ليست كالكلمات

قديماً قال الجاحظ: "المعاني مطروحة في الطرقات". المبدع الحقيقي هو الذي يجيد التقاطها وصياغتها في قوالب جديدة مختلفة ومدهشة.

نكتب دائماً عن أهمية الكلمة وضرورتها، ولا سيما في اللحظات الحرجة والأوقات المصيرية التي تعيشها الشعوب والأوطان. وفي الصراع مع المحتل الإسرائيلي، الذي يكاد يبلغ قرناً من الزمان، تغدو الكلمة أكثر من ضرورية. ولو لم تكن الكلمة هامة ومؤثرة، لما استهدف الاحتلال الأدباء والمفكرين والصحافيين والإعلاميين على مدى سنوات الصراع.

في غزة وحدها بلغ عدد الشهداء الصحافيين والإعلاميين أكثر من 170 شهيداً، وهذا برهان واضح على الاستهداف المنهجي الذي يمارسه المحتل لحجب الكلمة ومنع الصوت والصورة كي لا يطّلع العالم على حجم جريمته المتمادية بحق الشعب الفلسطيني.

حين يعلو صوتنا دفاعاً عن الكلمة، وإعلاءً لشأنها، وحين نلحّ في دعوتنا كل صاحب كلمة إلى عدم السكوت والقنوت، هل يعني ذلك أي كلمة، كيفما كانت؟ وكيفما اتفق؟ أم أن الكلمة المعنية والمقصودة هي الكلمة المتقنة والزاخرة بالمعنى، والمرتفعة إلى مرتبة القضية النبيلة التي نكتب لأجلها؟

السؤال الملحّ الذي يواجه أي متابع اليوم هو كيفية التميز وسط غابة نصوص متنوعة نثراً وشعراً، فيها كل ما يخطر أو لا يخطر على بال، يتجاور الغثّ والسمين، النفيس النادر والبخس الشائع. كل ما كان يُكتب سابقاً على كراس مدرسي أو دفتر مراهَقة بات يُنشر اليوم في مواقع التواصل الاجتماعي. تكفي بضعة "لايكات" من هناك وهناك كي يشعر "الكاتب" بالرضا ويبلغ نشوة الاكتمال.

طبعاً، ليس لأحد الحق في حجب أحد، ولا فضل لعربي على أعجمي في هذا المقام إلا بجودة النص المنشور على الملأ. قديماً، قال الجاحظ: "المعاني مطروحة في الطرقات". المبدع الحقيقي هو الذي يجيد التقاطها وصياغتها في قوالب جديدة مختلفة ومدهشة.

لا وصاية في الإبداع، ولا أبوّة بطريركية، بل تمرد وثورة وخروج على الطاعة ونأي بالقلم عن النسخ والتقليد. المبدع الحقيقي ليس مَن يكسر مزراب العين، بل مَن يهدم سقف الوصاية ويحلّق فوقه عالياً. كل جيل يواجه تحدياً أولياً يتمثل بتجاوز الجيل الذي سبقه، لا برفضه أو محوه أو بإقصائه والقطيعة معه، إنما بفهمه وهضمه ومعرفة قيمته، ومن ثم الانطلاق نحو مدى جديد لا حد له سوى الخيال.

معظمنا يعرف حكاية أبي النواس، يوم كان فتى غرّاً مع أستاذه والبة بن الحُباب حين سأله: كيف أصبحُ شاعراً؟ أجابه اذهب واحفظ ألف بيت من الشعر. فعل أبو النواس ما أراد أستاذه، ثم عاد إليه: والآن؟ أجابه والبة: انسَ كل ما حفظت ثم ابدأ الشعر.

الاستنتاج واضح. لا يمكننا البدء من الصفر، لكن أيضاً لا يمكننا اجترار ما سبقنا إليه الأسلاف. نحفظ، نحلّل، نفهم، نسنتج، ثم "ننسى" لكي نتجاوز. بغير ذلك، يغدو كل قول مجرد اجترار يوهمنا بالاكتفاء... لكنها معضلة؛ معضلة فقدان المعايير. ثمة ما يُكتَب ويُطبع ويُنشَر مفتقراً إلى أدنى شروط الكتابة: سلامة اللغة. ثمة نماذج كارثية تصدر تحت مسمى الشعر والرواية وسواها. هل كان الأمر دائماً على هذا النحو، وما وصلنا من الأقدمين هو فقط النصوص التي تميزت ونفذت عبر الزمن لأنها امتلكت سمات إبداع إنساني قابل للحياة؟

