فوكو و"اعترافات البدن": أجسادنا أداة للسلطة؟
كيف تطوّر فهم الرغبة من النصوص الإغريقية إلى الفكر المسيحي؟ وما دور "جهاز الاعتراف" في تحويل الجسد إلى أداة للسلطة؟ ميشيل فوكو يجيبنا.
يصدح ميشيل فوكو (1926 – 1984)، ذلك الفيلسوف الفرنسي الذي غيّر وجه الفلسفة الغربية في منتصف القرن العشرين، في "اعترافات البدن [اللحم]" بصوته الحادّ، عائداً إلى أزمنة الآباء المسيحيين الأوائل - المؤسسين للكنيسة الأوروبية - ليفكّ شيفرة العلاقة الجدلية بين الجسد وتقنيات الذات. هذه الأخيرة التي انطلقت من اليونان والرومان ثم استلبت في "جهاز الاعتراف" المسيحي.
في المجلد الرابع، الذي ظلّ مخطوطه مخفيّاً في أرشيف دار "غاليمار" في باريس حتى العام 2018، يتتبع فوكو لحظات تأسيس "الاعتراف العلني" و"الاعتراف الداخلي" لدى آباء الكنيسة، ليبرهن أن جسد المذنب ما هو إلا ميدان لصوغ الحقّ وفعل السلطة.
-
غلاف كتاب "اعترافات البدن" لفوكو الصادر عام 2018 عن "دار غاليمار" في باريس
وكان هذا الكتاب الرابع قد وُضِع لدى "غاليمار" عام 1982. غير أنه انتظر أكثر من 3 عقود قبل أن يرى النور، ليكون خاتمة لمسيرة "تاريخ الجنسانية" التي بدأها فوكو بين 1976 و1984، بعد أن تغاضى فوكو عن نشره بعد تردد طويل، ليتركه بين رفوف كتبه التي قرر العودة إليها لاحقاً. إلا أن للموت قراراته التي تسبقنا دائماً، فبقي الكتاب مخبأ في رفوف أرشيف الدار الباريسية التي كشفت عنه بعد سنوات طويلة.
ذلك أن كُتّاباً كثراً لم يُكتب لمؤلفاتهم أن ترى النور إلا بعد موتهم، سواء عن إرادة وتوصية منهم أم بغير إرادة، كأنهم لا يرغبون في الرحيل، أو كأنهم يوقعون تلك الكتب من خلف قبورهم. إنهم بهذا يعودون إلى الحياة ليوقعوا ويصدروا كتبهم التي ظلت رهينة المخطوط والرفوف غير المكشوف عنها.
اللذة المؤطرة
-
يؤكد فوكو أن البابوات الأوائل لم يتخذوا الجنس أو الجسد كنوع من التابوهات
تتقاطع قراءة فوكو لهذا التاريخ التأسيسي للكنيسة وعلاقتها بجسد/لحم/بدن المؤمن عبر نصوص مثل رسالة "في التوبة" لترتوليان (240 – 160 قبل الميلاد)، و"في مهام الرعاة" للقديس أمبروزيوس (ميلان، 339، 397 م.)، حيث تتجلّى طقوس العُري الرمزي والسجود على الركب و"التوسّل أمام الشهود". تلك الطقوس التي ستتحوّل لاحقاً إلى تقنية للمراقبة الرعوية داخل المجتمع المسيحي.
فقد اعتنى فوكو بأراض خصبة ظلت الفلسفة تتجاهل خوض غمارها لزمن طويل. إذ تمحور طرح فوكو في هذا الصدد، وهو يعالج مسألة الجنسانية والاعتراف الجسدي، حول أسئلة أساسية من قبيل: في أي لحظة بالتحديد بدأ التساؤل حول الجنسانية؟ ومتى بدأنا نهتم بالعناية بتطبيقاتها، وتحديد السلوكيات المقبولة وغير المقبولة جنسانياً؟ ولماذا صارت الجنسانية حاملة لرهان الحقيقة للكشف عما نحن عليه؟ وكيف ربطها المفكرون المسيحيون الأوائل بالدين والأخلاق؟
هكذا حاول صاحب "اعترافات البدن" أن يعالج هذه الأسئلة وغيرها داخل نسق فلسفي، متتبعاً الخيط التاريخي لتطور مفهوم الجنسانية، وخاصة في الغرب المسيحي، وذلك عبر تحليل البنية التاريخية التي تمخض عنها هذا المفهوم.
