صنعا حضارة.. أين دجلة والفرات اليوم؟

على ضفافهما طُورت الزراعة، واختُرعَ المحراث والعربة، ثم ابتكرت الكتابة والمدينة.. ما قصة دجلة والفرات؟ وأين أصبحا اليوم؟

من جبالِ طوروس ينحدرُ خطّان لامعان مثل شعاعين يقطعان مساحاتٍ شاسعة من المدن والقرى، ثمّ يتعانقان قبل أن يصبّا في شط العرب، إنهما نهرا دجلة والفرات، بدء التاريخ العراقي الغابر وحاضره المهدد بالجفاف مرة وبالفيضان مرة أخرى.

شيّدت بفضلهما الحضارات وبنيت القصور وأقيمت الليالي، أنشد الشعراء ونادم المحبون وتغنى المغنون على لوعة الأسى وتلهف اللقاء:

على شواطي دجلة مر

يا منيتي بوقت الفجر.

على ضفاف هذين النهرينِ إذن طُورت الزراعة، اختُرعَ الدولاب والمحراث والعربة، ثم ابتكرت الكتابة والمدينة، الاختراعان اللذان غيّرا وجهَ العالمِ القديم إضافةً لما تمَ تأليفه من قصائد وملاحم وأساطير مازال المؤرخون والباحثون يحاولون فكّ ألغازها.

حفلت جغرافية وادي الرافدين بالكثير من الأنشطة الاجتماعية والثقافية، فنشأت حضارات على ضفتي نهر دجلة والفرات.

فها هو المؤرخ الفرنسي جان بوتيرو (1914 - 2007) الذي قضى 50 عاماً من عمره وهو يدرس أسرار تلك الأرض المستندة إلى نهرينِ ليقررَ:

يا أرض سومر أيتها الأرض العظيمة 

أرضٌ لا نهاية لها

يا واهبة القوةِ للشعوبِ كلها

من الشرقِ إلى الغرب.

فوق نهري دجلة والفرات التمعَ القصب والطين فظهرت أول الصفحات المكتوبة وعدده ا500 صفحة في أوروك حوالى العام 3200 قبل الميلاد وهذا ما يبتهج به الشاعر والصحافي عبد الرزاق الربيعي ضمن الاستطلاع الذي أجرته "الميادين الثقافية"، إذ يقول إنه: "ليس الماء مصدر الحياة فقط، بل هو مصدر من مصادر التاريخ، إذ حفلت جغرافية وادي الرافدين بالكثير من الأنشطة الاجتماعية والثقافية، فنشأت حضارات على ضفتي نهر دجلة والفرات. تلك الحضارات التي كتبت سطور التاريخ على هذه الضفاف، وانعكست أشكال الحياة على الآداب والفنون الرافدينية، فجاءت صورة معبّرة عن الأسئلة الأولى التي شغلت الإنسانَ الذي عاشَ على تلك الضفاف، كما قرأنا في ملحمة غلغامش الخالدة".

للأنهار زوبعة أيضاً

وفّرَ دجلة والفرات من خصب واستقرار في المعيشة فصارت للماء مكانة مقدسة في حياة العراقيين القدامى. إذ اعتقد السومريون أن السماء والأرض ولدا من البحر، واتخذ السومريون من الإناء الفوّار شعاراً لهم.

ساعد النهران مع روافدهما بتطوير صناعة السفن أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، لكنّ الملاحة لم تكن آمنة بالكامل فكانت هناك نصوص قديمة تردد مخاطرها بفعل شدة انحدار النهرين وسرعة جريانهما.

وبقدر ما كان للنهرين مباهج، إذ جعلا العراق القديم مكتفياً من الناحية الاقتصادية، كانت لهما أخطار مثل الاستعمارات العديدة التي تعرضت لها بلاد السواد والحروب الدموية بين القبائل القديمة، إضافة إلى الفيضانات التي كانت تهدد حياة العراقي دوماً بين فترة وأخرى، قبل أن تخفف وسائل الري والجسور والسدود من وطأتها حتى اصطلح الأدب العراقي عبارة "زوبعة الفيضان" للتعبير عن خطر مدمر.

هذا ما يؤكّده صاحب ديوان "جنائز معلقة"، إذ يقول "تركت الفيضانات أثراً واضحاً على مجمل أنشطة الحياة في وادي الرافدين، فالمياه قد تتحول في لحظة إلى مارد جبار ووحش كاسر، لتهجم على المدن الآمنة، وتجرف معها ما تصادفه في طريقها، لتخلف ندوباً على نفوس سكان ذلك الوادي، ظهر على شكل أغان حزينة، ونصوص شعرية، وحكايات، حتى أن الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي يفخر بأنه "إبن الفراتين" وصف الفرات بــ "الطاغي" في قصيدة له، ولكنه طغيان يضاعف من جماله".

بقدر ما كان للنهرين مباهج، كانت لهما أخطار مثل الاستعمارات العديدة التي تعرضت لها البلاد، إضافة إلى الفيضانات التي كانت تهدد حياة العراقي دوماً بين فترة وأخرى، حتى اصطلح الأدب العراقي عبارة "زوبعة الفيضان" للتعبير عن خطر مدمر.

من جهته، يرى الباحث والمؤرخ خزعل الماجدي أن:"العراق كان مكاناً للخصوبة والزراعة والريّ بسبب نهريه الخالدين، دجلة والفرات، ومنهما جاءت تسميته"وادي الرافدين" و"بلاد النهرين". وكان هناك نهر ثالث هو شط العرب، إضافة إلى روافد كثيرة للأنهار الكبرى، فضلاً عن البحيرات والأهوار".

