ماء البئر وماء القلب.. ما حكاية البئر في اليمن؟
تحيل البئر واستخراج الماء منها في التراث اليمني إلى حالين من ظمأ الماء وظمأ الحب، وخصوصاً أن المرأة هي الموكلة بهذه المهمة. كيف يتمظهر هذا الظمأ؟
تخفف المحكية اليمنية من صوت الهمزة في نطقها لبعض الكلمات، كلفظة "بئر"، التي تنطق فيها "بير". وتعد الآبار في اليمن مصدراً رئيساً لتلبية الحاجة إلى المياه. ومنذ القدم ساد استخراج الماء من هذا المصدر بالطريقة التقليدية، التي تستخدم فيها الأداتان (الحبل/والدلو). ومع ظهور آلات نزع الماء الحديثة، تراجع الاعتماد على تلك الطريقة التقليدية، فانزوى استخدامها إلى عدد من المناطق والقرى النائية.
ماء البئر وماء القلب
-
يرتبط بالمرأة ريّ العطش في الحالتين العاطفية والبيولوجية
كثيراً ما تقترن الحالان (ظمأ الماء/ وظمأ الحب)؛ اتكاءً على نوع من التجانس بين إطفاء ماء البئر للظمأ العادي، وإطفاء ماء القلب للظمأ الوجداني. وعلى ما في هذا التجانس من محورية تأويلية فاعلة في اطراده الإنساني العام، إلا أنه أكثر فاعليةً وحيويةً في السياق اليمني؛ استناداً إلى هوية القائم بمهمة اغتراف الماء من البئر وجلبه إلى المنزل. إذ عادة ما تكون المرأة اليمنية هي المكلفة بذلك.
كما يغلب على أن تكون الفتيات هن من يوكل إليهن هذا العمل، وهو ما يحيل على كينونة المرأة اليمينة الأنثوية والوجدانية، ودورها الفاعل في تجسير العلاقة بين حالي العطش البيولوجي والعاطفي؛ إذ يرتبط بالمرأة ريّ العطش في كلتا الحالين.
تؤدي المرأة اليمنية هذه المهمة بالطريقة التقليدية، التي تعد أقل استخداماً من الطريقة الحديثة، المتسقة مع حداثة آلات استخراج الماء، تلك التي تمكن المرأة من تعبئة الصفائح البلاستيكية بالماء، من الخرطوم المتصل بتلك الآلات.
من ناحية أخرى، يغلب على هذا النوع من العمل النسائي أن يأتي بصورة جماعية، في الصباح الباكر، أو العصاري. وفي الحالين تزين جموع الفتيات والنساء حواف الآبار ومحيطها. إذ تتشكل بهن مشاهد جمالية، تثير هواجس الشعراء، ولا سيما كُتّاب الشعر الشعبي، الذين أبدعوا نصوصاً نابضة بجمال تلك المشاهد، منها ما حظي باهتمام الأغنية اليمنية، التي يُعد هذا النوع من الشعر مادة رئيسة فيها.
صبايا الماء والهوى
-
كتب العديد من الشعراء قصائد حول البئر والحب
من الأغاني اليمنية التي احتفت بالبئر مورداً للماء والحب، أغنية الفنان، أيوب طارش العبسي، التي كتب كلماتها الشاعر، أحمد الجابري، وتبدأ بخطاب موجه إلى صبايا إحدى الآبار:
"يا صبايا فوق بير الماء والدنيا غبش
من يسقي بالهوى قلبي ويروي لي العطش
لاجل روحي ترتوي بالحب رشني رشش
واسكبين العطر من قطر الندى حالي الورش"
يبدأ المضمون الغنائي، بالكشف عن موقف تتحلق فيه الفتيات حول بئر الماء، في صباح باكر. ثم تتماهى حال العطش العادي مع حال العطش العاطفي، فتفضي إلى التماس ماء الحب من فتيات البئر؛ لعلهن يستطعن به ريّ الروح المتعطشة. تلك الروح التي انسابت في سياقات الأغنية كلها، بما هي عليه من عطش ولوعة، وبكاء، وسخاء في ريّ العاشقين بالدمع، واحتراق بالظمأ المستعر في وجدانها.
