حاتم علامة يبحث في سياسة "لا غالب ولا مغلوب" في لبنان

لبنان صورة من دولة (مهشمة مهمّشة)، مجتمع متطيف بائس وزعيم محتضن بإغلاق سياسي.

  • كتاب جديد يبحث.. فلسفة لا غالب ولا مغلوب في لبنان

كتاب "لبنان الضرورة والامتياز"، وجهة نظر تحدث من خلالها الدكتور حاتم علامة، عن إشكالية الصيغة والنظام والهوية، في مقاربة كلية لتحليل عميق في البنية اللبنانية، وبحث في منهج جديد بشأن مستقبل لبنان بحيثيات معرفية فلسفية في الحقول السياسية والاجتماعية، ولهذا اتخذ البحث منهجية في تفكيك عوامل الصيغة لوضع قراءة الفلسفة السياسية والاجتماعية ونظرياتها في مختبر الواقع اللبناني.

والمؤلف الدكتور علامة، إذ يكتب في المسألة اللبنانية من منطلق فكرة تصالحية ومقاربة قضايا الهوية والانتماء، ومن أجل الحرية، وافتداء لوطن الضرورة والامتياز، مع أولوية احترام الآخر وحقوقه، استناداً إلى حوار مباشر مسؤول.

كتاب "لبنان الضرورة والامتياز"، للدكتور حاتم علامة، يقسم إلى خمسة فصول صادر عن "الدار العربية للعلوم" (ناشرون) في بيروت العام 2023، من القطع الكبير يقع في 200 صفحة.

تاريخ لبنان هو تاريخ الطوائف 

يعدّ المؤلف هذا العمل قراءة في حاضر لبنان ومستقبله، من خلال مقاربة فلسفية سياسية موضوعية. وموضوعيتها تتكئ على منهجية تبتعد عن أيديولوجيا تتسلّح بمفاهيم قبلية لمواجهة هذه النظرية أو تلك، مع أهمية توضيح أن اللجوء إلى خيار الفلسفة السياسية ليس نتيجة اختصاصنا في هذا المجال بالمعنى الأكاديمي، إنما هو جهد بحثي لأعمالنا السابقة حول لبنان، أو في مجالات المعرفة والحضارة والهوية، فضلاً عن البحث في الإرادة والقضاء والقدر، قد أخذنا أو أنّنا أخذنا به إلى قراءات بمعنى فلسفي في الأخلاق والقيم والمعنى.

لذا، تتجلّى الكتابة عن لبنان بإشكاليات البحث في عمق العلاقة بين مكونات الدولة بالمعنى الحديث، ويشتد ضغط المأزق البحثي عند حقيقة أن كتابة تاريخ لبنان، هي كتابة تاريخ الطوائف اللبنانية أكثر منه تاريخ الدولة والمجتمع والمواطنية.

يحرص المؤلف على التنبيه إلى ضرورة التعالي على لغة العصبيات والخطاب التحريضي التعبوي الذي ينغلق في أيديولوجيا فئوية من الكراهية للآخر، والبحث عن أقصر الطرق للارتماء في أحضان المشاريع الخارجية، أو استقطاب دعم التدخلات الخارجية للاستقواء في وجه هذه الفئة أو تلك. علماً أن قلة قليلة من اللبنانيين لم تقع في فخ المعادلات الجيوبوليتيك وتداعياتها على الواقع اللبناني، وعلى كل المكونات الاجتماعية اللبنانية، ونحن لا نتحدّث عن النظام الذي تكرّس عبر قوننة تربع قيادات باتت جزءاً عضوياً من البنية اللبنانية المتصدعة، وحارساً لهذه البنية، بل نخص الجماعات التي يقوم على عاتقها خلاص لبنان، وفي سجلها من الإيجابيات ما يكفي للرهان على تدارك الانزلاق إلى ظلامية اللعب بمصير البلد، ففي رصيد المكوّن الإسلامي ما يدفعنا إلى الرهان على صوت العقل وشجاعة الموقف، وقوة مواجهة الأطماع الإسرائيلية، أو صون استقرار لبنان في وجه الفكر الظلامي والإرهاب بالاعتدال. فهي مرتكزات نأمل أنّها تتكامل مع الارتباط الوجودي بين وطن الامتياز، والفكر المسيحي المنفتح على روح الإبداع مجسداً سراً إنسانيّاً في التعالي على الغريزية والعصبيات القاتلة درءاً لخطر الانزلاق إلى الطروحات التقسيمية القاتمة، والتي تضع معاناة هذه المرحلة متى وجدت سلاحاً يرتد على الرسالة والوطن ويغامر بالمستقبل.

