في عمق المخطوطات: ما مدى حضور التراثين العربي والإسلامي في إثيوبيا؟

ما هو علم المخطوطات؟ ولماذا تهتم إثيوبيا بمخطوطاتها؟ وأي حضور للتراث العربي والإسلامي في المخطوطات الإثيوبية؟

علم المخطوطات (Codicology) يعني دراسة كل أثر لا يرتبط بالنص الأساسي للمادة أو الكتاب الذي ألّفه صاحبه، وهو دراسة العناصر المادية للكتاب المخطوط (مكونات المادة العلمية) ممثلة بالورق، المداد والحبر، والزخرفة، والغلاف، والحواشي، والتجليد؛ أي العناصر المادية بغض النظر عن المحتوى ودلالاته وقيمته.

ويُعَدّ هذا العلم من العلوم الحديثة، وتنسب بعض الآراء نشأته وتطوره إلى اهتمام المستشرقين بالتراث الإسلامي الذي انعكس على بحوثهم، منقبين في عدد من العلوم، والإرث الذي خلفته الحضارة الإسلامية العربية، وما أورثته الاجيال من عطاء علمي وإنساني. ويرى علماء، المخطوطات، بما تحمل من قيمة، أنها الوعاء الفكري الذي يجمع تراث الشعوب عبر الأجيال.

في كل الدول، يأخذ علم المخطوطات مكانته ضمن أنشطة الأهالي وارتباطهم بموروثاتهم الثقافية والدينية، ويتفاوت العلم بين المجتمعات المتعددة بمدى صلات تلك المجتمعات بالثقافة الإنسانية من وعي، وآثار دين، أو حضارات محلية ووافدة، أو غير ذلك من مكتسبات تعمل الاجيال في تنقيبها، للتحقق والحفاظ عليها كموروث تعتز به، وتورثه للأجيال اللاحقة. ويدلل المهتمون بالعلوم الإنسانية على ظهور وتطور علم المخطوطات بعدد من النماذج.

يقول الدارس لــ "علم المخطوط العربي"، حميدي مليكة: "يُعَدّ اختراع الكتابة أعظم اختراع في تاريخ الإنسانية، لأن ظهور الكتابة هيأ للإنسان إمكان تسجيل المعرفة والأفكار، وبالتالي نقلها إلى الاجيال المقبلة".

ويضيف: "ظهرت أول بوادر الكتابة سنة 5500 قبل الميلاد في الهلال الخصيب، وبالضبط مع حضارة وادي الرافدين. وازدهرت هذه الحضارة وعرفت كتابتها بالمسمارية أو الإسفينية. ومع الحضارة المصرية القديمة، التي تلت حضارة وادي الرافدين، تطورت الكتابه الهيروغليفية لتكوين الكتابات الدينية والمقدسة"، مشيراً إلى أنه "مع مجيء الفينيقيين، سكان لبنان، نحو سنة 1100 قبل الميلاد، كوّنوا حضارة مبنية على التجارة دامت 400 عام، وأسسوا مستوطنات في الحوض المتوسط. لذا، فإن الأبجدية الفينيقية تُعَدّ أول أبجدية عالمية".

هرر.. رابعة المدن الإسلامية

أما فيما يتعلق بالمخطوطات كعلم حديث ومدى اهتمام العالم بها، فيقول عالم المخطوطات الإثيوبي، حسن محمد كاو، وهو أستاذ في جامعة أديس أبابا، إن "علم المخطوطات هو (دراسة المكتوب باليد وغير المطبوع)، ويعرف في اللغة الإنكليزية بـ Codicology، ويشمل دراسة الكتب المخطوطة والكراريس والأسفار القديمة كأشياء مادية، سواء من مادة ورقية أو غيرها، إلى جانب طريقة ترتيب المخطوطة"، مضيفاً أن "اهتمام العالم به يأتي بسبب ما يكشفه من مخلفات إرث انساني تركه السلف للخلَف فيما يحمل من شكل الوثيقة/المخطوطة في مضمون مادتها، فضلاً عما تعبر عنه رموزها وأحرفها وأرقامها وهوامشها ضمن أزمنتها المتعددة".