العطش الموارب بين الحالين
-
يأتي هذا العمل النسائي بصورة جماعية في الصباح الباكر أو العصاري
يتجلى نوع من العطش الموارب بين الحالين البيولوجية والعاطفية، في واحدة من أشهر الأغاني اليمينة في هذا السياق، كتبها الشاعر، حسن عبد الله الشرفي، وغناها كثير من الفنانين اليمنين، وقام بناؤها على تقنية الحوار بين الرجل والمرأة، على هذا النحو:
يا قادحة فوق بير "اسناف" ** من كوزش البارد اسقيني
والله لولا اخوتي سبعة ** لا حط، واسقيك من عيني
ياسين على عينك الكحلى ** الحبل والدلو يرويني
يلوح، هنا، موقف لقاء عفوي، بين فتاة وشاب، صادفها وحدها في محيط بئر تستخرج الماء. اتخذ من رغبته في قليل من ماء كوزها سبيلاً إليها. اعتذرت، مبررةً ذلك بخشيتها من العقاب، الذي سينزله بها إخوتها السبعة؛ تداعياً منهم مع التقاليد الاجتماعية، التي تجرم أي علاقة بين شاب وفتاة.
وعلى ذلك، فقد ضمّنت اعتذارها طاقةً عاطفيةً حارة، في قولها: "لا حط واسقيك من عيني"، الذي أحالت به على الظمأ الوجداني المشترك بينهما.
تفهم الشاب موقف الفتاة، واستشعر تلك الطاقة العاطفية التي وجهتها إليه، فجاء رده متسقاً مع طبيعتها الوجدانية: "ياسين على عينك الكحلى...". ثم تداعى هذا الرد في مشاعر الفتاة وقوداً إضافياً لاحتدام ظمأها الوجداني، فلطفت الموقف، راغبةً في قضاء أطول وقت ممكن معه:
خلي ورش ضيع الحلقة ** حلقة يدي ما جد إلا هي
والله ما كان مقصدي الماء ** ما كان قصدي إلا شي ثاني
وبذلك تجلت حقيقة الظمأ الموارب في وجدانيهما: هي من خلال انتقالها إلى الحديث عن موضوع آخر (ضياع حلقة يدها)؛ إيحاءً بمركزية الظمأ في قلبها. وهو من خلال تأكيده هذا الإيحاء، وإشارته إلى أنه لم يكن يقصد الماء، وإنما ذلك الظمأ العاطفي المشترك بينهما.
صاحب الغاية الغامضة
-
البئر كانت مسرحاً لجموع فتيات جميلات يعملن على استخراج الماء منها
أفصحت مضامين الأغاني السالفة عن كلتا حالي العطش، بما في ذلك سياقات المواربة التي انطوت عليها الرغبة في ماء الهوى لا ماء البئر. لكن سياقات المواربة هذه كانت هي المهيمنة على أغنية مجهولة المؤلف، تغنى بها كثير من الفنانين، وتبدأ بهذا التساؤل:
ما نزلتك "بير العزب" ** بين الشموس الحامية
أو شي معك مقضى غرض ** ولا بنية حالية
يسعى التساؤل هنا إلى معرفة غاية المخاطب، من توجهه إلى ذاك المكان "بير العزب". أحد الأحياء الحديثة في مدينة صنعاء، الذي تعود تسميته إلى "بئر العزب"، تلك التي كان يملكها شخص اسمه "العزب"، قبل أن يشمل هذا الاسم الحي كله.
ثم يضع هذا التساؤل تلك الغاية بين احتمالين: الأول قضاء حاجة ما، والثاني الرغبة في لقاء فتاة جميلة. وعلى ذلك، فإن السياق يحيل على تغليب الاحتمال الثاني؛ استناداً إلى خصائص المكان. وتكمن في تغليب الاحتمال الثاني إحالة على الجمال الذي تتمتع بها نساء هذا الحي؛ لخصوصية العوائل التي أقامت فيه، تلك المنحدرة من أصول تركية ممتدة إلى فترة الحكم العثماني لليمن.
وإلى ذلك، ففي جذور هذه التسمية (بير العزب) تأصيل لتلك البداية المؤثثة بالأبعاد الجمالية نفسها، التي نشأت بها العلاقة بين حالي العطش: (ظمأ الماء/ وظمأ الحب)؛ فلا شك في أن البئر كانت مسرحاً لجموع فتيات جميلات، يعملن على استخراج الماء منها.