لفهم عمق العلاقة بين ترامب ونتنياهو ... ابحثوا عن الملياردير شيلدون أدلسون!
كان شيلدون أدلسون يمثل نموذجا فريداً من رجال المال والسياسة الذين تجاوزوا حدود النشاط الاقتصادي ليصبحوا جزءًا من البنية العميقة للنفوذ الصهيوني داخل الولايات المتحدة.
-
ما علاقة الملياردير شيلدون أدلسون بترامب ونتنياهو؟
يكثر الجدل حول العوامل التي تساهم في تشكيل سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه الكيان الصهيوني، وطبيعة علاقته مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
ويرجع العديد من المحللين مواقف الرئيس ترامب المؤيدة لـ"إسرائيل" إلى دعم الايباك من جهة وتيار المسيحيين المولودين من جديد من جهة أخرى. ويذهب البعض إلى اعتبار أن ما قام به ترامب من ممارسة ضغط على نتنياهو لوقف الحرب لم يكن نابعاً إلا من حرص على الكيان الصهيوني الذي باتت سمعته سلبية جداً على الصعيد الدولي.
لكن بالنسبة إلى دونالد ترامب، الذي يتأثر كثيراً بالبعد الشخصي، فقد يكون أساس هذه المواقف نابعاً من أمور شخصية مرتبطة بترامب، وليست بالضرورة نابعة من عوامل أكثر تجرداً في صياغة سياسات الإدارة الأميركية الحالية. في هذا الإطار، قد يكون الجواب متمثلاً في علاقة ترامب الشخصية مع عائلة إدلسون الشديدة الثراء وذات الميول الصهيونية.
عائلة أدلسون
تعتبر عائلة أدلسون من أغنى العائلات وأكثرها نفوذاً سياسياً في الولايات المتحدة، وهي معروفة بدعمها الكبير للحزب الجمهوري وإسرائيل وبعلاقتها الوثيقة مع دونالد ترامب.
وقد تأسست ثورة العائلة على يد شيلدون أدلسون (1933–2021) الذي كان مليارديراً وصاحب إمبراطورية القمار، وهو مؤسس ورئيس مجلس إدارة شركة "لاس فيغاس ساندز كوربوريشين" التي تدير منتجعات وكازينوهات فاخرة في لاس فيغاس وماكاو وسنغافورة .
ويتحدر شيلدون أدلسون من عائلة يهودية هاجرت من ليتوانيا إلى الولايات المتحدة. وقد نشأ شيلدون في عائلة يهودية فقيرة لكنها متماسكة، تؤمن بقيم العمل الجاد والاقتصاد والتعليم. وقد شكّلت المعاناة المادية في طفولته دافعاً قوياً وراء طموحه التجاري ورغبته في تحقيق الثروة.
عام 1979، أسس شيلدون أدلسون مع شركاء له معرض كومديكس كأول معرض تجاري لصناعة الكومبيوترات. وقد أصبح المعرض في الثمانينيات ومطلع التسعينيات الحدث الأبرز في عالم التكنولوجيا، إذ شاركت فيه شركات كبرى مثل "أي بي أم" و"آبل" و"مايكروسوفت".
وقد باع المعرض عام 1995 لشركة سوفتبانك اليابانية مقابل سعر نصف مليار دولار أميركي، وهو المبلغ الذي استند إليه لبناء ثروته العملاقة، وخصوصاً في مجال السياحة والفنادق، مثل فندق ساندز الذي هدمه وبنى مكانه لاس فيغاس ومنتجع "ذا فينيسيان".
ومن لاس فيغاس، وسع استثماراته باتجاه ماكاو وسنغافورة، حيث بدأ أيضاً بالاستثمار في شركات الذكاء الاصطناعي. وعند وفاته، قدرت ثروته بـ35 مليار دولار .
وقد تزوج شيلدون أدلسون مريام أدلسون، وهي طبيبة إسرائيلية. وبعد وفاة زوجها عام 2021 ورثت معظم ثروته، ما جعلها واحدة من أغنى نساء العالم. وقد اشتهر الزوجان بتأثيرهما الكبير في التمويل السياسي والإعلام والعمل الخيري اليهودي والإسرائيلي.
دعم نتنياهو وترامب
عائلة أدلسون هي من أكبر المتبرعين للحزب الجمهوري، إذ تبرعت بمئات ملايين الدولارات لتمويل الحملات الانتخابية خلال العقد الأخير.
وقد تم تركيز الدعم على دعم سياسات اليمين الإسرائيلي ومعارضة أي تسوية سياسية للبرنامج النووي الإيراني. ولقد كان آل ادلسون من أبرز داعمي حملة ترامب الانتخابية عام 2016، وكذلك حملته للعودة الى البيت الأبيض في العام 2020، كما تبرعوا بعشرات ملايين الدولارات للجان المؤيدة لترامب مثل "أميركا أولاً" واللجنة الوطنية الجمهورية.
