ما بعد التوحُّش!
كلمة عالم متوحّش لم تعد كافية للتعبير عن الدرك الأسفل الذي بلغه هذا العالم المحكوم بلغة القوة والبطش والعنف. إنها الإبادة، ولا وصف آخر لها.
"حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفُتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُستعبد لك، وإن لم تسالمك، بل عملت معك حرباً، فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب"، (سفر التثنية، الإصحاح 20 الآيات 10 - 16).
**
غالباً ما نصف جرائم الاحتلال الإسرائيلي ومجازره ومذابحه ووارتكاباته بأنها أعمال وحشية وهمجية وسواها من أوصاف تعبّر، في الواقع، عن مشاعرنا وأحاسيسنا حيال ما يحدث، وليس عمّا يحدث بالفعل. لأن ما يحدث يفوق الوصف، يفوق الهمجية ويفوق التوحّش.
مَن كان يخال أن يشاهد في القرن الــ 21 أطفالاً خُدّجاً يُتركون حتى الموت في المستشفيات المقصوفة والمحروقة، بل أصلاً مَن كان يخال أن تدمر المستشفيات وتُحرق أمام الكاميرات وعلى مرأى العالم أجمع، وأن تُجبر الطواقم الطبية والتمريضية على إخلاء المرضى والجرحى تحت زخ الرصاص ودوي المدافع.
مَن منا كان يخال في عصر "ما بعد الحداثة" أن يُهجَّر الناس من منازلهم وبيوتهم، وَمَن يرفض منهم ترك بيته يدمَّر البيت على رأسه ورؤوس أطفاله، وأن يُقتَل الأطباء والممرضون أو يعتقلوا ويهانوا على الملأ.
أي عالم "متحضر" هذا الذي لا تهزه صورة رضيع يبحث عن ثدي أمه تحت الأنقاض، أو أُمّ تحمل على ظهرها فلذة كبدها شهيداً، أو مشهد طفلة لم تتجاوز الثامنة من عمرها تحمل شقيقتها المصابة على كتفها باحثة عن بقية مشفى أو مستوصف. حقاً أي عالم هذا؟
أي عالم يسمح ويقبل ولا ينبس ببنت شفة أمام صلافة وزيرة خارجية ألمانيا، أنالينا بيربوك، التي وقفت بكل سفالة وحقارة وانحطاط تمنح الاحتلال الإسرائيلي حق قتل المدنيين بحجة الدفاع عن النفس. ثم يتم استقبالها في بيروت (حيث كررت كلامها السافل ولو بصيغة أقل فجاجة) وسواها من عواصم وكأن شيئاً لم يكن.
أي عالم هذا؟ وأي سياسة؟ وأي شرائع وقوانين؟
كلمة عالم متوحّش لم تعد كافية للتعبير عن الدرك الأسفل الذي بلغه هذا العالم المحكوم بلغة القوة والبطش والعنف.
قبل مدة، خلال السنوات العجاف التي انصرمت، في مرحلة تنظيم "القاعدة" ثم "داعش" وأخواتهما من حركات تكفيرية ظلامية، درج مصطلح "إدارة التوحّش"، وصدر كتاب يحمل العنوان نفسه يشرح كاتبه أبو بكر ناجي (الأرجح أنه اسم مستعار) سياسة التنظيمات المتطرفة في إدارة المناطق التي تسيطر عليها وكيفية مواجهة أعدائها وخصومها.
قارىء الكتاب لن يجد صعوبة في مقارنة "إدارة التوحّش" لدى القوى الظلامية بالسياسات التي تعتمدها القوى العظمى المسيطرة والمهيمنة على العالم في إدارتها للحروب والصراعات على امتداد المعمورة، وبشكل خاص في بلادنا العربية حيث "مربط فرس" المصالح والمطامع التاريخية بفعل الموقع الجيوسياسي الاستراتيجي، والثروات الطبيعية من نفط وسواها من نِعَم حوّلها الاستعمار إلى نِقم.
نقول إدارة التوحُّش ونحن ندرك أن في التشبيه ظلم للوحوش. وحوش الغاب لا تفترس إلا حين تجوع، ولا تنهش أبداً لحم بني جنسها، ومتى شبعت استراحت. أما هؤلاء "الوحوش" الذين يحكمون العالم فهم من صنف يصعب وصفه وتصنيفه. فالرثاثة التي بلغتها السياسة الدولية، والانحطاط الذي يعبّر عنه ساسة العالم على شاكلة وزيرة خارجية ألمانيا، يجعلنا على يقين بأننا نحيا في عالم "ما بعد التوحّش"، حيث تجرّدت السياسة من كل بعد أخلاقيّ أو إنسانيّ، وحيث تفوّق "الرجل الأبيض" على كل الكائنات المفترسة في غريزة القتل وسفك الدماء.
لئن كان مصطلح "ما بعد الحداثة" الذي ساد في أواسط القرن الــ 20، يعني المرحلة التي توصف بأنها "المنطق الثقافي المهيمن للرأسمالية المتأخرة" بحسب فردريك جيمسون، فإن الوصف الدقيق للمرحلة الحالية التي تعيشها الرأسمالية الاستعمارية هي "ما بعد التوحُّش". بمعنى أنها تجاوزت في عنفها ودمويتها أفعال وحوش الغاب، وبلغت مرحلة من الهمجية تتجاوز كل الأوصاف والمصطلحات التي نعرفها.
إذا كان المعنى القاموسي لكلمة توحّش هو "صار كالوَحْش طَبْعاً وتَصرُّفاً"، فإن أفعال قادة "العالم المتحضّر"(!) الذين يصطفون وراء مجرم حرب مثل بنيامين نتنياهو تفوق بأشواط طباع الوحوش وتصرفاتها. وإذا كان هؤلاء القادة يرتدون الأقنعة والقفازات، وينمّقون الكلام الدبلوماسي في أقوالهم التي تناقض أفعالهم، فإن وزيرة خارجية ألمانيا قد عبّرت فعلاً عن طريقة تفكير هؤلاء وحقيقة نظرتهم لشعوب العالم الثالث.
إن الرأسمالية المعولمة المتشحة بغلالات دينية وأيديولوجية هي أكثر مراحل الرأسمالية عنفاً ودموية، ولهذا الأمر أسباب كثيرة ليس أقلها المصالح الاقتصادية والسياسية، وتداخل تلك المصالح على مدار الكوكب، بحيث بات أي حدث هنا يؤدي إلى نتائج هناك (ولهذا بحث آخر). وهذه جريمة الإبادة الجماعية بحق أبناء غزة والحرب الهمجية على لبنان تقدمان النموذج الساطع لمرحلة "ما بعد التوحُّش" التي نعيشها بكل ما فيها من بؤس وانحطاط.
"ما بعد التوحُّش" مرحلة تفوق الوحشية والهمجية والدموية وكل ما شهدناه سابقاً من حروب وصراعات.
إنها الإبادة، ولا وصف آخر لها.