذيفة هاون على أحد أسواق مدينة جرمانا، وحكاية الشاعر الشهيد بشير العاني الذي أعدمه إرهابيو "داعش" مع إبنه الشاب إياس أثناء حصار مدينته دير الزور..
ثم حكاية عشرات الأسر المنكوبة في قرى ريف اللاذقية (إنباتة، الحنبوشية، برمسة، بارودة، بيت الشكوحي، بلوطة، صليب بلوطة، أبي مكّة، الخراطة، البلاطة، أستربة، القليعة، الكنفة، الخنزورية) التي هاجمتها قطعان الإرهابيين بالآلاف فجر الرابع من آب/أغسطس 2013، ليذبحوا بدم بارد ويقطعوا رؤوس مئات الشبان والأطفال والنساء والمسنّين، ويمثّلوا بجثثهم، ويقودوا آخرين رهائن إلى مصير مجهول، ويحرقوا آلاف الدونمات من أشجار الزيتون والبلوط والسنديان، قبل اندحارهم منها.. وسواها من الحكايات الأثيرة التي لا تنتهي.
وبذلك يمكن القول إن الكتاب برمّته مدوّنة توثيقية تستدعي أن تقرأها الأجيال وتستلهم عِبَرِها، وشهادة على عصر انقلبت فيه بعض الوجوه الآدمية وحوشاً كاسرة لترتكب أبشع الجرائم، وتذكير دائم وأبديّ بقصص آلاف السوريين الذين افتدوا تراب بلادهم بالأرواح والدماء، وعادوا من المعارك إما بالتابوت الملفوف بالعلم الوطني، أو على نقّالة الإسعاف أو الكرسي المتحرّك بعد أن فقدوا أطرافاً غالية من أجسادهم دفنوها في مناطق شتّى من تراب سوريا.
وبقي أن نقول أيضاً إن كتاب "حكايات أثيرة" الذي جاء في 252 صفحة بجزئه الأول، واحتوى 3 ملفات: (ملف الشهداء- ملف الجرحى- ملف جرائم الإرهابيين) ساهم في تقصّي وصوغ حكاياته الأدباء السوريون: انتصار بعلة، انتصار سليمان، أيمن الحسن، حسن إبراهيم الناصر، سمير عدنان المطرود، طلال سليم، طه الرحل، عيسى إسماعيل، ليلى صعب، ليندا إبراهيم، محمّد أحمد الطاهر، محمّد الحفري، محمّد خالد الخضر، مضر الجباعي، نبوغ أسعد.. وكل منهم قدّم شهيداً أو أكثر أو جريحاً في هذه الحرب.