في مقاربته يحدد الدكتور علامة، أن محور هذا العمل هو الهوية ضمن الكيان وديمومته، والشرط الأول لاستقرار هذا الكيان هو شرط العدالة والقيم واحترام مفاهيم الأخلاق السياسية كمرجعية في تطبيق الحقوق السياسية والاجتماعية، وفي البحث في الهوية تفتيش عن المعنى، كمرجعية لاستشراف مستقبل الإمكانية والضرورة، وللإجابة عن سؤال المصير. وهي مسائل ترتبط بالإجابة عن إعادة صوغ الأسئلة حول الإنسان – المواطن اللبناني، انطلاقاً من سوسيولوجيا السياسة، وثقافة العصبيات المتنوّعة والأجوبة بشأن الفردانية كمعيار قيمي للاستفادة من الحركة الفلسفية الاجتماعية والسياسية في تحليل الوضع اللبناني والتعاطي مع تحدياته.

إشكالية الصيغة والنظام

مع كل هذا الانكشاف للوضع اللبناني على واقع إقليمي متفجر، وفي عالم يفتقر إلى الاستقرار تزداد التجاذبات بشأن الصيغة، والنظام السياسي لذلك ثمة حاجة للعودة إلى الأصول الفلسفية الفكرية، لتشخيص الثقافة السياسية في لبنان، والحاجة ماسة إلى استنباط ومحاكاة الظروف والمعطيات التي أسست لقيام لبنان، الذي أتى قيامه كضرورة في المسار التاريخي للتطوّرات على الصعيدين الدولي والإقليمي، وبمراعاة الحدود الدنيا من ظروفه الكيانية، ومقومات الانسجام بين تركيبته الداخلية، وعوامل التكوين الإقليمي الشرق أوسطي. 

يوصف المؤلف أن اللبناني ينعم بتنوع فريد، تنوّع قد ساهم في تزويده بمؤونة في دنيـا البحـث عن ملاذ لكن هوية الانتماء إلى وطن هي أكثر من ثقافة تنوّع، وترسيخ الهوية الوطنية أكثر من التسليم بقبول الآخر، وهي في الحد الأدنى وطن نستمد معه هوية مرجعية، ونعيش ضمن حدود آمنة في دولة ننتمي إليها ونتمتع بحقوق نمارسها في كنف قوانين وأعراف تحكمها مسلّمات المواطنة بعيداً من الفئوية وحكم الفساد. 

لم يشهد لبنان من قبل هذا الاهتراء في حال الدولة، على رغم عدم اكتمال مشروع بناء الدولة في حدوده الدنيا، وكان سؤال الهوية رديف الانتماء لكنّه اليوم مفهوم متهالك، ثمة التباس وتيه في فضاء التفتيش عن معنى للهوية كمتغيّر متحقق في ثابت الانتماء إلى وطن. وفي كنف ضبابية التواصل بين الدولة والمجتمع، وهشاشة السياسات الاجتماعية والفعل السياسي المعني بتأمين الحضور الاجتماعي -السياسي، وبلورة السياسي في استراتيجية تطوّر الدولة والمجتمع تأسيساً لحكم رشيد وارتكازاً إلى فلسفة سياسية اجتماعية من وحي أخلاق الرؤى الخاصة بالصورة الحضارية للامتياز.

يعتقد المؤلف في كتابه "لبنان الضرورة والامتياز"، أن لبنان في اللحظة الإقليمية، (وواقعه المتردّي) يبدو جمهورية في الشكل في وقت يزداد الافتراق بين الدولة والمواطن، وتهدّد السياسة لقمة العيش بعد بحبوحة من دون مرتكزات، لبنان الكيان لحظة تعصف به الجيوبوليتيك. لكنّها عاصفة، مع الجيوبوليتيك المحدث، البديل، تخلخل ثقافة النموذج وتقطع أوصال ما بني من جسور بالأمس بين لبنان الامتياز وتكريس مقاربات للفلسفة السياسية تجلت بتخندقها عبر ترسيم انتقائي لتاريخ لبنان.

