مُنع في سوريا.. هل شرّح فيلم "نجوم النهار" بنية النظام السوري السابق؟
بعد 37 عاماً على منع عرضه في سوريا، يتجاوز فيلم "نجوم النهار" أخيراً تغييبه القسري، ويعكس ميكانيزمات التسلّط لدى "الأخ الأكبر" السوري.
بين التأمل في جماليات طبيعة جبال الساحل السوري في المشهد الأول، والتيه في قلب دمشق، الذي غلَّفه المخرج أسامة محمد بالدخان المنبعث من سيارة المبيدات الحشرية في المشهد الأخير من فيلمه "نجوم النهار" (1988)، تتأرجح رؤيته المتعلقة بمنظومة السلطة في دمشق ثمانينيات القرن الماضي.
على الرغم من بساطة الضيعة وعفوية أهلها، فإن ثمة تصنُّعاً مُضحكاً سببته الأيديولوجيا المشوهة التي يتبناها "خليل" (عبد اللطيف عبد الحميد)، الأخ الأكبر في عائلة "غازي"، فبحجة تحقيق تلاحم أشد بين أفراد العائلة وتوحيد الأرض وعدم تضييعها، وعندما يقرر ابن عمه الدكتور كريم القادم من ألمانيا أن يتزوج أخته "سناء" (صباح سالم) فإن "خليل" يُقرِّر تزويج أخيه "كاسر" (زهير عبد الكريم) المُصاب بطرش جزئي بابنة عمه "ميادة".
ووفق هذه المقايضة/الصفقة، وبدلاً من أن تستتب الأمور، وفق منظور "الأخ الأكبر" الشبيه بدكتاتور جورج أورويل في رائعته "1984"، فإنها تتفلَّت بعد هرب عروس أخيه مع حبيبها سائق الميكرو، وتالياً رفض أخته إتمام الزواج بابن عمها بعد تلك الفضيحة.
لكن التسلُّط والجشع يبحثان عن مسارب أخرى لتحقيق مآربهما، مرةً بالسماح لابن عمه "توفيق"، الشاعر المتفاصح (زهير رمضان)، بأن يتدخل لإقناع الطبيب بعدم العودة إلى ألمانيا، وأخرى بالسطوة على أخيه كاسر وتشليحه المال الذي أعطاه إياه الطبيب عربونَ اعتذار عن شجارهما، وثالثة بإجبار أخته "سناء" على العمل في مصنع الريجي للدخان العربي، وخصوصاً مع ارتهانه لزوجته اللعوب (مها الصالح) التي تتهم سناء بأنها تُعامِلُها كخادمة، في حين أنها تقلب الحقائق، وهي من تُلقي أعباء منزلها عليها، لكن رضوخه لشهوته الجنسية يؤسس ظُلْمَه لأخته وضربها مراراً.
وحتى عندما استلطفت زميلها في مكان عملها، وأحضرته لتُعرِّفه إلى جدِّها صاحب السطوة التقليدية في العائلة، قام خليل بمعاقبته، لكن ليس بيديه، وإنما أوحى إلى كاسر بأن ذاك الشاب يتلاعب بأختهما ويُدنِّس شرفهما، فلاقاه في الشارع وقام بضربه ضرباً مُبرحاً، ثم قام بالاتصال بأحد أبناء عمومته، المقيم بدمشق وصاحب السطوة الأمنية، عارضاً عليه أخته ليتزوج بها، ليقوم الأخير باغتصابها قبل الزواج.
وفي خضم هذه القسوة وهذا الهباء يُقرر "كاسر" أن يترك القرية ويذهب إلى ابن عمه، "فؤاد غازي"، ليُجابَه بدايةً بصفعة من رجل أمن لأنه عطَّل السَّير، ثم بعناق من فؤاد الذي أوصله إلى غرفته على أحد الأسطح، ليبدآ أحاديث ودية وطعاماً وشراباً انتهت بنومهما في فرشة واحدة يغطيهما حرام مرسوم عليه نمر برأسين، وبعدها يحزم كاسر أموره بمقابلة ابن عم آخر له، ليتيه في ساحات دمشق وشوارعها ويختفي في قلب دخان سيارة المبيدات الحشرية، على رغم تحذيرات فؤاد له بأنه قد يغرق.
