في تسعينه.. محمد الماغوط كان هنا قبل قليل!
حين قرّرت إدارة المقهى إغلاق المكان، بعد جفاف نهر بردى، ظلّ الماغوط يتردّد إليه. إذ كان يُفتح خصيصاً من أجله، بعد أن تبرّع نادل قديم في الحضور يومياً لخدمة الشاعر، ولكنّ جفاف النهر وموت النادل، أصابا الماغوط بصدمة حقيقية.
قبل سنوات من رحيله، أقنعت الشاعر محمد الماغوط (1934- 2006) بإعداد فيلم عن حياته، وكان من شروطه ألا يظهر في الشريط، وبعد مماطلة، وافق على تصوير لقطة واحدة صامتة. فقد كان وقتها يعيش عزلة اضطرارية نتيجة المرض والكآبة واللاجدوى.
وخلال تنقيبي في أرشيفه الضخم الذي كان يضعه في "السقيفة"، اعتقدت أنني وجدت بوصلة الفيلم. ففي إحدى مقابلاته القديمة قال جملة مؤثّرة "لديّ أغنية - كيفك أنت - لفيروز أهم من كلّ شعر البحتري". قلت لنفسي ستكون هذه الأغنية خلفيّة الشريط بأكمله، على أن يكون عنوان الفيلم "محمد الماغوط كان هنا قبل قليل".
بناء على هذه الفكرة، فإن مهمة الكاميرا هي تفقّد الأمكنة التي كان يرتادها الشاعر، فهو الغائب الحاضر طوال مدة الشريط، وبالنسبة لأغنية فيروز ستتكفّل بالموسيقى التصويرية خلال تجوال الكاميرا، بالإضافة إلى بعدها الفلسفي الذي يختزل رؤية محمد الماغوط نفسه في تسجيل بلاغة الحياة اليومية وليس إيقاعها الصارم. فقد كان البحتري على أيّ حال "ينحت في حجر"، أما صاحب "سأخون وطني" فإنه يقف على الضفة الأخرى، متسكعاً في أرصفة المدن، أعزل إلا من قصائده الجارحة والمدهشة.
البوصلة الثانية للشريط جاءت فجأة من عنوان ديوانه الثاني "غرفة بملايين الجدران"، ومسرحيته "العصفور الأحدب"، فهو خلال مطاردته من "المكتب الثاني" في أواخر خمسينيات القرن الماضي، كان يلتجئ في غرفة ضيقة، في أحد أحياء دمشق، وكان عليه أن يحني رأسه كي لا يُصدم بسقف الغرفة الواطئ، وهنا يمكنني أن أتكئ على ما كتبته رفيقة دربه سنية صالح في تقديمها لأعماله الشعرية الكاملة. فهي تصف الغرفة بقولها إنها: "غرفة صغيرة ذات سقف واطئ، حشرت حشراً في خاصرة أحد المباني، بحيث كان على من يعبر عتبتها أن ينحني وكأنه يعبر بوابة ذلك الزمن. سرير قديم، ملاءات صفراء، كنبة زرقاء طويلة سرعان ما هبط مقعدها، ستارة حمراء من مخلّفات مسرح قديم. في هذا المناخ عاش محمد الماغوط أشهر عديدة".
أخيراً وجدنا غرفة بالمواصفات ذاتها في إحدى حارات "باب توما"، وكان المشهد المقترح أن تُوجّه عدسة الكاميرا إلى الرصيف لالتقاط صور أحذية وأقدام متلاطمة، انطلاقاً من جملة شعرية للماغوط يقول فيها "لا شيء يربطني بهذه الأرض سوى الحذاء"، إلى أن تصل عدسة الكاميرا إلى الغرفة، ثم تتحوّل إلى المقاهي التي كان يرتادها الشاعر، وخصوصاً "مقهى أبو شفيق"، و"مقهى الشام".
كان صاحب "الفرح ليس مهنتي" قبل أن يستقرّ في سنواته الأخيرة في "مقهى الشام"، يرتاد مقهى "أبو شفيق" في الربوة على كتف نهر بردى، حيث كان يذهب مشياً على القدمين، ليقطع مسافة 5 كيلو مترات يومياً، ذهاباً وإياباً، وحين قرّرت إدارة المقهى إغلاق المكان، بعد جفاف نهر بردى، ظل الماغوط يتردّد إليه. إذ كان يُفتح خصيصاً من أجله، بعد أن تبرّع نادل قديم في الحضور يومياً لخدمة الشاعر، ولكن جفاف النهر وموت النادل، أصابا الماغوط بصدمة حقيقية، فهو طالما كتب معظم أعماله على طاولة في ركن من هذا المقهى العريق.
بعد محاولات عديدة، أقنعنا ورثة المقهى بافتتاحه مجدداً من أجل تصوير مشهد في المقهى، وكانت فكرة المشهد تتعلّق بتصوير طاولة الشاعر وكرسيّه وهما فارغان، فيما تملأ الكادر صورة بردى الموحل ومقطع من قصيدة للشاعر عن النهر بعنوان "أمير من المطر وحاشية من الغبار"، يقول فيها "لقد وهبه الله كلّ ما يحلم به نهر صغير من الطبقة المتوسطة، الوحل والبعوض والربيع، ولكنه أتى على كل شيء في حقبة واحدة. أروع مطر في التاريخ/أجمل سحب الشرق العالية/بدّدها على الغرغرة وغسل الموتى".
يقترح السيناريو أيضاً زيارة مصوّرة صحافية لمنزل الشاعر لتعزيز مجموعتها الفوتوغرافية بصور خاصة للشاعر، ومقتنياته، بقصد تأسيس موقع على شبكة الإنترنت، يشتمل على آثار الشاعر وقصائده وصور تؤرّخ مسيرته الطويلة. أما اللقطة الشخصية للشاعر فستكون في الصالون حيث يجلس على أريكته الزرقاء، وأمامه طاولته التي تشبه سفينة نوح: أدوية، سجائر، كحول، مبيد حشرات، أقلام، دفاتر، ولّاعات، كتب، وإلى يمينه جهاز الهاتف، وآلة تسجيل، يستمع إليها ليلاً ونهاراً، وهي تبثّ موسيقى وأغاني يحبها، تمتدّ من باخ وموزارت إلى فهد بلان، وعتابا ريفية على الربابة، فيما تتجوّل الكاميرا نحو الجدار المقابل لالتقاط رسوم وتخطيطات ولوحات لفاتح المدرس ونذير نبعة وشلبية إبراهيم، وفي ركن آخر من المكتبة، تطل بحياء صورة لرفيقة دربه الراحلة سنية صالح.
أما "فينال" الشريط فينتهي بلقطة في "مقهى الشام"، آخر مقهى كان يتردّد إليه "البدوي الأحمر"، قبل عزلته الاضطرارية. إذ تقترب الكاميرا من طاولته الأثيرة، لتلتقط صورة لقبعته وعكازه، ثم تنسحب خارج المكان، وتختلط شيئاً فشيئاً بحشود البشر فوق الأرصفة.
ما حدث لاحقاً أن أُجهض الفيلم بعد تصوير مشهدين منه لأسباب غير معلومة!