في كل زمان، ثمة العادي والاستثنائي، لكن الأكيد أن ما من مشهد عشوائي عرفته الكتابة شبيه بما نحن عليه اليوم. سهولة النشر باتت سيفاً ذا حدّين، حدّ الحرية الضرورية لكل جنين إبداعي، وحدّ الفلتان المُشوه (بكسر الواو) الذي يختلط فيه الحابل بالنابل، فلا يعود المتلقي (جميعنا اليوم مُرسل ومُتلقٍ في آن) قادراً على التمييز بسبب عشوائية المشهد وفوضاه غير المنظمة!

ثمة نوع من مَشاعية بدائية في جغرافيا الكتابة؛ مَشاعية منحت الجميع "حقوق طبع" متساوية، وهذا لا غضاضة فيه ولا تذمُّر. الحبرُ مشاع الأفكار والرؤى والمشاعر والأحاسيس، ولكل امرئ الحق في المحاولة؛ للمجتهد أجر واحد إن أخطأ، وأجران معاً إن أصاب.

في هذه الغابة الكثيفة الوعرة، تغدو الندرة جوهر التميز، فالقيمة النفيسة تأتي من الندرة. النادر دائماً باهظ الثمن، والشائع المألوف المتداول أقل قيمة. كلما تضاءلت فرص العثور على شيء ازدادت قيمته. وهنا التحدي الأبرز الذي نراه ماثلاً أمام كل راغب في حرفة الأدب والكتابة. البشرية قالت كل شيء؛ ما من مسألة إلا وطرقَ أسلافنا أبوابها. كتبوا الحب والحرية والولادة والموت وما بينهما. باختصار، كتبوا الحياة. ما بقي لنا هو كيفية إعادة صوغ تلك المضامين الإنسانية العميقة بما يحاكي واقعنا وتطلعاتنا ورؤانا وفق أساليب وأشكال وطرائق تعبير جديدة ومبتكَرة. تَميّزْ واختلفْ وكُنْ البجعة السوداء.

سمة عصرنا الطاغية هي السهولة في عالم تجتاحه قيم الاستهلاك وتسوده العصبيات القاتلة، من غريزة الإبادة المتوحشة التي يمارسها المحتل الإسرائيلي ضد أبناء الشعب الفلسطيني إلى غريزة الهيمنة التي لا تقل توحشاً وإجراماً وهي تطحن شعوباً وأمماً، لا أفراداً وجماعات فحسب.

لكن الرجاء، كل الرجاء، أن يخرج من جوف هذا التغوّل، ومن غمرة التضحيات الهائلة، ما يضاهيها من إبداع لا يستقيم ولا يَعبُر في الزمان بغير انحيازه إلى الإنسان.

أولى شروط الكتابة الإبداعية هي إتقان اللغة التي نكتب بها، فكيف الحال إذا كنا نكتب عن القضايا الجوهرية والمصيرية؟ حينها، يغدو الإتقان أكثر ضرورة وإلحاحاً، فمن غير الجائز أن نعبّر عن القضايا السامية إلا بلغة ترتقي إلى مصاف هذه القضايا. الكتابة عن الأرض والوطن والشهداء لا تمنحنا أفضلية، ولا تعفينا من البديهيات، ولا تمنحنا علاماتٍ تشجيعية، بل على العكس تماماً، كلما تضاعف نبل القضية التي نكتبها صار الحمل علينا أثقل والمطلوب منا أكثر. ومن أولى البديهيات حين نريد الدفاع عن قضايا الأمة أن نتقن لغة هذه الأمة؛ أمة اقرأ واكتب واطلب العلم ولو في الصين!

الآن، هنا، نحيا مرحلة ليست كبقية المراحل التي سبق أن عشناها ومررنا بها؛ مرحلة تستدعي منا كلمات ليست ككل الكلمات.
***
…وتلك فاطمة (*)
‏تقطفُ باقةً مِن وَرْدٍ ودعاء
‏وَتَرْنُو بِطَرْفِهَا صَوْبَ الجنوب
‏فَيَطلع قمرٌ كَوَجهِ مُحَمَّد
‏وتبتسم سماء.
(*) من قصيدة الشاعر "بقيّة الله".