يقفز بنا فوكو إلى هموم النصوص الغربية اليونانية والرومانية في "استعمال اللذات" و"الاهتمام بالذات"، لنرسم مسار انتقال الجنسانية من كونها رغبة خاصّة إلى وصفها فضاءً للحق والسلطة، قبل أن يصل إلى فكر القديس أوغسطينوس (354-430 م.) ويحلل "الرغبة الجنسية" في كتاباته عن الزواج والأزواج والرغبة، حيث تتحول الشهوة من ذنب أصيل إلى حالة باقية في الذات حتى بعد التعميد.
هنا يكشف صاحب "المعرفة والسلطة" العلاقة بين ما يسميه بأركيولوجيا الحاضرة ومنهجية التأريخ الجينيالوجي، وكيف أن نصوصاً لاتينية ويونانية وصوفية توزّعت في أزمنة متباعدة ليعاد تركيبها في سرد واحد عن السلطة والمعرفة وذات الإنسان، مبتدئاً من الآباء المسيحيين ومنتهياً بمؤسسات الطب والكهنوت.
إذ سيقود الأمر إلى أن يعلن أن هؤلاء الآباء المسيحيين الأوائل كانوا أقل تزمتاً من "الوثنيين" والفلاسفة القدامى، حيث أن "تلك الممارسات تجاه الجسد ستنتقل بكيفية معينة إلى الفكر المسيحي والممارسة المسيحية عبر الممارسات الوثنية"، علماً أن الآباء الأوائل كانوا أكثر جرأة في الحديث عن مواضيع عدة مرتبطة بالجنسانية والجنس و"الجسد".
هذا الكتاب الذي لم يُكتب له النشر إلا بعد عقود من وفاة فوكو، يصب في معالجة كيفية نظر أوغسطينوس وباقي الآباء المسيحيين الأوائل إلى "الرغبة" و"اللذة". ذلك أن "نظام aphrodisia [اللذات الشهوانية المؤطرة]، يُحدّد بفعل الزواج، والإنجاب، واحتقار اللذة. كما بفعل علاقة من الود والاحترام والحدة بين الزوجين، وبالتالي فإن فلاسفة ومسؤولين غير مسيحيين هم من قام بتشكيله. إنه المجتمع الـ"وثني" الذي منح الإمكانية لمعرفة قانون موجّه متاح للكل - والذي لا يعني أنه طبعاً كان مطبقاً من الكل، إلى الدرجة التي تنبغي.
منتقداً في ما سبق "النظرية الردعية"، والتي من خلالها ردع المجتمع البورجوازي الرغبة، فقد اختار فوكو أن يظهر، من خلال منظور "جينالوجي"، كيف نمت عند الأسياد الإغريقيين - اللاتينيين ومن ثم المسيحيين الأوائل، طريقة الحياة التي تسمح بالتعبير وبالتحكم - في الآن نفسه - بممارسات الجنس.
وبالتالي، فإن الرؤية المسيحية للجنس، ما هي إلا محاولة ثانية لإعادة تطبيق الرؤية الوثنية الإغريقية للجنسانية والجسد. "فهذه المبادئ - بطريقة معينة - ترسخت في التفكير والممارسة المسيحية، انطلاقاً من الأوساط الوثنية"، كما يقول فوكو.
فقد وضع فلاسفة إغريقيون قواعد للممارسة الجنسية ومحددات للجسد قبل المسيحيين، هذه القواعد ستجد صداها في التفكير المسيحي، عبر التأثر بها بطريقة من الطرق، وستصير ذات طابع قدسي بعدأن تجد لها مسوّغات دينية داخل الكتب المقدسة.