وشهدت المناطق في الجنوب والشمال الشرقي من إثيوبيا، خلال قرون ماضية، تفاعلات سياسية وثقافية من جراء تداخل نشط بين السكان المحليين والوافدين. ونتيجة ذلك الحراك مثلت منطقة هرر في شرق إثيوبيا رابعة المدن الإسلامية بعد مكة والمدينة المنورة وبيت المقدس، بحيث شهدت توافد عدد من العلماء من الجزيرة العربية ومصر والمغرب العربي، وعرفت حركة علمية نشطة٠

في هذا الشأن، يشير الأستاذ الجامعي، حسن كاو، إلى أن "هرر تتصدر المناطق الإثيوبية قاطبة، بسبب ما تختزنه من مخطوطات نادرة، مثل المصاحف التراثية والمدونات والوثائق العربية ذات القيمة التاريخية والقيمة الإسلامية. وبعد منطقة هرر في الترتيب يأتي إقليم أوروميا، بسبب ما يمثله من بعد ثقافي إسلامي تاريخي هو الآخر في مناطق جما، وأرسي، وبالي، وأجارو، في غربي إثيوبيا".

ويضيف: "أما إقليم أمهرة، الواقع في شمالي إثيوبيا عند الحدود السودانية، فظل على مدى طويل يمثل البيئة النشطة للديانة المسيحية منذ دخول الأخيرة إثيوبيا في القرن الرابع الميلادي. ويحتفظ الإقليم بعدد من المخطوطات الثقافية المسيحية، والتي تعكس تاريخ الديانة ومدوناتها، وخصوصاً ما أفرزته من علوم وتراث وتعاليم مسيحية، ضمنها مخطوطات يحتفظ بها كهنة الكنيسة والجهات الثقافية في الإقليم".

وبشأن اللغة العربية وصلتها بالمخطوطات، يوضح كاو أن "علماء إثيوبيا المسلمين في هرر وغيرها من مناطق متأثرة كانوا يكتبون القرآن الكريم والتفسير والحديث النبوي والمدائح والفقه على الجلود، بخط اليد. وأغلبية ما كُتب باللغة العربية، من آثار محفوظة لدى أفراد ومجموعات، تحتفظ بها المؤسسات الحكومية المهتمة والمسؤولة عن حفظ التراث، مثل وكالة الأرشيف، والمكتبة الوطنية الإثيوبية، والمتاحف الوطنية في أديس أبابا والأقاليم، إلى جانب جامعة أديس أبابا التي تحتفظ حالياً بما لا يقل عن 300 مخطوطة عربية وأعجمية"، موضحاً أن "أغلبية المخطوطات العربية الإسلامية تعود إلى بداية القرن الــ 14 ومنتصفه".

وبشأن أهمية علم المخطوطات في تطور الإنسان، يرى كاو أنها "تكمن فيما تختزنه من تراث تركه السابقون في عدة مجالات، مؤكداً أن "الغرب عندما جمع ثروات الشعوب التي استعمرها اهتم بالمخطوطات كثروات ذات قيمة إنسانية لا تقدَّر بثمن".

إثيوبيا.. تاريخ تعكسه المخطوطات 

من جانبه، يوضح الباحث الإثيوبي، عباس محمد كوركي، أن "تاريخ إثيوبيا العريق انعكس من خلال المخطوطات، وهو يمتد إلى فترات طويلة وتعاقب أزمان متعددة، بحيث كتبت المخطوطات في الأساس باللغة الجعزية، وهي لغة إثيوبية قديمة"، مذكّراً بأن "المخطوطات الإثيوبية الأرثوذكسية تميزت بالزخرفة وببنائها الفريد، واستُخدم فيها نوع من التجليد يتباين عن معظم المخطوطات الأوروبية في العصور الوسطى".

ويضيف: "يقدر الخبراء الأثريون أن ما لا يقل عن 200 ألف مخطوطة تضمها حالياً المكتبات والأراشيف الأرثوذكسية في إثيوبيا، وتحوي النصوص الكتابية وسجلات القداس، والوثائق القانونية، بالاضافة إلى الكتابات التاريخية المحلية. إن هذا الكم يمثل شاهداً على الثقافة المسيحية التي وفدت إلى بلاد الحبشة منذ القدم".

