ماهر الجازي.. أسد الأردن أبو قدر

قال لها: "إنه قدر وأنت لا تجادلين القدر، قدري اليوم أن أتقدّم الصفوف وأشعل في روع الأمّة قبساً من نور كرامتها المهدورة على أعتاب بني صهيون.

(قصة من وحي المعركة)

صحيح أنّ القرار قد استغرق وقتاً طويلاً، كان ينبغي أن أقول إنه نضج على نار باردة، ولكن قلب أسدنا كان يحترق كلّ يوم وعلى مساحة زمنية مقدارها 330 يوماً، هي زمن العدوان ومزاد المجازر في غزّة. بعد مجزرة مسجد التابعين لم يعد هناك مجال إلّا التنفيذ. صدر القرار من رئاسة هيئة الأركان إلى القوات الرامية، لقد اكتملت أركان القرار، البرلمان حسم أمره. فقد امتلأ القلب بالمشاعر الجيّاشة، إيمان ونخوة وشجاعة وأخوّة، تجسّدت في إرادة حرّة ملكها صانع القرار، أشبعت عقله بكلّ ما يحتاجه من مواد معرفيّة، التحم مع قوات القلب البرلمانية، تفاعل مع نماذج تشكّل مثلاً أعلى لهذه الجبهة النفسية ذات الإرادة الصادقة والعزيمة النبيلة العالية، فكان القرار.

سلطان العجلوني كان فتى عندما وثب وثبة أسد على "دولة" الاحتلال بمسدس، كان ذلك بعد مجزرة الأقصى سنة 1990، اخترق الحدود ونزل ساحة معسكر ليقتل منهم وهو لم يتجاوز 16 عاماً. ثم تبعه 3  رجال: سالم وخالد أبو غليون وأمين الصانع، أيضاً بعد تلك المجزرة، اشتعل حبّ الأقصى في قلوبهم فانطلقوا. تجاوزوا الحدود واشتبكوا مع قوة عسكرية إسرائيلية قتلوا وجرحوا واعتقلوا بعد ذلك ثمّ حرّرتهم المقاومة في صفقة "وفاء الأحرار".

 وجد أسدنا اليوم أيضاً في شجرة العائلة والعشيرة كثيرون ضحّوا وعملوا من أجل تحرير فلسطين، كانوا خير داعم وخير سند، بل على العكس، هم يعدّون فلسطين والقدس قضيتهم وهي من أصول دينهم وتركيبتهم النفسية والاجتماعية والتاريخية.   

صلّى الصبح في مسجد هذه البلدة المباركة. الحسينية على وقع أخبار مجزرة في مسجد التابعين في غزّة وقعت مع تكبيرة الإحرام لصلاة الفجر. هزّته تلك الأخبار من أعماقه، حرّكت كلّ مكنوناته التي بلغ فيها السّيل الزبى، استوت على سوقها وألهبت جماهير مملكة نفسه وكان القرار جاهزاً من قبل، ولكن جاءت هذه لتكون الشعرة التي قصمت ظهر البعير، لا بدّ من الانتقام، لا بدّ من تدفيعهم الثمن، لا بدّ من تلقينهم الدرس أننا أمّة واحدة، بل شعب واحد. إذا قسّموا حدود بلادنا جغرافياً فإنهم لن يفلحوا في تقسيم قلوبنا. نبض قلوبنا هو القدس، الأقصى آية تتلى في كتاب الله الحكيم.

لن يجعل الله لهذا الاحتلال بجبروته مهما بلغ سلطاناً على أحرار هذه الأمّة العظيمة. تخيّل أسدنا ماهر الجازي لو أن هذه المجزرة في مسجد التابعين في غزّة وقعت على هذا المسجد، دماء ذوي القربى تسيل بغزارة والأرواح تصعد إلى بارئها والأشلاء والأجساد المقطّعة تنتشر في أرجاء المسجد، ما الفرق بين المسجدين؟ ذاك اليوم وهذا غداً، إن لم تقف الأمّة في مواجهة هذا التوحّش اليوم فلا يوجد حدود لهذا التوحّش، سيصل الجميع، بل هو واصل هذه الأيام ولو بطرق مختلفة، بسط الهيمنة الاستعماريّة نفوذها على المنطقة سياسياً واقتصاديّاً وثقافياً.. أليس هذا توحّشاً؟

ماذا أبقوا لنا غير التبعية والتخلّف والفساد وفقدان السيادة والحريّة والكرامة، وأيّة كرامة وإخواننا الفلسطينيون يُذبحون منذ ما يزيد عن 10 أشهر، وهذه الشعوب المحيطة مكتوفة الأيدي والأقدام؟ لقد كشفت هذه الحرب كم نحن فاقدين لهذه الكرامة، هل يُعقل أن تسير قوافل الإمدادات على الأرض العربيّة لعدوّنا الذي يرتكب المجزرة ويجوّع قطاع غزّة، هناك يُقتلون ويُجوّعون، يُقتلون بحدّ السّيف وحدّ الجوع والقهر والمرض والخذلان العربي الذي لم يكن يوماً كما هو هذه الأيام؟ 

