مؤرخو هولاكو وأحفاده
بُعد المسافة بين طاغية الأمس وطاغية اليوم في صناعة فرجة كونية وتخيّل امبراطورية شرق أوسطية جديدة تحيلنا إلى الجنون نفسه، أما مؤرخو المنصّات الذين وجدوا في جنرالات "إسرائيل" ملاذاً في صناعة ثوراتهم بالريموت كونترول فمصيرهم مصير الجويني والهمذاني!
يشبه الجنون الإسرائيلي الراهن، ما فعله المغول قبل قرون! وكأن لكل حقبة هولاكو أو جنكيز خان أو تيمورلنك يدمغها بختمه الخاص.
هناك تقاطعات صريحة بين هؤلاء في كيفية تصنيع وتصدير التوحّش لرسم خرائط جديدة، لكن بنظرة ما فإن هذا الوحش يصوغ معادلة خاسرة في تأصيل فكرة خرقاء سبق أن أنجز بروفات متعاقبة منها تحت بند "أرض بلا شعب"، ذلك أن حراثة الأرض بالدبابات لا تلغي جذور أشجار الزيتون، فالنباتات تبزغ من الشقوق.
ما حدث ويحدث في فلسطين ولبنان درس منهجي في الإبادة والأرض المحروقة، لكنه في المحصّلة يقع في باب "خطأ في الترجمة". فالهمجية لا تصنع تاريخاً قابلاً للتداول أو الإقامة. لكن ما هو صالح للاستعادة يتعلّق بعمل المؤرخ العميل، ذلك الذي يلجأ إلى ضفة المحتل في حربه على السكّان الأصليين على أمل أن يكسب شيئاً من حساء الوليمة الموعودة، فهو ينظر بعينٍ واحدة مبجّلاً بربرية العدو، أو ما يمكن تسميته "المثقف المتأسرل"!
هذا الطراز من الكَتَبة الذين يغزون المنصّات وبحشد من الذرائع التي تحمي وجودهم في أحضان الإمبراطوريات المُتَوهّمة.
يحضر في السياق التاريخي للعمالة كنسخة أولى من هؤلاء مؤرخان عملا لمصلحة بلاط المغول وتمجيد زمنهم بأطنان من الأكاذيب. الأول هو علاء الدين عطا الله الجويني، صاحب كتاب "تاريخ فاتح العالم"، وفيه يهدي قائد المغول"منكوقا آن" لقباً رنّاناً هو "سيد وجه البسيطة"، ثم سينزلق في النفاق أكثر حين يمجّد هولاكو الذي اجتمعت به "مخايل السُلطة ومراسم الغلبة". ويستنفر معجم البلاغة في وصف رماة المنجنيق ممن "بوسعهم أن يجعلوا للجمل منفذاً من ثقب الإبرة بقذائف الحجارة".
وكما في زلزال 7 تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، ركب هولاكو "مطية العز والاقتدار" في 19 تشرين الأول/أكتوبر عام 1253، وعندما تحرّك بجيشه "بدأت الجبال ترتجّ وقلوب الملوك ترتعد". سيخلّف هولاكو مدناً وحواضر مدمّرة وسيسويها بالأرض وسيفتك بالأهالي، لكن المؤرخ/العميل، سيدوّن وقائع مضادة متجاهلاً مذابح هولاكو وحرائق منجنيقاته، مؤكداً أنّ هذا المحارب كان لديه "شغف وميل في تعمير الخرائب". أما هدم إحدى القلاع فلا يثير أسى هذا المؤرخ بقدر انهماكه باستعارة صورة شعرية في وصف المشهد قائلاً "كنسوا ترابها بمكنسة الفناء"!
من جهته، سعى رشيد الدين الهمذاني في كتابه الشهير "جامع التواريخ"، إلى منافسة الجويني في تمجيد جرائم الوحش وتوثيق "فضائله". إذ يورد محتوى الرسالة التي وجّهها للخليفة المعتصم بالله مهدّداً إياه بتسليم مدينة بغداد من دون مقاومة وإلا سيدكَّ حصونها: "حينما أقود الجيش إلى بغداد، مندفعاً بسورة الغضب، فإنك لو كنت مختفياً في السماء أو في الأرض فسوف أنزل من الفلك الدوّار وسألقيك من عليائك إلى أسفل كالأسد ولن أدع حياً في مملكتك".
لم يستجب المعتصم بالله لتهديد الطاغية المغولي ناصحاً إياه بألّا يغترّ بـ"يومين من الإقبال". هنا يجد المؤرخ فرصته في الثأر البلاغي قائلاً "فتوجّه هولاكو إلى بغداد بجيشٍ كالنمل والجراد".
في الفصول اللاحقة من كتابه "فتح العالم" يحاول الهمذاني أن يخفّف نسبة التواطؤ للمغول مسترشداً بنبوءة عرّاف هولاكو التي تتلخّص بقوله إن: "كل ملك قصد العباسيين لم يستمتع بالمُلك والعمر، وأنه إذا حاربهم فستنفق خيوله ويمرض جنوده، ولن تطلع شمسه والمطر لن ينزل، وسينهار العالم بزلزال ولن ينبت نبات في أرض وسيموت ملك المغول في هذه السنة"، إلا أن هولاكو لم يعبأ بنبوءة العرّاف، وأمر جيوشه كافة بأن تتحرّك صوب قلب الدنيا معلناً حربه الهمجية.
بُعد المسافة بين طاغية الأمس وطاغية اليوم في صناعة فرجة كونية وتخيّل إمبراطورية شرق أوسطية جديدة تحيلنا إلى الجنون نفسه، أما مؤرخو المنصّات الذين وجدوا في جنرالات "إسرائيل" ملاذاً في صناعة ثوراتهم بالريموت كونترول فمصيرهم مصير الجويني والهمذاني!