صناعة سويسرية: القصة غير المروية لنجاح سويسرا

تبلغ قيمة صادرات الساعة السويسرية 18 مليار فرنك سويسري، مما يجعلها ثالث أهمّ قطاع للتصدير بعد القطاع الصيدلي وقطاع الآليات.

  • صناعة سويسرية: القصة غير المروية لنجاح سويسرا
    صناعة سويسرية: القصة غير المروية لنجاح سويسرا

يقول الرئيس الفخري للمركز الوطني للبحوث الاقتصادية كبير المستشارين الاقتصاديين سابقاً في عهد ريغن والأستاذ في جامعة هارفارد البروفيسور مارتن فيلدشتاين: لقد حقّقت سويسرا معدلات متدنيّة من التضخّم المالي والبطالة،ومستوى معيشة مرتفعاً من دون أن تكون لها حكومة مركزية موسّعة. وكلّ من يريد أن يعرف كيف استطاع السويسريون تحقيق هذه الإنجازات الباهرة عليه بقراءة هذا الكتاب.

عندما يبدأ القارئ في قراءة هذا الكتاب لا بدّ أنه يشعر بالغصّة الحارقة في روحه، ويقول في سرّه الدفين ما هذا البلد؟ وكيف حقّق كلّ هذا النجاح الدؤوب على مستوى العالم، في وقت تتوفّر فيها كلّ مقوّمات التطوّر لبلد ما ولا يحظى بشيء إلا بالدمار والدمار على المستوى البشري والمستوى الجغرافي.

سويسرا بلد صغير، بلد يفتقر إلى الموارد الطبيعية، وفيه مساحات شاسعة من الأراضي غير الصالحة للزراعة، ولا توجد فيه المياه بكميات وفيرة للاستخدام المنزلي أو الصناعي كالثلج والجليد للاستجمام أو كمصدر للطاقة. وبالرغم من أنّ سويسرا تقع في وسط أوروبا، إلا أنّ طبيعتها الجبلية بقيت لمئات السنين تشكّل تحدّياً مستمراً في مجال النقل والمواصلات، إضافة إلى أنّ البلد ليس له رابط مباشر مع محيطات العالم. وهذا ما يمثّل عائقاً هاماً بالمقارنة مع البلدان الأخرى التي حقّقت حضوراً عالمياً وبسطت نفوذها الإمبريالي وجمعت الثروات من الاستعمار. وعلى العكس، فإنّ وسائل النقل عبر ممرات جبال الألب أكسبت سويسرا مكانة استراتيجية مرموقة بين أكبر المناطق التجارية في شمال أوروبا وجنوبها. وننوّه إلى أنّ سويسرا كانت في القرون الوسطى مجتمعاً فقيراً يعيش في بيئة جبلية مقفرة، وكانت صادراتها الرئيسية تقتصر على الجنود الذين كانوا يقاتلون بصفتهم مرتزقة في حروب شعوب أخرى، وعادة ما كانت العائلات تعاني من عوز مدقع يدفعها إلى إرسال أطفالها للعمل مثل العبيد في منازل الأثرياء في ألمانيا وأماكن أخرى. أما سويسرا الحديثة اليوم فهي مجتمع مزدهر ويتمتع بقدر أكبر من المرونة، وسهولة التكيّف في مواجهة الصدمات والمؤثّرات الخارجية.

أهمّ سمة تميّز سويسرا هي الانفتاح، فالعديد من الشخصيات الديناميكية التي رسمت معالم الماركات التجارية العالمية الشهيرة كانت قد وفدت إلى سويسرا من بلدان أخرى هرباً من الاضطهاد، وفي بعض الأحيان من الفقر. نذكر على سبيل المثال هاينريج نستلة المولود في فرانكفورت والذي غيّر اسمه لاحقاً إلى هنري، كان لاجئاً سياسياً من أصول ألمانية،  وكذلك جوليوس ماجي الذي كان ابناً لمهاجرين إيطاليين. إضافة إلى مثال آخر يتعلّق بالهاجينوت الفرنسيين الذين فرّوا من الاضطهاد الديني للويس الرابع عشر، والذين يرجع إليهم الفضل بصناعة الساعات. وكذلك عندما جاء شارل براون الذي تعاون مع فالتر بوفيري الألماني الأصل لتكوين شركة براون بوفيري للهندسة. وسيزار سيرونو الإيطالي الذي قام بتأسيس ثالث أكبر شركة أدوية، وتاديوس رايخشتاين البولندي الذي طوّر الفيتامين "C" الاصطناعي لشركة هوفمان لاروش كان قد درس في معهد التكنولوجيا متعدّدة الاختصاصات في مدينة زيورخ.