هذا الأمر ساهم في التأثير في بعض القرارات التي اتخذها ترامب لمصلحتهم ومصلحة نتنياهو، ومن ضمنها قراره بنقل السفارة الأميركية إلى القدس في العام 2018، وانسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران واعتراف الولايات المتحدة بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل. وتقديراً لدعمهم له، فقد منح ترامب وسام الحرية الرئاسي لعام 2018 لمريام أدلسون، وهو أعلى وسام مدني في الولايات المتحدة.
تمتلك العائلة نفوذاً إعلامياً في كل من "إسرائيل" والولايات المتحدة، ومن ضمنها صحيفة "إسرائيل هيوم" المعروفة بدعمها لنتنياهو، إضافة إلى مراكز أبحاث ومنظمات ضغط تعمل على تعزيز العلاقات الأميركية الإسرائيلية والقيم المحافظة.
وقد واصلت مريام أدلسون أداء دور سياسي مهم في الولايات المتحدة و"إسرائيل" خصوصاً لجهة تمويل الحزب الجمهوري، وأعلنت نيتها الاستمرار في نهج زوجها السياسي في دعم ترامب والمؤيدين له. وتقوم الأرملة أدلسون بتمويل رحلات شبابية الى الكيان الصهيوني تحت شعار "برايت لايت إسرائيل"، كما تقوم بتقديم الدعم المالي للأحزاب اليمينية المتطرفة في الكيان الصهيوني.
شيلدون أدلسون والسياسة الإسرائيلية
كان شيلدون أدلسون يعتبر نفسه صهيونيًا ملتزمًا قبل كل شيء. رغم أنه وُلد في بوسطن، فإنه اعتبر "إسرائيل" وطنه الروحي والسياسي. وكان مؤمنًا بأن على الولايات المتحدة أن تدعم "إسرائيل" دعمًا غير مشروط، وأن أي تسوية سياسية يجب أن تحفظ "حق إسرائيل الكامل في الأرض التاريخية لليهود"، وفق قناعته.
هذا يفسر علاقة الصداقة التي جمعت شيلدون أدلسون ببنيامين نتنياهو منذ تسعينيات القرن العشرين حين كان الأخير لا يزال زعيماً للمعارضة الإسرائيلية. وقد تحوّلت العلاقة إلى تحالف استراتيجي بين الرجلين، إذ رأى أدلسون أن نتنياهو هو الذي سيكون القائد القادر على حماية المشروع الصهيوني والحفاظ على التفوق الإسرائيلي في الشرق الأوسط.
وكان يؤيد مواقف نتنياهو الرافضة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة والمعادية بشدة لإيران وبرنامجها النووي، كما كان يؤيد توسيع الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية
وعند صعود نجم ترامب، بدأ شيلدون أدلسون يتقرب من المرشح الجمهوري في العام 2016 بغية التأثير في قراراته مستقبلاً وجعله يتبنى أجندة نتنياهو في منطقة الشرق الأوسط، والتي من شأنها تعزيز الهيمنة الإسرائيلية الإقليمية. وقد أصبح شيلدون يعرّف في "إسرائيل" على أنه راعي نتنياهو المالي والإعلامي.
دوره الاستخباراتي
على الرغم من أن شلدون أدلسون لم يلتحق رسمياً بأي جهاز استخبارات، فإنه أدى دورًا غير رسمي وفعّالًا في دعم السياسات الأمنية والاستخباراتية لإسرائيل والولايات المتحدة.
وكان يعتبر في الدوائر السياسية الأميركية والإسرائيلية جسراً سرياً بين صانعي القرار السياسي والمؤسسات الأمنية في البلدين، فلقد كان مقرّباً من كبار المسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية البنتاغون، ومن شخصيات نافذة في الحزب الجمهوري ذات صلات بالمجمع الصناعي العسكري الأميركي.
أما في الكيان الصهيوني، فقد كان على علاقة وثيقة بضباط متقاعدين من الموساد والشاباك، إضافة إلى مستشارين أمنيين لنتنياهو. وقد دعم مراكز أبحاث أمنية إسرائيلية مثل مركز بيغن–السادات للدراسات الاستراتيجية.
وقد ساهم أدلسون في تمويل العديد من المشاريع والبرامج البحثية التي ترتبط مباشرة أو غير مباشرة بـ"الأمن القومي الإسرائيلي"، من ضمنها مراكز دراسات أمنية تُعنى بالردع النووي ومواجهة التهديدات الإيرانية وبرامج تكنولوجية لتطوير الذكاء الاصطناعي في مجالات المراقبة والتحليل الاستخباراتي، ما جعل الباحثين يعتبرونه "الذراع المالية للّوبي الأمني الإسرائيلي في واشنطن"، وهذا ما جعله يؤدي دورًا بارزًا في تعزيز التحالف الأمني بين واشنطن وتل أبيب، وخصوصًا خلال عهد ترامب الأول والثاني.