ركب الشاحنة كالمعتاد وكانت كرامته تسابقه السّير والعنفوان. اجتاحته مشاعر عزّة أشعرته بأنه يقود طائرة أو أنّ هذه الشاحنة ستعبر به من دار الشقاء والضنك إلى ديار لا شقاء فيها ولا ضنك، لا مهانة فيها ولا احتلال ولا استعمار ولا حتى هيئة الأمم، حياة نعيم مستقرّ مع الأبرار وخيار البشر، ماذا حدّثته نفسه في هذه المسافة بين عمّان وجسر الكرامة؟ هل لنا أن نتخيّل ذلك؟ 

هو بشر كبقية البشر، سيأتيه أطفاله: مريم وفاطمة وقدر وعمر، مع أمّهما أمّ قدر، إلى من تتركنا، أيتاماً على موائد اللئام؟ لا بل كراماً على مائدة الشهادة والشهداء. تلك الموائد لا يأتي منها إلا الفتات. بينما هذه يبسط عليها ما لذّ وطاب من نعيم الكرام. مائدة ترفع رؤوسكم عالياً بينما تلك تبقيكم دون مستوى طاولة اللئام. ستتقدّم أم قدر وتذكي ذكريات تبدأ من ميلاد قدر: "رسمنا له سويّاً مستقبلاً زاهراً، جاءنا في ليلة القدر فسميّناه قدر، ولد مبارك من يوم مولده. حتماً ستشرق به حياتنا ويكون له شأن عظيم بإذن الله. أين تذهب وتتركني وحدي مع قدر يا حبيب القلب وعشيق الروح؟". 

قال لها: "إنه قدر وأنت لا تجادلين القدر، قدري اليوم أن أتقدّم الصفوف وأشعل في روع الأمّة قبساً من نور كرامتها المهدورة على أعتاب بني صهيون. قال لي قدر وهكذا قالت بقيّة العائلة: إمض يا أبانا على بركة الله فنحن قد ربّيتنا على أن لا نجادل القدر. بل ننسجم معه خاصة عندما يستمطر للأمّة عزتها وكرامتها ويذكي في روحها النخوة والشهامة وعظيم القيم". 

ثم عادت أمّ قدر لروحها وهتفت من أعماقها:

- والله لوددت أن أشاركك هذا الشرف وليكن قدرنا الجديد إضافة إلى ولدنا قدر، وإنّ موعدنا بإذن الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

كان الجوّ حارّاً خاصة مع انحدار الشاحنة نحو الأغوار ذات الحرارة العالية، إلّا أنّ نسائم عليلة كانت تلاطف قلبه وتسكب برد اليقين في روحه. بعد اتخاذ القرار تجري الأمور ببرد وسلام، فقط هي مرحلة تنازع فيها النفس أهواءها وضعفها فيكون القلق والاضطراب. أمّا بعد حسم القرار فإنه العزم وإرادة الأحرار، وصل مشارف هذه الحدود اللعينة التي فصلت شعب الأردن عن شقيقه الفلسطيني بهذه الحواجز الاحتلالية القاهرة، ركن الشاحنة، أخرج المقاتل العنيد من مخبئه، أسداً أسوداً يتلظّى غضباً، وجده يقول له:

-  نفسي وناري ورصاصي فداء لك أيّها البطل، اضرب بي ولا تخشى أحداً إلا الله.

- هتف في أعماقه: "الله أكبر".

غاب حينها كلّ شيء إلا الله. رحيماً لطيفاً رؤوفاً ودوداً قويّاً عزيزاً في قلبه، ولّت تخوّفاته هاربة، مشى بخطوات ثابتة وكأنّه الأسد يخرج من عرينه، صوّب على ثلاثتهم، غربان سود يأمرون وينهون ويعربدون، رمى الأوّل والثاني والثالث ليرديهم صرعى في ثانية واحدة، ثم تقدّم ليشتبك مع قوّة ثانية أصاب منهم وأصابوه، عانق الشهادة مسرعاً، ابتسمت روحه وانسلّت بسلام تاركة لهم الجسد، فتحت له السماء أبوابها وأنشدت له ملائكتها نشيد الشهداء. 

جنّ جنونهم ورأى زعيمهم "النتياهو" أنهم يسبحون في بحر من الأعداء، يمقتونهم ويرونهم بعين الحقيقة: ألدّ أعداء الله وقد دقّت ساعة الخلاص منهم: صرّح قائلاً: "إننا في واقع يحيط بنا الأشرار من كلّ جانب". أيحقّ لمرتكب الإبادة الجماعية أن يأتي على ذكر الشرّ والأشرار؟ 

واحتفلت الأردن وفلسطين وكلّ العالم الحرّ بهذه الهديّة العظيمة التي قدّمها الشعب الأردني لأخيه الفلسطيني بسخاء وفتح للأمّة باباً لكلّ الأسخياء.          

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.