لكن، كما يؤكد فوكو، فإن البابوات الأوائل لم يتخذوا الجنس أو الجسد كنوع من التابوهات، بل كان جزءاً من نقاشاتهم وطروحاتهم. بهذا حاول فوكو أن يضع الإصبع على جذور الأسئلة التي ترهق بال مجتمع اليوم من التحرش والاغتصاب والتعنيف الجسدي والجنسي.
مسرحة الجسد
-
استند فوكو إلى اعتبار الجسد فاعلاً معرفياً وليس مجرد كائن خاضع
طالما همّشت الفلسفة الغربية الكلاسيكية، وحتى الحديثة، الجسد، معتبرة إياه مجرد غلاف للنفس [العقل] أو وعاء للرغبة، مغفلةً كونه فضاءً يتقاطع فيه اللاواعي مع السلطة.
سلط فوكو في رؤية معاصرة، الضوء على هذه "المساحة الرمادية"، التي ظل الجسد حبيسها، حيث يصبح أداة طيّعة تتشكّل عبر اللاهوت، والسلطة، والثقافة. وبتأثر واضح بفلسفة الألماني، فريدريك نيتشه، يعيد فوكو الجسد إلى مركز التفكير، لا كموضوع بيولوجي، إنما كبنية معرفية مشبعة بالضوابط والمحرّمات التي تصوغها مؤسسات المجتمع، بما فيها العيادة والسجن والكنيسة ومؤسسات الرقابة وحتى الأسرة.
استند فوكو، كما سيعمد إلى ذلك الفيلسوف الظاهراتي الفرنسي، موريس ميرلوبونتي، إلى اعتبار الجسد فاعلاً معرفياً وليس مجرد كائن خاضع.
فالجسد لا يعبّر فقط عن الرغبة، بل يحمل وعياً مضمَراً، وذاكرة، وتاريخاً أخلاقياً. ووفق صاحب "العين والعقل" فإن وجودنا رهن أجسادنا، "نحن أجسادنا"، يقول. هنا يصبح الجسد "مسرحاً" تتجلى فيه التوترات بين البراءة الحسية وشدة الرقابة، بعيداً من طقوس اللاهوتية التطهيرية أو أساطير القداسة الوثنية.
في هذا المسرح أيضاً، يعاد تشكيل معنى العلاقة الجسدية خارج حدود القمع والمؤسسة. بذلك يحدد فوكو ما يمكن الاصطلاح عليه بـ"أركيولوجيا الجسد" التي تعيد قراءة البدن لا بوصفه شيئاً طبيعياً أو عضوياً، إنما بوصفه بنية معرفية وتاريخية مشحونة بالدلالات، والمحاطة بالبنى التحتية والفوقية، أو بالبنى الخبيئة بمعنى آخر. هذه المقاربة تعيد إلى الأذهان ما أعلنه نيتشه في كتابه "هكذا تكلم زرادشت"، حين اعتبر الإنسان جسداً قبل أن يكون روحاً أو وعياً، وجعل من الجسد ميداناً تتحكّم فيه السلطة والثقافة عبر رموزها وطقوسها وآلياتها التأديبية.
في هذا الصدد يضيف الفيلسوف، فريديريك غرو، المختص في فكر فوكو والمساهم الفعلي في إخراج الكتاب إلى الوجود، بعداً آخر لهذا التحليل، حين يؤكد أنّ مفهوم "البدن [اللحم]" (la chair) - والذي يتجاوز البعد الفيزيولوجي للجسد - يشير إلى تلك الكثافة الوجودية التي يتداخل فيها الجسدي والروحي، الحسّي والأخلاقي، في تجربة الجنس والعلاقات.
في هذا الإطار، لا يعود الجسد ساحةً للذنب أو محرّكاً للرغبة فقط، إنما يتحول إلى مسرح [جسد] حيوي تتجلى فيه المفارقة بين البراءة الطبيعية للتواصل الجسدي وشراسة أنظمة المراقبة والتقنين الأخلاقي.