ومن أبرز برامج التعاون التي صرف أدلسون عليها بسخاء برنامج توسيع التعاون بين وكالة الأمن القومي الأميركية والموساد الإسرائيلي في قضايا تتعلق بمكافحة أنشطة حزب الله وإيران في الشرق الأوسط، وتأمين تمويل سياسي لمشروعات الدفاع الصاروخي المشتركة، مثل القبة الحديدية ومقلاع داوود، ودعم اتفاقيات التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل في إطار اتفاقيات أبراهام التي اعتبرها خطوة استراتيجية لتطويق إيران أمنيًا وفتح قنوات تعاون استخباراتي بين إسرائيل ودول الخليج العربية.
وقد عرف عن أدلسون انتقاده الشديد لأوساط الاستخبارات الإسرائيلية التي كانت تعارض سياسات نتنياهو؛ فقد دعم إعلاميًا، عبر صحيفة "إسرائيل هيوم"، حملات تشكك في ولاء بعض القيادات الأمنية السابقة التي انتقدت اليمين الإسرائيلي، مثل رئيس الشاباك السابق يوفال ديسكين ورئيس الموساد الأسبق مائير داغان ورئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك، معتبراً أنها كانت تمثل توجهات يسارية يمكن أن تضعف موقف إسرائيل في مواجهة إيران وحزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية.
أما في واشنطن، كانت علاقات أدلسون تتقاطع مع دوائر المحافظين الجدد الذين أدوا دورًا رئيسيًا في صياغة السياسات الأمنية الأميركية بعد 11 سبتمبر 2001، وساهم بالتخفيف من حدة عداء هذا الفريق لترامب، مقنعاً إياهم بإمكانية احتوائه عوضاً عن الصدام معه.
وقد دعم مراكز فكرية، مثل مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات ومعهد المشروع الأميركي، وهما من أبرز المراكز التي تروج لسياسات متشددة تجاه إيران وروسيا والصين. كذلك، قدم تمويلاً غير مباشر لمشروعات تحليل استخباراتي خاصة تُعنى بمراقبة نشاطات إيران في الخليج والبحر الأحمر، وساهم في تقريب رجال أعمال أميركيين من شركات الأمن الإسرائيلية المتقدمة، ما عزز التكامل الصناعي الأمني بين الولايات المتحدة و"إسرائيل".
من اللافت الدور الكبير لأدلسون في دفع "إسرائيل" للتحول إلى قوة عالمية في مجال الأمن السيبراني والحروب عبر استخدام وسائل الذكاء الاصطناعي، والتي استفادت منها في مواجهاتها الأخيرة مع حركة المقاومة الفلسطينية ومع حزب الله في لبنان، وحتى خلال توجيه ضربة إلى إيران في حزيران/يونيو 2025، فقد موّل أدلسون، خلال مؤسساته الخاصة، برامج تدريبية لتقنيات الدفاع الإلكتروني في جامعات إسرائيلية مثل جامعة "تل أبيب" ومعهد التخنيون، وشجع الاستثمار في شركات ناشئة إسرائيلية تعمل في مجالات التجسس الرقمي ومكافحة الهجمات الإلكترونية، وكان يرى أن حروب المستقبل ستكون حروب معلومات، ما جعله يعتبر أن على إسرائيل أن تتفوق فيها مثلما تفوقت في الحروب التقليدية. وقد ساهمت استثماراته العابرة للحدود في إقامة علاقات تكنولوجية وثيقة بين إسرائيل والشركات الصينية.
لقد كان شيلدون أدلسون يمثل نموذجاً فريداً من رجال المال والسياسة الذين تجاوزوا حدود النشاط الاقتصادي ليصبحوا جزءًا من البنية العميقة للنفوذ الصهيوني داخل الولايات المتحدة، وهو لم يكن مجرد داعم لإسرائيل بالمال، بل أحد الفاعلين الأساسيين في صياغة البيئة السياسية والإعلامية والأمنية التي عززت ارتباط واشنطن بتل أبيب.
ولقد كان أدلسون يرى أن مصالح الولايات المتحدة و"إسرائيل" واحدة لا تنفصل، وأن أي تصدع في هذا التحالف يشكل خطرًا استراتيجيًا على المشروع الصهيوني وعلى النظام الغربي برمته.
من هنا، سعى إلى إعادة هندسة السياسة الأميركية من الداخل عبر ثلاثة محاور رئيسية، أولها المحور المالي، وذلك عبر تمويل الحملات الانتخابية التي اشترى من خلالها ولاء طبقة سياسية محافظة تتبنى رؤية موحدة مع اليمين الإسرائيلي.
أما المحور الثاني، فقد كان المحور الإعلامي، وذلك عبر تمويل وسائل إعلام إسرائيلية وأميركية بغية دعم الرؤية السياسية لنتنياهو لإسرائيل ودورها في منطقة الشرق الأوسط. أما المحور الثالث، فتمثل في تمويل مراكز أبحاث وشركات سيبرانية تعمل في مجال الذكاء الاصطناعي لضمان تفوق "إسرائيل" في هذا المجال. وقد تجلى دوره في التطورات التي حصلت خلال العامين الماضيين رغم وفاته قبل هذه التطورات.