تدور الأسئلة حول عقم المحاولات التي تصدّت لمهام بناء الدولة في لبنان، وهي محاولات تشمل النظريات والأفكار التي سعت إلى إماطة اللثام عن برامجها، أو تلك التي استنكفت عن إعلان نيات واضحة بشأن لبنان التي تريد، أو عبّرت عن فلسفتها في السياسة والهوية عبر مشاريع مموّهة أو عبر شعارات تمويهية في واقع تنطوي فلسفة وجوده وخصوصياته الثقافية والسياسة ذات الطابع التوفيقي لتأجيل حل المشكلات التي تعصف بوجوده، من هنا يقارب المؤلف في كتابه تشابك البحث في العنوان الأساسي في الفلسفة السياسية والاجتماعية مع التطوّرات التي طرأت على مفهوم الفلسفة وعلاقتها بتطور العلوم في الحقول المتنوعة، خاصة بالنسبة إلى تطوّر الفكر لفلسفة قيام الكيان اللبناني بين رحاب الاهتمام الدولي، بصورة خاصة، وبمنطقة الشرق الأوسط بشكل عام.

إشكالية الصيغة والنظام

استدراكاً لأي صورة قد تتلبّس السرد التشاؤمي، فإنّه لا بد من التنبيه إلى أن الكتابة عن مأزق لبنان هي مغامرة تتوق إلى البحث عن مخارج فالسياق الحالي لتطوّر الوضع يبدو مسدود الأفق، وها هي الدعوات إلى تغيير تتوزّع بين انقلاب على الصيغة وتداعياتها ومواثيقها، وبين رهانات على قيام ثورة تقلب النظام السياسي بالإصلاح والتغيير.

تبحث هذه الدراسة في مستقبل لبنان من خلال منهجية نقدية تستند إلى تحليل فلسفي اجتماعي وسياسي عبر نتاج وأعمال احتلت مواقع أساسية في الفكر أو القرار أو في كليهما معاً، في فترات متفاوتة.

يبدأ المؤلف القسم الأول في الفصلين الأول والثاني من كتابه، بوقفة مع تطور الفلسفة السياسية وتفاعلاتها الاجتماعية، وتوضيح العلاقة بين السياسة، فضلاً الفلسفة وعلم السياسة عن التأسيس لمقاربة فلسفية سياسية واجتماعية تمهيداً لتناول السياسات الاجتماعية، من قبيل علاقتها بفلسفة النظام والأخلاقيات السياسية في تحديد وضعية العلاقة بين الدولة ودينامياتها السياسية الاجتماعية. 

أما الفصل الثاني فهو بحث في الظروف المحيطة بلبنان، والشرق أوسطية في خصوصياتها وتفاعلاتها لتفتح على تجربة تفيض بالمعاني، وتكشف عن أبعاد جديدة لتحديد خارطة متكاملة المعاني جغرافياً وفكرياً وثقافياً ودينياً وفلسفياً، وتشكل المرجعية العربية في هذه الأبعاد جزءاً عضوياً من الدراسات حول لبنان.

أما القسم الثاني فيتعاطى مع لبنان الامتياز من خلال فصلين، تتناول الأبواب المخصصة له تحليل نشأته، ورصد أبرز المحطات ضمن الخصائص التي أعطت للكيان الجديد خيارات تتراوح بين ترجمة مفهوم الدولة من جهة، والوظيفة الإقليمية التي حمل لواءها لبنان سايكس – بيكو؟.

هذا البحث كما يعتقد المؤلف، في كيانية لبنان الدولية الإقليمية، يأخذنا إلى استشراف الخيارات المصيرية، ومحاولة اختراق الضبابية التي تكتنف تفكيك التناقضات اللبنانية وتشكل عناوين المأزق الراهن وعوامله. أما القراءة في حقل الفلسفة اللبنانية، وتناول نتاج أبرز أعلامها، فهو مدخل إلى وقفة مع السؤال حول المصير والواقع المفتوح على احتمالات نضيئ عليها بكثير من الحذر، ذلـك أن طروحات الفلسفة السياسية في ما يتصل بالمصير، في حالة لبنان يتناول مجموعة من الإشكاليات المتداخلة على مستوى تحليل ماهية الفلسفة والفلسفة السياسية ومداهما في الفلسفة الاجتماعية في لبنان. وهو مشروع تفكيك العلاقة الفلسفية السياسية، في طابعها اللبناني والعلاقة بين مرحلة حساسة بالنسبة إلى علاقة هذه الفلسفة اللبنانية والفلسفات المؤثرة من لدن الفلسفة العالمية أو الفلسفة العروبية أو القومية.