ويضيف في تصريح لــ "الميادين الثقافية" قائلاً: "في هذه البيئة المائية الزراعية ظهرت حضارات العراق القديم. أربع من هذه الحضارة مركزها وقلبها في العراق وعلى أرضه وهي الحضارة السومرية والأكدية والبابلية والحضارة الآشورية، وأربع أخريات يشترك فيها العراق من أراضي بلدان مجاورة في احتضانها وهي الحضارات الآمورية والعيلامية والحورية والآرامية".

ويتابع المتخصص في علم الأديان والحضارات القديمة إن: "الخيال السومري نسج صوراً عن الآلهة التي تسيطر وتحرك كل مظاهر وأشكال الطبيعة، وكان يشغله بالدرجة الأساس الصراع بين الماء والهواء، فالماء الذي هو أصل الحياة تمثله بالإله (إنكي) الذي يعني إسمه "سيد الأرض"، حيث الماء أكبر من اليابسة التي أسماها (كي) وهي إلهة الأرض وزوجته. وكانا يمثلان الخير والزراعة والخلق ثم أصبح (إنكي) إلهاً للحضارة ونواميسها وللفنون والثقافة والبناء والعمران".

دجلة والفرات في خطر

منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 والبلد يكابد حرباً من نوع آخر تتمثل بانخفاض معدلات إيرادات نهري دجلة والفرات إلى النصف عن معدلاتها الطبيعية خلال الأعوام السابقة.

ويشهد العراق تراجعاً كبيراً في منسوب مياه نهري دجلة والفرات، خاصة في المحافظات الجنوبية، الأمر الذي دفع المنظمات الحقوقية والنقابات إلى التحذير من الآثار السلبية الضخمة على القطاع الزراعي واحتمال توقّف بعض محطّات مياه الشرب في تلك المحافظات، حتى صار يخيل للبعض عراقاً من دون نهرين بالرغم من بشاعة المشهد ومأساويته.

جفاف أنهار العراق، يا لها من عبارة مرعبة إذن، لكن ما الآلية لمنع حدوث ذلك؟ ما هي البدائل إذا حلّت الكارثة قريباً؟

حول هذه الأسئلة يجيبنا الدكتور عبد اللطيف رشيد، وهو وزير الموارد المائية في العراق بين الأعوام 2003 و2010.

يرى رشيد أن جملة جفاف أنهار العراق "عبارة مرعبة"، مشيراً إلى أن "آليات المواجهة غير متوافرة بشكل كافٍ حالياً"، ولذلك "نحتاج في العراق إلى دراسات وقرارات وقدرة على التنفيذ لمنع تأثير الجفاف".

رشيد: نحتاج إلى سياسة واضحة للتوصل إلى تقاسم عادل للمياه ووضع اتفاقيات تلزم بكشف الخطط التشغيلية بمعلومات حقيقية ودقيقة لكل دولة، حتى يتمكن العراق من اتخاذ احتياطاته وتنظيم إدارته للمياه.

وفيما يؤكد وجود بعض الدراسات والقرارات لكنه يعتبرها"غير كافية وغير مفعلة، لذلك نحتاج إلى دراسات أكثر عمقاً عن كميات المياه التي نحتاجها والمتغيرات التي طرأت على مجاري الأنهار والبحيرات التي تأخذ المياه من دجلة والفرات، وكيفية الاستفادة من الأهوار والمياه الجوفية".

ويضيف رشيد: "تزداد الحاجة إلى المياه في العراق نظراً للزيادة السكانية والتوسع في الاستهلاك وأنماط العيش، وفي الوقت نفسه هناك تغيرات مناخية تؤدي إلى تراجع كميات المياه المتوافرة، ولذلك تلجأ هذه الدول إلى بناء سدود وخزانات وهذا يؤثر سلباً على العراق، سواء في كمية أو نوعية المياه وكذلك في توقيتات زيادة وخفض المناسيب. لذلك نحتاج إلى سياسة واضحة للتفاهم مع هذه الدول للتوصل إلى تقاسم عادل للمياه ووضع اتفاقيات تلزم بكشف الخطط التشغيلية بمعلومات حقيقية ودقيقة لكل دولة، حتى يتمكن العراق من اتخاذ احتياطاته وتنظيم إدارته للمياه".

وبشأن الحلول لأزمة الجفاف يقول وزير الموارد المائية الأسبق: "توجد خطوات وإجراءات كثيرة لمواجهة الجفاف أو للتعامل معه، منها إنشاء إدارة متخصصة للمياه، مستقلة وقوية لها صلاحية التواصل مع دول الجوار التي تنبع منها الأنهار لمعرفة خططها التشغيلية والتوصل إلى تفاهمات بشأن إدارة المياه، وهذه الإدارة المنشودة عليها منع الهدر وتحديد المساحات المسموح بزراعتها وقد تتدخل في تغيير أنواع المحاصيل المزروعة، ووقف الإنشاء العشوائي لبحيرات الأسماك وعمليات الاستيلاء على المياه من دون ترخيص، وكذلك منع الحفر العشوائي للآبار، ومراقبة نوعية المياه في البحيرات والأنهر وحمايتها من التلوث، إضافة إلى تحسين شبكة الري واعتماد طرق حديثة في الإرواء لتقليل كميات المياه التي نحتاجها في الزراعة".