العنف واللامعقولية والطرافة هي الثلاثية التي اعتمدها أسامة محمد في تصوير ميكانيزمات السلطة وفسادها، غروتيسك يُفنِّد التَّشوُّهات النفسية للمتسلِّط. أولاً من خلال الاشتغال الحكائي على وقائع وشخصيات وحوارات معجونة بالتناقض والنشاز. فخليل، مثلاً، حتى وهو يحكي عن الحب إلا أنك لا تستطيع تصديقه، وممارسته للحب فجّة وحيوانية، وسلوكه وأنماط تفكيره منبعها الأنانية والاستئثار بكل شيء. فهو مؤدلج بطريقة ساذجة، جعلته يفرح لإلقاء طفليه التوأمين شعارات بعثية في عرس أخيه الذي أراده عرساً وطنياً، ومع ذلك وبَّخه لأنه أكل قضمة من رغيف الوطن، في حين أن كاسر حقق في جزء كبير من شخصيته مقولة كالأطرش في الزفة، لأنه طوال الفيلم يتلقى الصفعات من دون أن يعلم لماذا، أو ما هو الذنب الذي اقترفه. لذلك، بقي يتحدث في وادٍ بينما من يقابله على الخط يتحدث في وادٍ آخر. أما ابن عمه المُتَشَعْرِن "توفيق"، فيستدعي قصيدة "عيناك غابات نخيل ساعة السحر" في غزله لـ"سناء"، بعد أن غَرِق في النوم في كُرسيه، وأغرَق البيت بشخيره، في مفارقة شعورية عجيبة، تزيدها لهجة أهل الساحل المحببة غرابةً.
ثانياً، على مستوى الشكل، بقدر ما سعى المخرج إلى التركيز على التنافر والتضاد بين اللقطات العامة واللقطات المقربة، وبين وضوح الصورة وضبابيتها، وأيضاً بين تجميع العناصر داخل كادره، كما في بروشور الفيلم، أو تفريقها، فإنه سعى لتحقيق توازن جمالي بينها، حقق ثراءً بليغاً في اللغة البصرية، ولاسيما مع مونتاج متقن جعل توتر المَشاهِد وقوة دفقها عنصر قوة أساسياً في الفيلم، بحيث إن الصورة تتكلم في موازاة الحكاية، وتنخرط معها. كما أنها تندغم مع الشخصيات وتتفاعل مع كينونتها، مرة تأسِرُها وأخرى تُحرِّرها، ضمن صيغة تنفذ إلى عمق الموقف الدرامي. فثمة حوار بصري مع أبطال الفيلم يكون مباشراً في بعض الأحيان، وعبر وسيط كالمرايا أو شاشة التلفزيون الموجود ضمن العرس في أحيان أخرى. حوار يتعزز أيضاً مع البيئة، ريفاً كانت أم مدينة، بحيث تبرز خصوصية كل منهما كحاضن للشخصيات وفاعلة في تكوينها الاجتماعي والنفسي، من شجرة كبيرة وحيدة أمام البيت التي يستظل بها الأب (محمود جركس)، إلى الجبل الذي يدعو من أعلاه الأب أبناء الضيعة إلى العرس، إلى قن الدجاج، ومصنع الريجي، فالتخت ذي القضبان المعدنية للجد المريض (سعد الدين بقدونس) وأسطح بيوت الشام وساحة السبع بحرات، ولافتات الإعلان عن حفلات فؤاد غازي في مطعم القصر.
إن فيلم "نجوم النهار"، الذي عُرض مؤخراً في "غاليري زوايا"، بعد منعه من العرض داخل سوريا، استطاع عبر مزاجية خاصة النفاذ إلى ميكانيزمات السلطة والعنف والتعصب بصيغة تهكمية تجنح كثيراً نحو السوداوية الساخرة من النظام السياسي، الذي حكم سوريا أكثر من نصف قرن.
ولعل الأكثر إثارة في تجربة هذا الشريط السينمائي أنه كان من إنتاج "المؤسسة العامة للسينما" التي تسلَّطت على السينما كثيراً، لكن أسامة محمد استطاع تجاوز رقابتها بذكاء، ساخراً من شخصية رأس النظام الأسبق، الذي منع عرض الفيلم عام 1988 داخل سوريا، مع أنه تركه ليمثلها خارجه، ليتحرر "نجوم النهار" أخيراً من هذه السطوة بعد 37 عاماً في الغياب القسري عن الداخل السوري.