الفلسفة التوفيقية اللبنانية

يشير المؤلف إلى الفلسفة السياسية والاجتماعية في لبنان وهي تختصر نموذج هذا الوطن القائم على ابتداع التسويات والحلول الوسط وشعارات تحفظ مكانة الجميع، من هذا القبيل، وباستكشاف تأثيرات المرحلة التي رافقت الاهتمامات الفلسفية بالصيغة اللبنانية، والسؤال، هل ساهمت هذه الاهتمامات في ترسيم حدود للفكر اللبناني؟ وهو الفكر الذي راح يبتكر مشروعات فلسفية توفيقية للعلاقة مع فكرة المعايشة في المعنى اللبناني عبر الشراكة بين العائلات الروحية المختلفة، أو فلسفة القومية العربية والقومية السورية. وما هو تأثير الفلسفات الماركسية والاشتراكية في مرحلة لا يخفى فيها حضور الفكر اليساري.

 ويتوقف الباحث عند ثلاثة نصوص تأسيسية ازدهرت معها الفلسفة الاجتماعية، إذ يعود النص الأوّل إلى ماركس، وماكس هورکهایمر (1895- 1973)، وهو يذهب إلى القول بأن الفلسفة الاجتماعية تمثل نوعاً من التأويل الفلسفي لمصير البشرية، بوصفهم أفراداً يعيشون في جماعة، لأنّها لا تهتم إلا بالظواهر التي لا يمكن فهمها إلا من خلال الحياة الاجتماعية المتمثلة في الدولة، والقانون والاقتصاد والدين، أي بالشروط المادية والروحية للثقافة الإنسانية في كليتها وقد عكست تعليقات هوركهايمر الأفكار الماركسية في الصراع داخل المجتمع، والعلاقة المتبادلة بين الفرد والمجتمع. 

أما نص أدورنو فقد دعا إلى ضرورة التخلّي عن الوهم الذي صاحب المشاريع الفلسفية والمتمثل في إدراك الوجود الكلي عبر قوة الفكر، متوقفاً عند أهمية علم الاجتماع في بلورة عناصر دقيقة ترتبط بالمواضيع الفلسفية وذلك بحسب الحاجات الخاصة بعمليات التأويل.

أما النص التأسيسي الثالث، فقد أسند إلى أكسيل هونيت، وقد أجرى تحديداً للفلسفة الاجتماعية وهي تقوم على ثلاث خطوات متكاملة تاريخية، وتحليلية.

خارطة معيارية لصيغة لبنان

تطرح التجربة اللبنانية أسئلة خاصة بالمجال السياسي الاجتماعي، لذلك تبدو اتجاهات الفلسفة السياسية إلى بلورة المجالات التي تهم المجتمع طريقاً إلى وضع خارطة معيارية مناسبة. وتتصل باهتمامات هذه الفلسفة من حيث مباحثها في شؤون الدولة وتوزيع السلطة، ونظام الحكم والقانون والمشاركة ما يتطلب البحث في نظرية سياسية اجتماعية، وهي نظرية تستند إلى امتلاك جدارة في مباحث الفكر السياسي وفي تحليل الظاهرة الاجتماعية في علاقتها التبادلية مع الوحدات السياسية في الدولة، ونموذجها السلطوي.

الأكثر أهمية بالنسبة إلى هذه المؤسسات هو الدولة، مع كل وظائفها القانونية والسياسية والاقتصادية، ويمكن القول إن الفلسفة السياسية هي دراسة السلطة للمراكز المؤسساتية للسلطة الاجتماعية التي تنظم وتوجه حياة الأفراد الذين يعيشون معاً. والسؤال الأساسي بالنسبة إلى الفلسفة السياسية يبحث في تبرير السلطة السياسية في مساحة تبدأ بمعرفة ما هو جيّد في توزيع الحقوق والامتيازات الاجتماعية في المجتمع. 