وفي هذا السياق، يشير كتاب "تاريخ إثيوبيا"، للمؤرخ ساهيد اديجوموبي، إلى أن "الفن التقليدي لإثيوبيا المسيحية ظل مجهولاً خارج حدودها حتى زمن قريب، وكان أول ما عرف من الفن التشكيلي المنحوتات الصخرية للحيوانات الموجودة في بعض مناطق الشمال. وأنتج الفنانون الاثيوبيون كماً هائلاً وفريداً من الجداريات الكنسية والمخطوطات والمنمنمات والرسوم على الخشب".

ويتابع: "مع دخول المسيحية في القرن الرابع، كانت الكنيسة هي الموجه إلى تطور الفن الإثيوبي. وعلى الرغم من أن الصور التوضيحية للمخطوطات بدأت في الظهور منذ القرن الــ 14، فإن التطورات التي حدثت بين القرنين الـ15 والـ18، بما فيها وصول الجيزويت (رهبانيات الكنيسة الكاثوليكية)، واكتشاف طرق بحرية جديدة، ساعدت على نمو الفن الإثيوبي".  

وتشير المصادر إلى أن الوثائق الأقدم والأهم في أرشيف المخطوطات الأرثوذكسية الاثيوبية هي الأناجيل الأربعة، التي استخدم في طباعتها 250 جلد خروف، وأعدها الحرفيون الإثيوبيون القدماء لتصبح سطحاً يشابه الورق ليتسنى الكتابة عليها. وكُتب فيها "العهد الجديد" من "الكتاب المقدس"، علماً بأنه على رغم طول الفترة الزمنية، فإن الأسطح الجلدية لا تزال بيضاء كأنها ورق فعلي، وإن اصفرّ بعض أطرافها قليلاً. وتظهر النقوش باللغتين الجعزية والأمهرية التي تزينها، إلى جانب صور بأحبار ملونة لقسيسين، وتبدو هذه المخطوطات، مع ما تحمله من لون وحبر، غير متأثرة كثيراً بعامل الزمن.

كما أن هناك عدداً من المصاحف والمخطوطات العربية، التي اجتهد في كتابتها علماء إثيوبيون، أو جاءت إلى اثيوبيا عبر البحر الاحمر بواسطة عرب وافدين، ولا تزال في حوزة أسر مسلمة تتوارثها من دون الكشف عنها.

حرص حكومي على استعادة المخطوطات المهربة 

تشير الجهات الرسمية إلى أن بعض المخطوطات الاثيوبية تم تهريبه إلى أوروبا، في وقت مبكر من القرن الـ 15، وإلى مصر أو القدس عبر الرحالة والمبشرين والعسكريين والتجار. كما تحفل الأقسام الشرقية في الجامعة الكاثوليكية  في الولايات المتحدة، ومكتبة الكونغرس وجامعة كاليفورنيا، ببعض المخطوطات الإثيوبية المهربة.    

في إطار اهتمامها باستعادة التراث المخطوط وبعد جهود مثمرة، أعلنت إثيوبيا، في كانون الثاني/يناير 2023، استرجاعها عدداً من المخطوطات كانت بحوزة عائلات سويدية كانت تعيش في إثيوبيا خلال حقبتي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.  

ووصفت "هيئة التراث الإثيوبي" المخطوطات المسترجعة بأنها تاريخية. وذكر موقع "الراصد الإثيوبي"، أن "هيئة التراث الإثيوبي نظمت حفلاً في المتحف الوطني في العاصمة أديس أبابا بمناسبة تسلمها المخطوطات الأثرية المسترجعة، ضمت لوحات مصنوعة من الجلد، مكتوباً عليها مزامير اللغة الجئزية القديمة، والتي ترجع إلى القرن الــ 16".

وإلى جانب التراث المتنوع، تخصص وزارة الثقافة الإثيوبية قسماً شاملاً للتراث العربي والإسلامي. كما تحرص على التنقيب عنه واستكشافه في الأقاليم والأماكن التي مر عبرها إلى بلاد الحبشة، فضلاً عن جهود الجهات المختصة بالتراث لصيانة التراثين العربي والإسلامي والحفاظ عليهما. وتقدم وزارة الثقافة الإثيوبية مبادرات تطرق عبرها أبواب الجهات العربية والإسلامية في السفارات والمنظمات لرعايته، في مناطق تيغراي وعفر وهرر وزيلع واروميا وغيرها.