سمات النجاح على المستوى الفردي: 

 من المفارقات المثيرة أنّ عدداً من أبرز رجالات الأعمال في سويسرا لم يكونوا من أصول سويسرية بتاتاً، ويعود جزء كبير من نجاحها إلى نجاح المهاجرين الذين لولا وجودهم لما كانت الصناعة السويسرية على ما هي عليه الآن، فهنري نستلة كان لاجئاً سياسياً من أصول ألمانية، وبراون بوفيري كان من المملكة المتحدة، ونيكولا حايك "رجل سواتش" جاء من لبنان. أما زينوافيدوف فكان يهودياً من روسيا، وليوشتيرنباخ مخترع دواء الفاليوم ومنقذ شركة روش كان لاجئاً من بولندا، وكان بيترو بيتاريلي إيطالياً يجمع البول من مراحيض الراهبات لاستخراج هرمونات الخصوبة لعلاج النساء، وبعد جيلين بات حفيده أغنى مواطن سويسري. 

وما يثير الدهشة أيضاً أنّ عدداً من رجال الأعمال السويسريين حقّقوا نجاحات خارج البلاد، فكان ريتز أول من قام بتصدير الخبرة السويسرية في مجال إدارة الفنادق ووضع معايير الفخامة التي بقيت قائمة حتى بعد رحيله. وكذلك لويس شيفروليه الذي شارك بتأسيس شركة شيفروليه للسيارات وبيتر فوزر شغل منصب المدير التنفيذي لأكبر شركة طاقة في العالم هي رويال داتش شيل. وأمثله كثيرة وكثيرة ليس بمقدورنا ذكرها جميعاً، لكننا نقول بأنّ تدفّق الطاقات الفكرية والتجارية الخارقة بالاتجاهين (من سويسرا وإليها)، قد أدّى ـــــ ولا يزال ـــــ دوراً كبيراً في القوة الصناعية الفريدة التي تتميّز بها سويسرا. إنّ ما يقارب ثلث سكان سويسرا المقيمين هم من أصول أجنبية، كما أنّ نحو 700 ألف مواطن سويسري، أي 10 في المئة من مجموع السكان تقريباً يعيشون في الخارج. وبالرغم من ذلك لم يكن لبعض المفكّرين المهاجرين أمثال أينشتاين، وإيراسموس، وروسو، وتروتسكي الذين عاشوا في سويسرا أن تكون وجهات نظرهم ومواهبهم موضع تقدير.

على صعيد المؤسسات التجارية:

ما زال نظام التعليم يخصّص مكانة محورية للتدريب المهني إلى جانب التعليم العالي، ومهما كانت المهنة متواضعة فإنّ أصحابها يلقون الاحترام، وبذلك يفخرون بأنفسهم ويشعرون بالكرامة في الأعمال التي يؤدّونها، والأكثر أهمية من ذلك هو أنّ المدرّسين يحصلون على أجور جيدة ويحظون بمكانة مرموقة في المجتمع، وغالباً ما يتلقّى الطلاب دروسهم على أيدي أساتذة ذوي قدرات وكفاءات عالية يتميّزون بالحماس والاندفاع  في أداء وظيفة وصفها يوهان بيسالوزي ـــــ وهو مصلح سويسري في مجال التعليم ـــــ بأنها: "مهنة من اختيار الرب". كلّ هذا شجّع وسهّل نشوء طبقة وسطى كبيرة ومتعلّمة تتعايش بأمان.

السويسريون يهيمنون على صناعة الساعات 

تبلغ قيمة صادرات الساعة السويسرية 18 مليار فرنك سويسري، مما يجعلها ثالث أهمّ قطاع للتصدير بعد القطاع الصيدلي وقطاع الآليات، حيث يحتفظ صانعو الساعات السويسرية بميزة تفوّق على مستوى التكامل الراسي في عملية الإنتاج، ذلك أنهم يصنعون بأنفسهم آليات الحركة الميكانيكية لساعاتهم بدلاً من شرائها من الغير، ويعود الفضل في نجاح صناعة الساعات إلى عاملين أساسيين: الأول هو قدرة صانعي الساعات السويسرية على كسب حصص كبيرة في أسواق يرتادها متابعو صيحات الموضة، والثاني هو الطلب على الساعات الميكانيكية الفاخرة.