أما موضوع لبنان ومصيره، وتحديداً من خلال الفلسفة السياسية وقضايا الهوية والسلطة وسوسيولوجيا العصبيات والفردانية، فلها في التاريخ الذي عرضنا لأهم محطاته نصيب وافر، ومساحة توفر تناول جملة من الخلاصات، عرضت في فصول الكتاب حسب الأولويات.

ومن المفيد أن يسرد المؤلف في هذا الباب مجموعة من العناوين، التي تشكّل رابطاً بين تداعيات تطوّر القومية العربية، والنقاش الذي تتركّز حوله تحليلات هذا العمل بشأن الفلسفة السياسية في لبنان، وبين الدور والمسؤولية في ما آلت إليه الأحوال المتردّية في لبنان الذي يرزح تحت خطر الانهيار أو الزوال، أو إعادة البناء عبر تركيبة جديدة، أو صيغة بديلة، وكلّها مصطلحات يتم تداولها في خطاب تعبوي، عاطفي المظهر، أيديولوجي المضمون.

من المعروف أن مفهوم الأمة ارتبط بجماعة تقطن بقعة من الأرض، ويرتبط أفرادها بمجموعة من الروابط التي تميّزهم مثل اللغة، والتاريخ، والمصالح المشتركة، وغايات مشتركة، وهي امتداد للأجيال التي تعاقبت في الشخصية التي تجسدها الأمة.

يلاحظ الدكتور علامة، في حالة لبنان إشكالية الانتماء والهوية والاختلاف، حول قضايا التعددية، والعروبة وتفسير النصوص الخاصة بالدستور والميثاق، الذي يرتبط ببحثنا بالفلسفة السياسية في لبنان وإشكاليات الهوية يتموضع في تحديد العلاقة بين تطوّر القومية العربية والبحث في هوية لبنان من حيث يشتد التجاذب بين عدة مفاهيم تتغذى من نظریات فلسفية فكرية تنهل من مصادر مختلفة.

يشير الدكتور علامة إلى أن لبنان يدفع ضريبة ما ابتلي به من عقم في السياسات الاقتصادية والدين، وتنوء تلك النظريات الفلسفية الفئوية، أو المتغربة تحت نظرات ازدراء، أو إخراج من التداول، في حين تبقى في دفاتر النجدة لهذا الزعيم أو ذاك في منظومة تحريضية، فلبنان صورة من دولة (مهشمة مهمّشة)، مجتمع متطيف بائس وزعيم محتضن بإغلاق سياسي لاهوتي، ومطعون فيه في أمر الدين وخلاص الإنسان؟.

رغم كل الاهتزازات التي يعيشها، لبنان، ومع كل السيناريوهات المحتملة للتهاوي الذي لا يوفّر أي وجه من وجوه النظام، ورغم كل المقولات التي تضرب في أعماق فلسفة الكيان، وتخلخل المفاهيم التي تغالبت مع الصيغة من اليمين واليسار فإن للبنان طابعه الخاص، من حيث الدور، والهوية، والحضارة، والموقع الجيوبوليتيكي المتألّق، فهو ممر للازدهار وحركة التبادل في وقت السلم، وهو صندوق بريد، وساحة تصفية حساب للصراعات الدولية، والإقليمية، حيث تتمدّد التركيبة لحمل أوزار الآخرين.

إشكالية الهوية الوطنية

خضعت التجربة اللبنانية كما وردت في كتاب "لبنان الضرورة والامتياز"، لعدة محاولات على طاولة البحث في العناوين الآنفة الذكر، وتدعو إلى إعادة ترتيب هذه العناوين وارتباطها بالنظريات السياسية حول الدولة والسلطة في امتداداتها المتشعبة وإشكاليات الهوية في أبعادها الإنسانية والقومية والوطنية. إنّه انقسام متفجّر متشظ حول التاريخ والانتماء والمصير. «قد يقال بحق إن لبنان اليوم لم يعد بلداً إلّا بالاسم. ومن الغريب، مع ذلك، أنّ مسلمي لبنان ومسيحييه لم يظهروا في السابق ما يظهرونه اليوم من وعي لهويتهم الوطنية المشتركة، وإن كان ذلك بقدر من الاختلاف في تعریف مقوّمات هذه الهوية». كلام يعود إلى بيئة الحرب الأهلية، لكنّه لا يزال قوي الحضور، فهذا هو لبنان المفارقة منذ إعلان دولة لبنان الكبير، والمفارقة الأكبر أنّ مصدر الإصرار هو في الغالب الفئة التي تمالئ الدعوات الانفصالية اليوم، بالمباشر، أو بمسمّيات متفاوتة. 