السياحة السويسرية 

على الرغم من أنّ سويسرا ليس لديها نفط، ولا فحم، ولا معادن ثمينة، ولا ألماس، وأغلب أراضيها غير صالحة للزراعة، كما أنّ جزءاً كبيراً من البلاد تغطيه الثلوج طوال أشهر عديدة في السنة، فما كان منها إلا أن استثمرت في الإنسان. إضافة إلى ذلك تتميّز سويسرا بوجود جبال الألب "السلسة الجبيلة الكبيرة". ففي عام 1692 نشر جون دينس ـــــ وهو إنكليزي الأصل ـــــ كتاباً روى فيه قصة عبور جبال الألب، وفي أواخر القرن الثامن عشر، بدأ الكتّاب والفنانون الذين حدّدوا معالم الثورة الرومانسية يحتفون بما يسمّى "السامي" وباتت المناطق الجبلية الوعرة تعتبر وسيلة من شأنها أن تسمو بالروح. وليس من قبيل الصدفة أنّ عدداً من الثوّار المثقّفين قد صبّوا اهتمامهم على سويسرا، فعلى سبيل المثال كان اللورد بايرون وشيلي وماري جوردين مؤلّفة رواية فرانكشتاين مقيمين في جنيف في عام 1816، كما أنّ فنانين آخرين مثل جاسبار دافيد فريدريك وتيرنر كانا قد تجوّلا عبر أنحاء سويسرا كافة في العقد الأول من القرن التاسع عشر، وقد هيأ مثل هؤلاء الفنانين والمثقّفين الظروف الثقافية التي جعلت لاحقاً من طبيعة سويسرا الجغرافية عنصراً أساسياً في مخيّلة الأوروبيين، حتى أصبحت سويسرا شبه هاجس يمثّل رمزاً للصفات الأخلاقية أو حتى العلاجية.

كان البريطانيون من الطبقة العليا هم أول المغامرين الذين قدموا إلى سويسرا للسياحة في العقد الأخير من القرن الثامن عشر نتيجة للتطوّرات السياسية آنذاك، وباتوا يتوافدون بأعداد كبيرة في إثر معركة واترلو، وكان ذلك بفضل زعماء الحركة الرومانسية مثل اللورد بايرون. في عام 1895 صدر في بريطانيا دليل سياحي بعنوان "موسمان سياحيان في سويسرا" يعدّد محاسن فصل الشتاء في جبال الألب، وكان نجاحه دليلاً على أنّ سويسرا تؤسّس لنفسها بسرعة مكانة رائدة في العالم، وبحلول عام 1912  كانت طاقة استيعاب الفنادق 211 ألف سرير.

 وأخيراً، ماذا نروي عن سويسرا، البلد الآمن الذي يستوعب الأيديولوجيات المتعارضة، ففي عام 1988 وقّعت اليونان وتركيا إعلان دافوس الرامي إلى تجنّب الحرب بين البلدين، كما أنّ المنتدى الاقتصادي العالمي كان المنبر الذي تحدّث عنه بيل كلينتون للمرة الأولى عن" الرأسمالية الخلّاقة" مؤكّداً ضرورة معالجة مسألة عدم المساواة العالمية، وفي الوقت نفسه السعي لتحقيق الربح. في الحقيقة كتاب رائع يدعوك لأن تكون متيقظاً وسعيداً بكلّ سطر تقرأه، لأنه ينبض بمعلَم من معالم سويسرا الواسعة في كلّ قطاعات الحياة من الطب والصيدلة والسياحة إلى الثقافة والفنّ ولجمال والأمان والاقتصاد واحترام الإنسان. 

ينطوي هذا الكتاب الفخم على ستمئة صفحة ونيف تتوزّع على خمسة عشر فصلاً. كلّ فصل هو بمثابة كتاب يروي تاريخاً بدءاً من صناعة الساعات، إلى السياحة السويسرية، إلى الحديث عن تجار سويسرا الصامتين وأرباح الحسابات المصرفية التي لا تحصى، روائع التكنولوجيا الطبية، قطاع الأدوية، إلى وسائل النقل السويسرية، وملاط البناء، صناعة الغزل والنسيج، وصناعة الحليب، أجهزة الكومبيوتر العملاقة حتى فأرة الحاسوب، وإنجازاتها في مجال الفن والهندسة المعمارية، وأخيراً الشركات متعدّدة الجنسيات. 

اخترنا لك