في حين أن الجزء الأساسي من أرضية الاستقرار كان وسيبقى (معادلة اللاغالب ولا مغلوب)، فما من فريق يمكنه أن يتفرد بحكم البلد. تلك هي روحية الصيغة اللبنانية منذ قيامة لبنان. كان المسيحيون مؤتمنين على الصيغة، وكان عليهم تقديم صيغة للشريك المسلم من أجل ما يسمّى بميثاق العيش المشترك. أظهرت التجربة أن العالم يستنكف عن التدخل المباشر في الساحة اللبنانية، ما دامت الأمور تحت السيطرة، ولا تتجاوز اللعبة اللبنانية، حتى بالنسبة إلى المواجهة مع "إسرائيل"، فإن لبنان عامل في الصراع، لكنّه ليس بيت القصيد والساحة مفتوحة لإعادة الأمور إلى نصابها عند اللزوم، ومهما كان الثمن. والمعادلة هي دائماً جرس إنذار للبنانيين، علّهم يعتبرون من التجارب. على لبنان أن يدفع ضريبة الامتياز، والضريبة هي استحقاق بالمداورة، نظام من التوازنات شديدة الحساسية للخارج. لكنّ لبنان إزاء الحساسية الإقليمية والدولية ليس مجرد كيان على قارعة الطريق بالرغم ممّا يصيبه في غمرة الانشغالات الدولية من إهمال، أو تأجيل؛ ذلك أن لبنان إلى الجيوبوليتيك بكل مفاعيله.

إذا كانت ولادة لبنان قد ترافقت مع تقاسم الإمبراطورية العثمانية، وما نشأ عن ذلك من قيام مجموعة من الكيانات على أنقاض الخارطة القديمة، فإن مجموعة من العوامل ذات الصلة بالسياسة والاقتصاد والثقافة والدين قد أنتجت في تزاوجها مع المخطّطات الاستعمارية لتقاسم المنطقة، والإبقاء على سبل تكفل استمرار التدخل فيها تبعاً للنفوذ الدولي والإقليمي. من هنا، نشأت هذه الثنائية الفريدة في كيان متميّز، وصيغة تضمن احتواء الهويات لا انفجارها، وعلى الرغم من كل الحروب التي مرّت على اللبنانيين من دون أن تنهار الدولة بالمعنى الفعلي، برغم تهاويها لمرات عدة، كانت أقسى تجاربها الحرب الأهلية (1975 -1990).

السؤال الذي يتصدّر إشكاليات التفلسف السياسي في حال البلدان مثيل لبنان يتعلق بالمستوى الفكري الفلسفي لصوغ أجوبة لأسئلة علمية، والقضية المحورية تدور حول التكامل بين النظرية والتطبيق في غياب الحرية على مستوى الدولة في مدار العلاقة بالخارج، أو على الصعيد الداخلي حيث الحاجة إلى تحرير الإنسان الفرد أو المواطن من غلال المنظومة الأيديولوجية السياسية الطائفية الثقافية.

استفاضت الأبحاث في الحالة اللبنانية في توصيف النظام السياسي، والبنية السياسية التي ترسّخت مع الميثاق وخطوات الإعداد لتكريس العمل به. لبنان 1920 -2023 من تحضيرات للتأسيس إلى صراع من أجل البقاء. لبنان الضرورة السياسية في مسار التاريخ وصيرورة الجيوبوليتيك ومخاض الصراعات الدولية ظل يصارع بلغة الاستقلال، وبطاقة السيادة من أجل حقه في البقاء، لكن ثمة ما كان ينخر بناه السياسية والاجتماعية فهل يتمكن لبنان من الصمود في وجه الأعاصير، سؤال للمستقبل برسم جميع اللبنانيين؟